|
||||||||||||||||||
الحَـديث الرابـع
وَالثَـلاثـون " المؤمن " [
611 ] بالسَّند
المتَّصل إلى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب
الكلينيِّ - قدِّسَ سِرُّه- عن عدَّة من
أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن
إسماعيل بن مهران، عن أبي سعيد القمّاط،
عن أبان بن تَغْلِبَ، عَن أبي جعفر عليه
السّلام قال: " لَمّا أُسْرِيَ
بِالنَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم
قالَ: يا رَبِّ ما حالُ الْمُؤْمِنِ
عِنْدَكَ؟ قالَ: يا مُحَمَّدُ، مَنْ أهان
لي وَلِيّاً فَقَدْ بارَزَني
بِالْمُحَارَبَةِ، وَأنَا أسْرَعُ
شَيْءٍ إلى نُصْرَةِ أوليائي، وَما
تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أنَا فاعِلُهُ
كَتَرَدُّدي في وفَاةِ الْمُؤْمِنِ،
يَكْرَهُ الموت وأكرهُ مَساءتَهُ.
وَإنَّ مِنْ عِبادِيَ الْمُؤْمِنينَ
مَنْ لا يُصْلِحُهُ إلاّ الْغِنى،
وَلَوْ صَرَفْتُهُ إلى غَيْرِ ذلِكَ
لَهَلـَكَ، وَإنَّ مِنْ عِبادِيَ
الْمُؤْمِنينَ مَنْ لا يُصْلِحُهُ إلاَّ
الْفَقْرُ، وَلَوْ صَرَفْتُهُ إلى غير
ذلِكَ لَهَلَكَ. وَمَا يَتَقَرَّبُ
إلَيَّ عَبْدٌ مِنْ عِبادي بِشَيْءٍ
أحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ
عَلَيْهِ، وَإنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ
بِالنافِلَةِ حَتّى أحِبَّهُ، فإذا
أحْبَبْتُه كُنْتُ إذاً سَمْعَهُ الَّذي
يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذي
يُبْصِرُ بِهِ ولسانه الّذي ينطق بِهِ
وَيَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِها، إنْ
دَعاني أَجَبْتُـهُ، وَإنْ سَأَلَني
أعْطَيْتُهُ "(1) ـــــــــــــــ (1) أصول
الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر،
باب من آذى المسلمين، ح 8. [
612 ] " أُسْرِيَ ":
فعل مجهول ومعناه، السير في الليل. قال
الجوهري:"سَرَيْتُ سُرىً وَمَسْرىً
وَأسْرَيْتَ بمعنى إذا سِرْتَ لَيْلاً،
وبالألِفِ لُغَةُ أهل الحجاز انتهى "
فبناءً على أن الإسراء هو السير في
الليل، يكون تقييده بالليل في الآية
الشريفة (سُبْحانَ الَّذِي أسْرى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً)(1) لأجل إفهام الناس
بأن فترة الإسراء كانت قصيرة مع أن
المسافة بين المسجد الحرام والمسجد
الأقصى تستغرق أربعين يوماً مشياً على
الأقدام كما قاله الشيخ البهائي. وذلك
إما بواسطة تنكير " لَيْلاً ". وإما
من جهة تجريد(الليل) من الألف واللام. و" أُسْرِيَ
بِالنَّبِيّ " لقد حذفت بقية الأمور
المرتبطة بالإسراء، لمعروفيتها
ومعهوديتها فالمعنى: أُسْريَ بِه إلى
مَقامِ الْقُرْبِ، مثلاً. قوله: " ما حالُ
الْمُؤْمِنِ؟ " معناه ما هو شأن المؤمن
وما هي منزلته؟ قوله: " مَنْ
أهانَ لي وَلِيّاً " إن أهانه: بمعنى
اسْتَخَفَّ بِهِ، واسْتَهانَ بِهِ
وَتَهاوَن فِيهِ: أي اسْتَحْقَرَهُ.
يُقَالُ: رَجُلٌ فيه مَهانَةٌ أيْ ذُلٌّ
وَضَعْفٌ. والظاهر إن حرف الجار في كلمة -
لي - يمكن أن يكون متعلقاً بفعل " أهان
" ، وعليه تكون إهانة المؤمن لإيمانه
بالـلّه، ولأجل الحق المتعالي. ويمكن أن
يتعلق بالـ "وليّ " وعليه يكون
المقصود هو إهانة المؤمن بأي هدف كان. ـــــــــــــــ (1) سورة
الإسراء، آية: 1. [
613 ] والـ(وَلِيّ) معناه
المحب. قوله: " بارَزَني
" بَرَزَ الرَّجُلُ يَبْرُزُ بُروزاً:
أيْ خَرَجَ. والمقصود هنا من المبارزة
بالمحاربة هو الخروج للحرب أو إظهاره. قوله: "
مَساءَتَهُ " مصدر ميمي من ساءهُ أي
أكرهه. قوله: " إنَّ مِنْ عِبادي مَنْ
لاَ يُصْلِحُهُ إلاَّ الْغِنى " قال
الشيخ المحقق البهـائي رحمه الله: (الصناعة
النحوية تقتضي أن يكون الموصول اسم إن
والجار والمجرور خبرها، لكن لا يخفى أنه
ليس الغرض الإخبار عن أن الذي لا يصلحه
إلا الفقر بعض العباد، بل الغرض العكس.
فالأولى أن يجعل الظرف اسم إن والموصول
خبرها، وهذا وإن كان خلاف ما هو المتعارف
بين القوم لكن جوّز بعضهم مثله في قوله
تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)(1).انتهى
كلامه.(2). ولعل المبتدأ يكون
محذوفاً في أمثال هذه الموارد، ويكون
داّلاً على حذف الجار، ولا يكون مثل هذا
الحذف مخالفاً للقواعد النحوية. ونقل عن
صاحب الكشاف (أن الجار والمجرور مبتدأ
على معنى وبعض الناس أو بعض منهم من اتصف
بما ذكر فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف
ولا إستبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه
مبتدءاً)(3) ولكن لا نحتاج إلى التأويل
بناءاً على ما ذكرنا. واعلم أن ذكر هذه
الجملة (إنَّ مِنْ عِبادِي مَنْ لا
يُصْلِحُهُ إلاّ الْغِني) في هـذا
المقام، لأجل إزالة الالتباس، والإجابة
على السؤال الذي يمكن أن يطرح من قبل
الناس الذين لا يعرفون النظام الأتم،
والقضاء الإلهي المكنون، وهو أن المؤمن
إذا كان مقرّباً إلى ساحة الحق تعالى
بدرجة تكون إهانته، محاربة لله سبحانه
فلماذا يبتلي بالفقر والحاجة؟ وإذا لم
تكن الدنيا ذات قدر وشأن فلماذا يصبح بعض
منهم فيها أغنياء وأثريـاء؟ فأجاب الحق
سبحانه بأن الحالات النفسية لعبادي
مختلفة، ـــــــــــــــ (1) سورة
البقرة، آية: (2) مرآة
العقول، المجلد 10، ص387. (3) مرآة
العقول، المجلد 10، ص388. [
614 ] وقلوبهم متغايرة،
فبعضهم لا يصير صالحاً إلا في ظروف البؤس
والفقر، فأُفقره حتى تصلح أحواله. وبعضهم
يحتاج إلى الغِنى والثروة حتى يتحول إلى
مؤمن صالح، فأُغنيهم، وهاتان الحالتان
من كرامة المؤمن وعزّة جاهه في ساحة قدس
الحق تبارك وتعالى. قوله " وَمَا
يَتَقَرَّبُ إلَيَّ عَبْدٌ مِنْ
عِبادِيِ - الخ " إن ذكر هذه الجملة
والجملة التالية لها بيان لمقام قرب
المؤمنين الكُمّلين. فأنّ الله بيّن
للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم،
أحوال المؤمنين، مبتدئً ومختتماً على
هذا النحو بأن ذكر إجمالاً حال المؤمنين
بصورة مطلقة قائلاً(مَنْ أهانَهُمْ
فَقَدْ بارَزَنِي بِالْمُحارَبَة) ثم
يقسم المؤمنين إلى طائفتين بل إلى ثلاث
طوائف عند أهل المعرفة. إحداهما المؤمنون
بشكل عام حيث يتكلم الحديث عنهم في جملة
"ما تَرَدَّدْتُ في أمْـرٍ "حتى
قوله " ما يَتَقَرَّبُ إلَيَّ " .
والدليل على أن هذا الشطر من الحديث يكون
فيهم، هو أنهم يكرهون الموت وأن الغنى
والفقر يعبثان بقلوبهم، وهاتان
الخاصيتان لا تعودان إلى الكملين من
المؤمنين، وإنما ترجعان إلى المتعارف من
أهل الإيمان. وعليه لا يرد اعتراض(1) على
ظاهر هذا الحديث القائل بأن المؤمن يكره
الموت، المتضارب مع الأحاديث الشريفة
الأخرى الظاهرة في أن المؤمن الخالص لا
يكره الموت، حتى نحتاج إلى الجواب الذي
نقله الشيخ المحقق البهائي عن الشيخ
الشهيد رضوان الله تعالى عليهما. فمن
يرغب في معرفة الجواب فليراجع كتاب"الأربعون
حديثاً"للشيخ البهائي.(2) ثانيتهما:
المؤمنون الكمّلون وقد تحدّث عنهم
الحديث المذكور من قوله ـــــــــــــــ (1) و(2) تعرض
الشيخ البهائي رحمه الله لهذا الموضوع
عند تفسيره للحديث الخامس والثلاثين من
كتابه الأربعين قال:- وهم وتنبيه قد يتوهم
المنافاة بين ما دلّ عليه هذا وأمثاله من
أن المؤمن الخالص يكره الموت، ويرغب في
الحياة وبين ما ورد عن النبي صلى الله
عليه وآله، من أحب لقاء الله أحب الله
لقاؤهُ، ومن كره لقاء الله كره الله
لقاؤهُ، فإنه يدل بظاهره على أن المؤمن
الحقيقي لا يكره الموت بل يرغب فيه، كما
نقل عن أمير المؤمنين أنه كان يقول: إن
ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي
أمه، وأنه قال حين ضربه ابن ملجم فزت ورب
الكعبة، وقد أجاب عنه شيخنا الشهيد طاب
ثراه في الذكرى فقال: إن حب لقاء الله غير
مقيد بوقت، فحمل على حال الاحتضار
ومعانيه وما يحب، كما روينا عن الصادق
عليه السلام.(المترجم). [
615 ] "ما يَتَقَرَّبُ
إلَيَّ عَبْدٌ... " إلى آخر الحديث. وقد
قسم أهل المعرفة هذا الشطر من الحديث إلى
طائفتين: أحداهما المؤمنون الذين
يتقربون إلى الله بالفرائض. والأخرى:
المؤمنون الذين يتقربون إلى الله
بالنوافل (1) وقد أشار ذيل الحديث إلى مقام
المؤمنين، ونتائج قربهم. ونحن بعون الله
سنأتي على ذكر مقام كلتا الطائفتين بصورة
مختصرة. قوله: " يَبْطِشُ
" يقول الجوهري: الْبَطْشَةُ:
السَّطْوَةُ وَالأخْذُ بِالْعُنْفِ،
وَقَدْ بَطَشَ بِهِ يَبْطشُ وَيَبْطُشُ
بَطْشاً. وقد أريد من هذه الكلمة هنا مطلق
الأخذ بل الاستعمال المتعارف لهذه
الكلمة حسب الظاهر، الأعم من الأخذ
بالعنف أو اللين. قال الشيخ
المحقق البهائي برَّد الله مضجعه هذا
الحديث صحيح السند وهو من الأحاديث
المشهورة بين الخاصة والعامة. وقد رووه
في صحاحهم بأدنى تغيير(2). وذكر رحمه الله
في هامش كتاب الأربعين أن علي بن ابراهيم
من " المجموعة " الواقعة في السند،
وعليه تكون الرواية صحيحة. وقد روى
العامة هذا الحديث بطريق صحيح. ويعتبر
هذا الحديث من الأحاديث المشهورة المتفق
عليها لدى أهل الإسلام. انتهى. في بيان التوجيهات
المذكورة في نسبة التردّد والتحير إلى
الحق المتعالي إننا
قد بينا لدى شرح بعض الأحاديث السابقة،
موضوع إهانة المؤمنين، فلا ضرورة في
تكراره هنا. فننتقل إلى شرح بعض الجمل
الأخرى. إعلم أن العلماء قد
وقفوا أمام نسبة التردد إلى الحق
المتعالي الواردة في هذا الحديث الشريف
وكذلك أمام ما ورد في أحاديث صحيحة بل في
الكتاب الحكيم ـــــــــــــــ (1) مرآة
العقول، المجلد 10 ـ وهو أن النوافل جمع
نافلة وهي الأعمال الغير واجبة مما يفعل
لوجه الله سبحانه وأما تخصيصها بالصلوات
المندوبة فعرف طارئ. (2) المرجع
السابق في ص613. [
616 ] الإلهي من نسبة
أمور أخرى إليه سبحانه مثل البداء
والامتحان، إن العلماء قد وقفوا أمام هذه
النسب إلى الحق سبحانه وبدءوا بالتوجيه
والتأويل، كل على ضوء مسلكه. وقد أبدى
الشيخ الأجل البهائي رضوان الله تعالى
عليه في كتاب" الأربعين " احتمالات
ثلاثة، نشير إليها على نحو الإيجاز
والاختصار: الأوّل: إن في
الكلام إضماراً والتقدير لو جاز عليّ
التردد ما تردّدت في شيءٍ كتردّدي في
وفاة المؤمن. الثاني: أنه لمّا
جرت العادة بأن يتردّد الشخص في مساءة من
يحترمه ويوقّره كالصديق الوفي، والخلّ
الصفي وأن لا يتردد في مساءة من ليس له
عنده قَدَرَ ولا حرمة كالعدو والحيّة
والعقرب، بل إذا خطر بالبال مساءته
أوقعها من غير تردد ولا تأمل، صحّ أن
يعبرّ بالتردّد والتأمل في مساءة الشيء
عن توقيره واحترامه وبعدمها عن إذلاله
واحتقاره فقوله سبحانه ما ترددت في شيء
أنا فاعله كترددي في وفاة المؤمن المراد
به والله أعلم: ليس لشيء من مخلوقاتي عندي
قدر وحرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته
فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية. الثالث: أنه قد ورد
في الحديث من طرق الخاصة والعامة أن الله
سبحانه يُظهر للعبد المؤمن عند الاحتضار
من اللطف والكرامة والبشارة بالجنة ما
يزيل عنه كراهة الموت، ويوجب رغبته في
الانتقال إلى دار القرار، فيقل تأذّيه به
ويصير راضياً بنزوله، راغباً في حصوله،
فأشبهت هذه الحالة معاملة من يريد أن
يؤلم حبيبه ألماً يتعقبّه نفع عظيم فهو
يتردد في أنه كيف يوصل ذلك الألم إليه على
وجه يقل تأذيه به، فلا يزال يظهر له ما
يرّغبه فيما يتعقبه من اللذة الجسمية
والراحة العظيمة إلى أن يتلقاه بالقبول،
ويعده من الغنائم المؤدية إلى إدراك
المأمول)(1) انتهى. توجيه
عرفاني
وأما مسلك الحكماء
والعرفاء في هذا الموضوع وأمثاله،
فيختلف عن المذاهب الأخرى. ونحن لأجل
صعوبة فهم مسلك الحكماء والعرفاء، لا
نسترسل ـــــــــــــــ (1) مرآة
العقول، المجلد 10، ص 384. [
617 ] في هذا الحديث عن
ذلك ولا نذكر مقاماته، وإنما نعرض ما هو
قريب على الاستيعاب والادراك وموافق
للذوق. فنقول: لا بد من معرفة أن
جميع مراتب الوجود، من منتهى قمة عالم
الملكوت وذروة عالم الجبروت إلى أسفل
السافلين من عالم الظلمات والهيولى تكون
مظاهر جمال الحق سبحانه وجلاله، ومراتب
تجليات الرب عز وجل، وإن جميع الكائنات
غير مستقلة في ذاتها، وإنما هي تعلق صرف،
وربط محض، وعين الفقر والتدلّي بالذات
المقدس الحـق، وإن الموجودات كافة
مسخرات بأمر الحق، ومطيعات للأوامر
الإلهية. كما أن الآيات القرآنية التي
أشارت إلى ذلك كثيرة. قال تعالى: (وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ
اللَّهَ رَمَى)(1).إن هذا الإثبات
والنفي ـ وما رميت إذ رميت ـ إشارة إلى
مقام الأمر بين الأمرين، بمعنى أنك رميت،
وفي نفس الوقت أنك لم ترم بقدرتك
المستقلة، بل إنما حصل الرمي بواسطة ظهور
قدرة الحق في مرآتك، ونفوذ قدرته في عالم
مُلكك وملكوتك. فإذن أنت تكون رامياً،
وفي نفس اللحظة يكون الحق جلّ وعلا
رامياً. وتضاهي تلك الآية
المجيدة، الآيات الشريفة المذكورة في
سورة الكهف المباركة عند بيان قصة الخضر
وموسى عليهما السّلام: (أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ
يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ
أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ
مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ
غَصْبًا ،وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ
أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا
أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا ، فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا
مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا،
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ
لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي
الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ
لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ
صَبْرًا)(2). فإن النبي الخضر عليه
السّلام كشف أسرار عمله لموسى ونسب مورد
العمل الناقص والمعيب إلى نفسه قائلاً
" فَأردتُ أنْ أعِيبَها" وفي مورد
آخر، مورد الكمال نسب العمل إلى الحق
سبحانه " فَأرَادَ ربّك أنْ يَبْلُغا
" وفي مورد ثالث نسب العمل إلى الطرفين
قائلاً " فَأَردْنَا أنْ يُبْدِلَهُما
رَبَّهُما " وكل ذلك يكون صحيحاً. ومن
أمثال الآيات المباركات قول الله تعالى
حيث يقول : (اللَّهُ
يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ ـــــــــــــــ (1) سورة
الانفال، آية: 17. (2) سورة
الكهف، آية: 79 ـ 82. [
618 ] حِينَ
مَوْتِهَا)(1). مع أن ملك الموت هو المسئول عن
توفي النفوس. وقوله تعالى: (يُضِلُّ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء)(2).
فالله تعالى هو الهادي والمضل. مع أن
جبرائيل يكون هادياً، والرسول الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم يكون هادياً (إِنَّمَا
أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(3).
وإن الشيطان يكون مضلاً. وهكذا النفحة
الإلهية من صور إسرافيل إلى نفس النفخة
الإسرافيلية حيث توجد التعددية - نفحة
آلهية ونفحة إسرافيلية - من جهة
والاشتراك والوحدة من جهة أخرى حيث أن
الجميع منه وإليه. فمن منظار لا يكون
كلّ من إسرافيل وعزرائيل وجبرائيل ومحمد
صلّى الله عليه وآله وسلم وكافّة
الأنبياء وكلّ من هو في دار التحقق، شيئا
- وهذا هو منظار الوحدة - فلا ينسب إليهم
أمراً، في مقابل مُلك المَلِك بشكل
مطلقٍ، ومقابل إرادة الحق النافذة، إن
جميع الأشياء مظاهر قدرة الحق وإرادته (وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي
الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ)(4). ومن منظار آخر وهو
منظار الكثرة والانتباه إلى الأسباب
والمسبّبات، تكون جميع الأسباب صحيحة
وذات دور فاعل، ويكون النظام الكوني
الأتم قائماً على أساس نظم وتنسيق بين
الأسباب والمسببات، بحيث لو تعطل سببٍ
وواسطة في تسلسل الأسباب والوسائط في هذا
الكون لتوقفت عجلة الوجود، وإذا لم يرتبط
الحادث بالقديم، عبر الوسائط والأسباب
المقررة، في مظانّها - خاصة كتب العرفاء
الشامخين وكتب صدر الحكماء والفلاسفة
وأفضل الحكماء الإسلاميين من كتب
الفلاسفة - أدرك هذا المشرب الإيماني
العذب، وأدخله في مقام قلبه، لانفتحت
عليه هذه الأبواب، ولعرف بأن هذه
النِسَبَ صحيحةٌ وحقيقة ولا يخامره
التسامح والمجاز نهائياً لدى دراساته
الدقيقة العرفانية. ـــــــــــــــ (1) سورة
الزمر، آية: 42. (2) سورة
النمل، آية: 93. (3) سورة
الرعد، آية: 7. (4) سورة
الزخرف، آية: 84. [
619 ] وعندما يرى بعض
الملائكة الموكلين بنفوس المؤمنين وبقبض
أرواحهم المقدسة، مقام المؤمنين لدى
محضر الحق المقدس المتعالي، ويرون من
جانب آخر أن المؤمنين يكرهون الموت،
انتابتهم حالة من التزلزل والتردد. وقد
نسب سبحانه هذه الحال إلى نفسه(وَما
تَرَدَّدتُ فِي شَيءٍ أنا فَاعُلُه
كَتَردَّدي فِي وَفاةِ الْمُؤمِنِ). كما
نسب إلى نفسه التوفي، والهداية والإضلال.
وَكما أن تلك النسب إلى الحق المتعالي
صحيحة على مسلك العرفاء، تكون نسبة
التردّد إليه عزّ وجلّ أيضاً صحيحة. ولكن استيعاب هذا
المشرب يحتاج إلى قريحة حسنة ولطيفة،
وذوق سليم واللهُ العالمُ الهادي. ولا يخفى ـ هذا
الأمر الهام وهو: ـ أنه لما كانت حقيقة
الوجود عين حقيقة الكمال وعين التمام،
وإن النقائص والعيوب لا تنسب إلى الحق
المتعالي، ولا تكون مجعولة لـه ـ كما
تقرر بالبرهان في محله ـ فكلما كان الفيض
أقرب إلى أفق الكمال وأبعد من الفتور
والضعف، كان ارتباطه بالحق أتم، ونسبته
إلى الذات المقدس أولى. وعلى العكس كلما
كانت ظلمات التعيّن والأَعدام أكثر،
والقيود والحدود أوفر، كان الارتباط
بالله أوهى، والانتساب إليه سبحانه أبعد. ومن هنا نرى بأن
الشرع المجيد - القرآن والسنة - كثيراً ما
ينسب الفـعل الإبداعي - الغيبي المجرد -
إلى الحق، في حين أن نسبة الأفعال
المتجددة المُلكية- المادية الطبيعية -
إلى الحق المتعالي فيه قليلة. فإذا فرّقت عيون
ثاقبة، وقلوب يقظة، بين الكامل والناقص
والحسن والقبيح، والجميل والبشع،
استطاعت أن تفهم حينذاك، رغم أن كل ما في
عالم التحقق، تجلِّ فعلي للحق سبحانه،
ومرتبط به، بأن كافة أعماله جميلة وكاملة
ولا علاقة للنقائص والعيوب بذاته المقدس.
وأما ما هو الشائع على ألسنة الحكماء
رضوان الله تعالى عليهم- من إسناد النقص
إلى الله - فهو انتساب بالعرض، حيث تروج
مثل هذه النسبة المجازية العرضية في
بداية التعليم وفي الفلسفة الشائعة بين
المتعلمين. [
620 ] وفي هذا المستوى من
العلم أخطاء والتباس يكون من الأولى غض
الطرف عنها. والمقصود من بيان
هذا الأمر الأساسي المهم هو: أولاً: تفنيد
الكلمات الفاسدة التي يمكن أن تعترض على
المقام من قبل جاهل عارٍ عن المعارف
الإلهية. ثانياً: بيان أن
نسبة هذا التردد والترجّح للدوافع
والحوافز، الحاصل لدى بعض الملكوتيين،
إلى الحق سبحانه يكون أتمّاً، من نسبة
الأمور الطبيعية التي تحدث في هذا العالم
إليه سبحانه. وثالثاً: أن على
الإنسان العارف بالحقائق، أن يحدّد جهة
الكمال والنقص، في هذا التردد، وترجح
الدواعي، فينسب الكمال إلى الحق، ويسلب
عنه النقص. في بيان توجيه آخر عن حديث
التردد وفي هذا المقام
توجيه آخر لهذا الحديث الشريف الذي ينسب
التردد إلى الحق المتعالي، قد خطر على
فكري القاصر في سالف الأيام وهو: إن العباد إما أن
يكونوا عرفاء وأولياء لله، وينخرطوا لدى
سيرهم إلى الله، في سلك أصحاب القلوب،
فيكونون مجذوبين للحق، وتوّاقين لجماله
الذي لا مثيل له ومستقبلين ذاته المقدس
في كل تطلعاتهم وآمالهم ولا يلتفتون إلى
غيره سبحانه من العوالـم، بل لا يفكرون
في أنفسهم وكمالاتهم. وأما ينغمرون في
زخارف الدنيا ويغوصون في ظلمات حبّ الجاه
والمال وتكون قلوبهم متجهة نحو الأنانية
والإنية من دون أن يعبأوا بالعالم
الأقدس، ويأبهوا بالملكوت الأعلى وهم
الملحدون في أسماء الله. والطائفة الثالثة
من المؤمنين هم الذين ينتبهون إلى العالم
الأرفع نتيجة نور إيمانهم، ويكرهون
الموت لإِلتفاتهم إلى هذا العالم. وقد
عبّر الله سبحانه عن هذا التجاذب بين
المُلك والملكوت، والغيب والمادة
والآخرة والدنيا، بالتردّد، ومن [
621 ] المعلوم أن التردد
قائم بطرفي القضية. فكأنه يقول: لا يوجد
في أي كائن من الموجودات هذا التجاذب بين
المُلك والملكوت، بمثل ما هو موجود لدى
العبد المؤمن فمن ناحية يكره الموت، لأنه
قد وجّه وجهه إلى عالم الملك والدنيا،
ومن ناحية أخرى تشدّه الجاذبة الإلهية
نحوها، لإيصاله إلى كماله. فالحق
المتعالي يكره إساءته التي تساوي بقاؤه
في عالم الطبيعة ويكره المؤمن الموت. وأما الناس
الآخرون فلا يكونون كذلك، حيث لا يكون
لأولياء الله الانجذاب نحو عالم المُلك
والطبيعة، ولا يكون للمنغمسين في الدنيا
الانجذاب نحو عالم الملكوت والغيب. وتكون نسبة هذا
التجاذب والتردد إلى الحق سبحانه على
أساس ما ذكرناه في الوجه السابق - قبل هذا
التتميم -. وللمحقق الكبير
والسيد الجليل المير محمد باقر داماد
وتلميذه محمد بن ابراهيم المعروف بصدر
المتألهين أبحاث دقيقة يوجب ذكرها
التفصيل والإطالة. في بيان أن الحق المتعالي
يُصلح أحوال المؤمنين بالفقر والغناء
وغيرهما يفهم من هذا الحديث
الشريف القائل: "وَإنَّ
مِنْ عِبادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لا
يُصْلحُهُ إلاّ الْغِنى وَلَوْ
صَرَفْتُهُ إلى غَيْر ذلِكَ لَهَلَكَ،
وَإنَّ مِنْ عِبادِي الْمُؤْمِنِينَ
مَنْ لا يُصْلِحُه إلاّ الْفَقَرَ
وَلَوْ صَرَفْتُه إلى غَيْرِ ذلِكَ
لَهَلِكَ" إن كل ما يوفره الحق
سبحانه للمؤمنين من الغنى والفقر،
والصحة والمرض والأمن والاضطراب وغير
ذلك، فهو لأجل إصلاح المؤمنين وصيرورة
قلوبهم لله سبحانه. ولا يتنافى هذا
الحديث الشريف مع الأحاديث الأخرى
الكثيرة الواردة في باب شدّة ابتلاء
المؤمنين بالأسقام والأوجاع والفقر
والفاقة وكافة البلايا. لأن الحق
المتعالي نتيجة لرحمته الواسعة وفضله
العميم، يعامل كل إنسان حسب وضعه وظروفه
حتى يكون الإنسان بعيداً من الدنيا.
مَثَلَهَ في ذلك مَثل الطبيب الذي يعالج
مرضاه لإبعادهم عما لا يكون صالحاً لهم. فقد يعطي لأحد
ثروة، وفي الوقت نفسه يصيبه ببلايا أخر
حسب شدة إيمانه [
622 ] وضعفه، كماله
ونقصه، بل أن ثروته وغناه تحفّ بمصائب
ومحن تصرفه عن الدنيا وحبّها. إن تكوين
هذا الشخص يكون على شاكلة، لو كان فقيراً
لأصبح من الهالكين بصورة دائمة، لأنه يرى
السعادة في المال والجاه، وأَنَّ أهل
الدنيا هم السعداء فيتوجه إلى الدنيا
وينهمك فيها، ولكنه لو تمكن من الدنيا،
المحفوفة بالمكاره والآلام الخارجية
والداخلية لانصرف عنها. كان يقول أحد
مشايخنا العظام: يحسب الإنسان أن في تعدد
الزوجات دخولاً في الدنيا ورغبة فيها، في
حين أن من الإبداع الفريد هو أن الإنسان
عندما يدخل ويبتلي بها يخرج منها وينصرف
عنها. فإذن قد يصيب الله
المؤمنين بالفقر، لإصلاحهم ولإبعادهم عن
الدنيا مع أنه سبحانه يسلّيهم ويهوّن
عليهم الفقر، وقد يُغْدِقُ عليهم الثراء
والغنى ويتراءى للآخرين بأن الأثرياء في
رفاه ورغد وبهجة وراحة، ولكنهم يعيشون في
محن وصعوبات وضيق. ولا منافاة في أن يكون
أجر الفقراء المسلمين عند الحق المتعالي
أكثر أيضاً. كما نفهم من الروايات. وقد
ذكرنا نبذة من هذا الموضوع في شرح حديث من
الأحاديث السابقة. في بيان أن الفرائض
والنوافل تُقرّب الإنسان من الله وآثار ذلك حسب رأي أهل
السلوك والعرفان اعلم أن للسالك إلى
الله، والمهاجر من بيت النفس المظلم، إلى
الكعبة الحقيقية، سفراً روحانياً
وسلوكاً عرفانياً، حيث يكون مبدأ هذه
الرحلة بيت النفس والأنانية، ومنازل هذه
الرحلة مراتب التعيّنات الآفاقية
والأنفسية والمُلكية والملكوتية التي
عبر عنها بالحجب النورانية والظلمانية"إنَّ
لِلّه سَبْعينَ ألْفَ حِجَابً مِنْ
نُورً وَظُلْمَةٍ"أي أنوار الوجود،
وظلمات التعين أو أنوار الملكوت وظلمات
المُلك أو الظُلمة الناتجة عن التعلقات
النفسية والأنوار الطاهرة الباعثة عن
التعلّقات القلبية. وقد يعبّر عن سبعين
ألف حجاب من نور وظلمة، بحجب سبعة بصورة
مضغوطة كما ورد عن الأئمة الأطهار عليهم
السّلام في التكبيرات الافتتاحية السبعة
للصلاة [
623 ] والتي تخرق كل
تكبيرة حجاباً. وورد في السجود على
التربة الحسينيّة المطهّرة، خرق للحجب
السبع.(1) يقول العارف المشهور عطار
النيسابوري: بيت شعر: جاب عطار مدن
العشق السبعة * * * ولا نزال نحن في منعطف
زقاق واحد وعُبّر عن الحجب
السبعة في الإنسان الصغير باللطائف
السبعة. وقد يخفضون عدد الحجب إلى ثلاث
حجب كلية ويصطلحون عليها في عالم الآفاق،
بالعوالم الثلاث. وفي عالم الأنفس
بالمراتب الثلاثة. وقد يعبّر عن الحجب
على أساس الحدود المتوسطة بألف منزل
معروف لدى السالكين. وبمائة منزل حسب
اعتبار آخر. وبعشرة منازل على ضوء اعتبار
ثالث. وقرّر الشيخ العارف الكامل الشاه
آبادي دام ظله لكل منزل من منازل
السائرين المائة، بيوتاً عشرة ببيان
بديع فيصير المجموع ألف بيت. وإن إبراهيم
خليل الرحمن عليه السّلام قد أوجز ذلك
السفر الروحاني نحو الحق المتعالي الذي
يقصه القرآن بمنازل ثلاثة: أحدهما الكوكب
والآخر القمر والثالث الشمس. وعلى أي حال إن
مبدأ السفر الروحاني إلى الله سبحانه هو
بيت النفس المظلم. ومنازل هذه الرحلة،
المراتب الآفاقية والمراحل الأنفسية.
ونهاية هذا السفر الذات الحق المقدس حيث
يكون للإنسان الكامل في المرحلة الأولى
الذات مع جميع الصفات والأسمـاء. وفي
المرحلة الأخيرة الذات مضمحلاً فيه
الأسماء والصفات. ولغير الإنسان الكامل
الذات المقدس مع اسم وصفة وتعيّن من
الأسماء والصفات والتعيّنات. وبعد أن يطأ
الإنسان السالك برِجْلِهِ على هامة
إنيته وأنانيته، ويغادر البيت المظلم
ويتجاوز المنازل ومراحل التعينات عند
بحثه عن المقصد الأصلي وطلبه لله سبحانه
ويطأ بقدميه على رأس كل ذلك، ويخرق الحجب
الظلمانية والنورانية ويقطع آماله من كل
الموجودات والكائنات، ويحطم الأصنام من
كعبة قلبه بيد قدرة ولايته، وتغيب
الكواكب والأقمار والشموس من أفق قلبه
ويغدو قلبه إلهياً ذا وجه ـــــــــــــــ (1) عن أبي عبد
الله الصادق عليه السّلام أنه قال: إن
السجود على تربة أبي عبد الله عليه
السّلام يخرق الحجب السبع(المترجم) وسائل
الشيعة، المجلد 3، باب 16 من أبواب ما يسجد
عليه، ح 3. [
624 ] واحدة من دون أن
يعكر صفوها التعلق بالغير، ويبلغ مستوى (إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض)(1). ويفنى
في الأسماء والذات والأفعال. وبعد هذه
المراحل التي يجتازها، ينسلخ عن نفسه
ويحصل له المحو الكلي وتظهر له حالة
الصعـق، ويصير الحق المتعالي فيه
فعّالاً. حيث يسمع بسمع الحق ويبصر بعين
الحق ويبطش بيد قدرة الحق وينطق بلسان
الحق، ويرى الحق ولا يرى غيره، ويتكلم
بالحق دون غيره فيكون تجاه غير الحق أعمى
وأصم وأبكم وتجاه الحق بصيراً وسميعاً
وناطقاً. ولا يحصل هذا
المقام إلا مع الجذب الربوبي وجذوة نار
العشق، حيث يتقرّب بها إلى الحق بصورة
مستمرة، ويُسْعف بواسطة الجذبة الربوبية
التي تحصل إثر حبّ الذات المقدس، حتى لا
ينزلق في وادي الحيرة، ولا يبتلي
بالشطحات وغيرها التي تكون من رواسب
الأنانية. وقد أشير إلى هذين الأمرين في
قوله "وَإنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ
بِالنّافِلَةِ حَتّى أُحِبَّهُ". فإن تقرّب العبد
إلى الله من آثار جذوة العشق. وأن الجذبة
الإلهية للحق سبحانه من نتائج الحب: إذا لم تكن
جذبة من طرف المعشوق * * * لما أفلحت مساعي
العاشق المسكين فيوجب التقرب
بالنوافل، الفناء الكلي والاضمحلال
المطلق والانصهار التام وتكون نتيجته
"كُنْتُ سَمْعَهُ الّذِي يَسْمَعُ
بِهِ - إلخ" وبعد هذا الفناء التام،
والمحو الكلي، والمحق المطلق، والصعق
التام، قد تشمله العناية الأزلية ويرجع
إليه وعيه، ويعيده إلى عالمه ويعتريه
الصحو، وتحصل له حال الأنس والطمأنينة،
وتنكشف له سُبُحات الجمال والجلال، وفي
هذه الحال من الصحو تتجلى في مرآة الذات،
الصفات وفيها تنكشف الأعيان الثابتة
ولوازمها، ويكون وضع أهل السلوك في هذا
المقام مثل المقام الأول في أن عينه
الثابتة، تفنى في الاسم الذي تتبعه،
وتبقى معه وينكشف عليه حين الصحو الاسم
نفسه والعين الثابتة التابعة لذلك الاسم. ـــــــــــــــ (1) سورة
الأنعام، آية: 79. [
625 ] إذن تنكشف عن
الإنسان الكامل، المنطوي تحت الاسم
الجامع الأعظم، مطلق الأعيان الثابتة مع
لوازمها أزلاً وأبداً، وتنكشف له حالات
الكائنات واستعداداتها، وكيفية سلوكها
وطريقة وصولها وتليق به زينة الخاتمية
والنبوة الخاتمة اللتان تكوّنتا نتيجة
الكشف المطلق، وتنكشف على بقية الأنبياء
كل حسب مظهريته لإسم من الأسماء الإلهية،
وحسب إحاطة وسعة ذلك الاسم، تنكشف،
الأعيان التابعة لذلك الإسم، وتنطلق
منها سعة دائرة الدعوة وضيقها، والكمال
والنقص، والأشرفية وغيرها، وتعود إلى
التبعية للأسماء الإلهية. كما ذكرنا
تفصيل ذلك في كتاب"مصباح الهداية". ومجمل الكلام، بعد
أن يتحقق الصحو بعد المحو، يتحوّل وجوده
إلى وجود حق، يرى الحق سبحانه في مرآة
جماله، الموجودات الأخرى، بل يتحول إلى
موجود منسجم مع المشيئة. وإذا كان
الإنسان كاملاً، انسجم مع المشيئة
المطلقة، وصارت روحانيته عين مقام
الظهور الفعلي للحق عز وجل. وفي هذه
الصورة يرى به الحق المتعالي ويسمع
ويبطش، ويصير هو الإرادة النافذة للحق
ومشيئته الكاملة، وعلمه الفعلي "فَالْحَقُّ
يَسْمَعُ بِهِ وَيُبْصِرُ بِهِ - إلى
آخره"، "عَلِيٌّ عَيْنُ اللهِ
وَسَمْعُ اللهِ وَجَنْبُ اللهِ" إلى
غير ذلك. إذن إن التقرب
بالفرائض يقود الإنسان إلى الصحو بعد
المحو، وتكون ثماره ما سمعته. ويجب أن يُعلم أن
هذا الصحو بعد المحو والعود إلى عالم
الكثرة، تسمّى بالقرب، لأن هذا الصحو بعد
المحو، يختلف عن حالة الغفلة التي
نعيشها، وأن الوقوع في عالم الكثرة بعد
المحو، يغاير عالم كثرتنا الذي نعيش فيه
لأن هذه الكثرة تكون حجاباً لنا عن وجه
الحق، ومرآة المشاهدة لهم."ما رَأيْتُ
شَيْئاً إلاّ وَرَأَيْتُ اللهَ مَعَهُ
وَفيـهِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَه". ونستطيع أن نعتبر
القرب الحاصل بالنوافل فناءاً إسمياً،
والقرب الحاصل بالفرائـض، فناءاً
ذاتياً، وعليه تكون النتيجة للتقرب عن
طريق الفرائض المحو المطلق. [
626 ] وليس من المناسب في
هذا المقام إطالة البحث أكثر من ذلك، كما
أن هذا القدر من الكلام، يكون خروجاً عن
طاقة استيعاب هذا الكتاب. في نقل كلام الشيخ الأجل
البهائي رضي الله عنه قال الشيخ الجليل
العارف البهائي رضوان الله تعالى عليه في
كتاب(الأربعون) لدى شرحه لهذه الرواية
الشريفة:"لأصحاب القلوب في هذا المقام
كلمات سَنيّة وإشارات سريّة وتلويحات
ذوقية تعطر مشام الأرواح وتحيي رميم
الأشباح، لا يهتدي إلى معناها ولا يطلع
على مغزاها إلا من أتعب بدنه في
الرياضات، وعنّى نفسه بالمجاهدات حتى
ذاق مشربهم وعرف مطلبهم. وأمّا من لم يفهم
تلك الرموز ولم يهتد إلى هاتيك الكنوز
لعكوفه على الحظوظ الدنية وإنهماكه في
اللذات البدنية، فهو عند سماع تلك
الكلمات على خطرٍ عظيم من التردي في
غياهب الإلحاد والوقوع في مهاوي الحلول
والاتحاد. تعالى الله عن ذلك علواً
كبيراً. ونحن نتكلم في هذا المقام بما
يسهل تناوله على الإفهام. فنقول: هذا
مبالغة في القرب، وبيان لاستيلاء سلطان
المحبّة على ظاهر العبد وباطنه، وسرّه
وعلانيته فالمراد والله أعلم: إني إذا
أحببت عبدي جذبته إلى محلّ الأنس وصرفته
إلى عالم القدس، وصيّرت فكره مستغرقاً في
أسرار الملكوت وحواسّه مقصورة على
اجتلاء أنوار الجبروت، فيثبت حينئذٍ في
مقام القرب قدمه ويمتزج بالمحبة لحمه
ودمه، إلى أن يغيب عن نفسه ويذهل عن حسّه
فيتلاشى الأغيار من نظره حتى أكون له
بمنزلة سمعه وبصره كما قال من قال: جُنوني فيك
لا يَخْفى * * * ونَاري
مِنكَ لا تَخْبُوُ فَأَنْتَ
السّمع وَالأبصار * * * والأرْكَانُ
وَالْقَلْبُ(1) في
نقل كلام المحقق الطوسي
قال أفضل
المتأخرين، وأكمل المتقدمين الخواجه
نصير الدين الطوسي ـــــــــــــــ (1) مرآة
العقول، المجلد 10، ص 390، ط. دار الكتب
الإسلامية - طهران. [
627 ] قدس سرّه القدوسي(العارف
إذا انقطع عن نفسه واتصل بالحق رأى كل
قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع
المقدورات، وكل علم مستغرقاً في علمه
الذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات وكل
إرادة مستغرقة في إرادته التي لا يتأبى
عنها شيء من الممكنات، بل كل وجود وكل
كمال وجود فهو صادر عنه فائض من لدنه.
فصار الحق حينئذٍ بصره الذي يبصر به
وسمعه الذي يسمع به وقدرته التي يفعل بها
وعلمه الذي يعلم به، وجوده الذي يجود به،
فصار العارف حينئذً متخلقاً بأخلاق الله
في الحقيقـة) انتهى كلامه زيد في علو
مقامه.(1) في
نقل كلام المرحوم المجلسي
ولحضرة المحقق
المجلسي في الموضوع كلام أيضاً هو(2) : أنه سبحانه أودع في
بدن الإنسان وقلبه وروحه قوى ضعيفة هي في
معرض الانحلال والاختلال والانقضاء
والفناء، فإذا اكتفى بها وصرفها في شهوات
النفس والهوى تفنى كلها، ولا يبقى معه
شيء منها ومن ثمراتها إلاّ الحسرة
والندامة. وإذا استعملها في طاعة ربه
وصرفها في طاعة محبوبه أبدله الله خيراً
منها، وأقوى وأبقى تكون معه في الدنيا
والعقبى (لَئِنْ
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)(3).
فمنها قوة السمع إذا بذلها في طاعة النفس
والشيطان وما يلهي عن الرحمن بطل سمعه
الروحاني وهذا السمع الجسماني في معرض
الفناء ولذا قال سبحانه فيهم (أَمْ
تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ
إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
سَبِيلاً)(4). فهم صمّ بكم عمي في
الدنيا والآخرة فمثلهم كمثل الذي ينعق
بما لا يسمع إلا دعاءاً ونداءاً فهم في
الدنيا أيضاً كذلـك، فإذا أبطل بالموت
حسّهم، لم يبق لهم إلاّ الضلال والوبال،
وإذا صرفها في طاعة ربه أبدله الله سمعاً
كاملاً روحانياً لا يذهب بالصمم ولا
بالموت فهو يسمع كلام الملائكة، ويصغي
إلى خطاب الرب تعالى في الآخرة والأولى،
ويفهم كلام ـــــــــــــــ (1) مرآة
العقول، المجلد 10، ص 395، ط. دار الكتب
الإسلامية - طهران. (2) نقل
الإمام قدس سره كلام المجلسي بصورة
مختصرة. نقلناه من دون اختزال واختصار (المترجم). (3) سورة
إبراهيم، آية: 7. (4) سورة
الفرقان، آية: 44. [
628 ] الله وكلام
الأنبياء والأوصياء عليهم السّلام فما
منحه الله تعالى، سمع قلبي روحاني لا
يضعف بضعف البدن ولا يذهب بالموت وبه
يسمع في القبر الخطاب ويعد الجواب
ويناديه الحبيب كما نادى الرسول صلّى
الله عليه وآله وسلم أهل القليب. وكذا أودع الله
سبحانه حساً ضعيفاً في البصر فإذا صرفه
في مشتهيات نفسه ذهب الله بنوره وأعمى
عين قلبه فهو في الآخرة أعمى وأضلّ
سبيلاً، وإذا بذله في طاعة ربه نوّر الله
عين قلبه، وأعطى بصره نوراً أعلى وأقوى
ينظر به إلى الملكوت الأعلى ويتوسّم في
وجوه الخلق ما لا يعرف غيره، ويرى
الملائكة الروحانيين كما قال النبي صلّى
الله عليه وآله وسلم(اتّقُوا فَراسَةَ
الْمُؤْمنِ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ
الله) وقال تعالى (إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)(1). وكذا قوة البطش
البدنية إذا صرفها في طاعة الله وقربه
ونهكها بالرياضات الحقة أعطاه الله قوة
روحانية لا تضعف بالأمراض، ولا تذهب
بالموت فيها يقدر على التصرف في عالم
الملك والملكوت كما قال أمير المؤمنين
عليه السّلام: (ما
قَلَعْتُ بابَ خَيبَرَ بِقُوَّةٍ
جِسّمَانِيةٍ، بَلْ بِقُوّةٍ
رَبّانِيّةٍ). وكذا النطق إذا صدق
فيه وكان موافقاً لعمله ومصادفاً لرضا
ربه فتح الله به ينابيع الحكمة من قلبه
على لسانه فظهر معنى قوله سبحانه: (كُنْتُ
سَمْعُهُ وَبَصرهُ وَغير ذلك على ألطف
الوجوه لَمْن كانَ قَلْبٌ أوْ ألْقَى
السَّمْعَ وَهَوُ شَهِيد)(1). انتهى. ولا يخلو كلام
المجلسي هذا من الغرابة. يقول الشيخ الأجل
البهائي قدس سره: إنّ(هذا صريح في أن
الواجبات أكثر ثواباً من المندوبات - ثم
قال- إن قلت: مدلول هذا الكلام هو أن غير
الواجب ليس أحب إلى الله سبحانه من
الواجب، لا إن الواجب أحب إليه من غيره
فلعلهما متساويان؟ قلت: الذي يستفيده أهل
اللسان من مثل هذا الكلام هو تفضيل
الواجب ـــــــــــــــ (1) سورة
الحجر، آية: 75. (2) مرآة
العقول، المجلد 10، ص 392 - 393، ط. دار الكتب
الإسلامية - طهران. [
629 ] على غيره. ثم قال في
نهاية دراسته للحديث واستثنى منه الشهيد
رضوان الله عليه صوراً: أولها: الإبراء من
الدين فإنه مستحب وهو أفضل من إنظار
المعسر وهو واجب. ثانيها: السلام
ابتداءً فإنّه أفضل من ردّه وهو واجب. ثالثها: إعادة
المنفرد صلاته جماعة. فإن الجماعة مطلقاً
تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة فصلاة
الجماعة مستحبة وهي أفضل من الصلاة التي
سبقت وهي واجبة إلى غير ذلك انتهى.(1) وقد ناقش بعض في كل
منها ولا حاجة لبيان تلك المناقشات. ولا بد من معرفة أن
الظاهر من الحديث الشريف هو أن الواجبات
أفضل من المستحبات، وإن لم يكونا من سنخ
واحد فمثلاً: ردّ السلام الواجب، أفضل من
الحج المندوب، ومن تشييد المدارس
العظيمة، وزيارة أهل الله من المؤمنين.
وإن ترائى هذا الأمر بعيداً، ولهذا قال
المرحوم المجلسي رحمه الله(يمكن تخصيص
الأخبار وكلام الأصحاب بكون الواجب أفضل
من المستحب من نوعه وصنفه).(2) ولكن عندما يدل
الدليل على ذلك فلا مجال لمثل هذا
الاستبعاد. ويمكن ادعاء
انصراف الفريضة إلى الفرائض التعبدية
المحضة مثل الصلاة والصوم والحج والزكاة
وأمثالها، لا الفرائض الأخرى من أمثال
إمهال المعسر، ورد السلام وغيرهما، رغم
عدم خلو هذا الكلام أيضاً من الاعتراض.
والحمد لله أوّلاً وآخراً. ـــــــــــــــ (1) مرآة
العقول، المجلد 10، ص 382 و383، ط. دار الكتب
الإسلامية - طهران. (2) مرآة
العقول، المجلد 10، ص 383، ط. دار الكتب
الإسلامية - طهران. [
630 ] "الحسنات
من الله والسَّيئات من الإنسان"
[
631 ] بالسَّند المتَّصل إلى
عماد الإسلام والمسلمين محمَّد بن يعقوب
الكلينيّ - رضوان الله عليه - عن محمَّد بن
يحيى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال:
قال أبو الحسن الرِّضا عليه السّلام:"قالَ
اللهُ يَا ابْنَ آدَمَ بِمَشِيئَتِي
كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ
لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ، وَبِقُوَّتِي
أَدَّيْتَ فَرَائِضِي وَبِنِعْمَتِي
قَويتَ عَلَى مَعَصِيَتِي، جَعَلْتُكَ
سَمِيعاً بَصِيراً قَويّاً، مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ،
وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ، وَذلِكَ أَنّي أوْلى
بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ، وَأَنْتَ
أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي، وَذاك
أَنَّني لا أُسْأَلُ عَمّا أَفْعَلُ
وَهُمْ يُسْأَلونَ".(1) ـــــــــــــــ (1) أصول
الكافي، كتاب التوحيد، باب المشيئة
والإرادة، ح6. [
632 ] في هذا الحديث
الشريف أبحاث سامية، وأمور هامّة من
العلوم العالية لما وراء الطبيعة التي
إذا أردنا أن نبسط الحديث فيها مع بيان
المقدمات لطال بنا المقام، ولخرج الكتاب
عن حجة المناسب. إذن نضطر سلوك
الطريق الوسط، واللجوء إلى الاختصار
فنذكر نتائج البراهين العلمية لبعض
المسائل ضمن فصول عديدة. وَعَلَى اللهِ
التُّكْلانُ. في بيان الأسماء الحق
سبحانه مقامين إعلم أن لمشيئة
الحق المتعالي جلت عظمته، بل لكل الأسماء
والصفات مثل العلم والحياة والقدرة
وغيرها مقامين: أحدهما: مقام الأسماء
والصفات الذاتية. وقد ثبت بالبرهان أن
الذات المقدس الواجب الوجود بحيثية
واحدة، وجهة بسيطة محضة، مستجمع لجميع
الأسماء والصفات، وعين كل الكمالات. وإن
جميع الكمالات والأسماء. وصفات الجمال
والجلال يعود إلى حيثية الوجود البسيطة.
وكل ما هو وراء الوجود فهو نقص وقصور
وعدم، حيث أن ذاته المقدس صرف، الوجود.
ووجود صرف كان الكمال وكمال صرف "عِلْمٌ
كُلُّهُ، قُدْرَةٌ كُلُّهُ، حَياةٌ
كُلُّهُ". ثانيهما: مقام
الأسماء والصفات الفعلية، الذي هو مقام
الظهور بالأسماء [
633 ] والصفات الذاتية،
ومرتبة التجلي بالصفات الجمالية
والجلالية. وهذا المقام هو مقام معية
القيومية. (هُوَ مَعَكُمْ)(1).
(ومَا يَكُونُ مِنْ
نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ
رَابِعُهُمْ)(2). ومقام وجه الله (فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)(3).
ومقام النورية (اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض)(4).ِ
ومقام المشيئة المطلقة (وَمَا
تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)(5).
"خَلَقَ اللهُ
الأَشْيَاءَ بِالْمَشِيَّةِ
بِنَفْسِهَا" (6)، ولهذا المقام
اصطلاحات وألقاب أخرى على ألسنة أهل الله. وقد أشير إلى هذين
المقامين في الآية الشريفة من الكتاب
الإلهي: (هُوَ الأَوَّلُ
وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(3). ومجمل القول إن
مقام المشيئة الفعلية المطلقة، ذو إحاطة
قيومية لجميع الموجودات المُلكية
والملكوتية. وإن جميع الموجودات من ناحية
تكون من تعيناتة ومن ناحية أخرى من
مظاهره. وقد قال هذا الحديث الشريف، عن
مقام المشيئة الفعلية والمظهرية، وفناء
مشيئة العباد في ذلك، بل مظهرية ومرآتيّة
العباد وجميع شؤونهم عن ذلك: (يَا
ابْنَ آدمَ بِمَشِيّئتِي كُنْتَ أنْتَ
الْذَّي تَشاءُ لِنَفْسِكَ ما تَشاءُ،
وَبِقُوَّتِي أدَّيتَ فَرَائِضِي
وَبِنْعمتِي قَوِيَت عَلى مَعْصِيَتي،
جَعَلْتكَ سَمِيعاً بَصيراً قَويَّاً).إن
ذاتك وكمالات ذاتك بمشيئتي وقوتي، بل إنك
بنفسك وكمالاتك من مظاهر وتعينات مشيئتي (وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلِكنَّ اللهَ
رَمَى). ولهذا الموضوع
العرفاني شواهد كثيرة من القرآن والسنة،
لا حاجة لذكرها ويرى الشيخ الجليل
السهروردي الأشراقي قدس سره، أن العلم
التفضيلي للحق المتعالي بالأشياء هو هذا
المقام من العلم الفعلي. وتبعه في هذا
الموضوع المحقق الطوسي قدس سره. ويرى صدر
المتألهين - قدس سره - أن العلم ـــــــــــــــ (1) سورة
الحديد، آية: 4. (2) سورة
المجادلة، آية: 7. (3) سورة
البقرة، آية: 115. (4) سورة
القلم، آية: 35. (5) سورة
الدهر، آية: 30. (6) أصول
الكافي، كتاب التوحيد، باب الإرادة أنها
من صفات الفعل، ح4. (7) سورة
الحديد، آية: 3. [
634 ] التفضيلي هو مقام
الذات البسيط، ولا يوافق قدس سره هذين
الجليلين على موقفهما بصورة مطلقة. وأرى بأن جوهر
كلامهما، واحد وأن النزاع لفظي ولا يناسب
المقام بيان ذلك. وتبين من هذا العرض
أن كل ما يحصل في هذا العالم الوجودي سواء
كان من الجواهر القدسية الإلهية أو
المُلكية الطبيعية أو الاعراض أو كان من
الذوات والأوصاف والأفعال، فإن كل ذلك
يتحقق بقيّوميّة الحق سبحانه ونفوذ
قدرته وإحاطة قوته. وعليه يصح القول "بِقُوَّتِي
أَدَّيْتَ فَرَائِضِي" ومقام المشيئة
المطلقة هذه، مقام الرحمة الواسعة
والنعمة الجامعة كما يقول "وَبِنِعْمَتِي
قَويتَ عَلَى مَعْصِيَتِي". في
الإشارة إلى مسألتي الجبر والتفويض
أشار الإمام الرضا
عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث
الشريف بكل وضوح إلى مسألتي الجبر
والتفويض والمذهب الحق وهو الأمر بين
الأمرين، والمنزلة بين المنزلتين،
الموافق لمسلك أهل المعرفة، وأصحاب
القلوب، لأنه أثبت المشيئة والقوة
للعبد، وفي نفس الوقت جعلها مشيئة الحق
سبحانه. قائلاً "يَا ابْنَ آدمَ
بِمَشْيئَّتي كُنْتَ أنْتَ الْذَّي
تَشاءُ لِنَفْسِكَ مَا تَشاءُ
وَبِقُوَّتِي أدَّيتَ فَرائِضِي
وبِنعِمَتِي قَويتَ عَلى مَعصِيَتِي"
فلا تنتفي الأفعال والأوصاف والوجودات
بصورة مطلقة، كما لا يثبت للإنسان كل تلك
الأمور بصورة مطلقة. انك شئت، ومشيئتك قد
فنيت في ومشيئتك مظهر مشيئتي وتعينك مظهر
تعيني. وتنهض بقوتك على طاعتي ومعصيتي،
مع العلم بأن قوتك وقدرتك مظهر قدرتي
وقوتي. ولما كان هناك توهم
اشكال واعتراض وهو أنه بناءاً على هذا
العرض المذكور تنسب إلى الحق المتعالي
النقائص والرذائل والمعاصي أيضاً كما
تنسب الكمالات والفضائل. أجاب عليه السّلام
على هذا الزعم على أساس فلسفي برهاني
وذوقي عرفاني، من أن الحق عز وجل لمّا كان
كمال صرف وخير محض وعين الجمال [
635 ] والبهاء، كانت
الكمالات والخيرات من ناحيته، بل إن نظام
الوجود، حقيقته في عالم الغيب والشهود،
عين الكمال وأصل الجمال والتمام. وما
يعود إلى النقص والرذيله والشرّ
والوبال، فهو عائد إلى العدم والتعيّن
ومن لوازم الماهية. غير مجعولٍ ومفاضٍ من
الحق سبحانه. بل إن الشرور الحاصلة في
عالم الطبيعة وهذه النشأة المُلكية
الضيّقة نتيجة التضاد بين الموجودات،
وضيق هذا العالم، وأن التضاد بين
الكائنات لا يكون مجعولاً. فما هو من
الخيرات والكمالات والحسنات فمن الحق،
وما هو نقص وشر ومعصية فمن الخلق. كما قال
علية السّلام "مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ
وَمَا أَصَاَبَكَ مِنْ سيئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ". إذن إن جميع أنواع
السعادة الدنيوية والأخروية، وجميع
أنواع الخير المُلكية والملكوتية قد
أفيضت من ينبوع الخير والسعادة. وإن كافة
أنواع الشقاء الدنيوي والأخروي وشرور
هذا العالم والعوالم الأخرى من القصور
الذاتي للموجودات ونقصها. وما هو المعروف
أن السعادة والشقاء لا يكونان مجعولين
بجعل الجاعل، بل إنهما ذاتي الأشياء، فلا
أساس له بالنسبة إلى السعادة، لأنها
مجعولة ومفاضة من قبل الحق المتعال، إذ
أَن كل ذات من الذوات أو ماهية من
الماهيات لا يكون سعيداً بل هو هلاك محض. وأما بالنسبة إلى
الشقاء، فلأن الشقاء التام راجع إلى
حيثية الماهية وهي غير مجعولة، لا لأنها
ذاتية بل لأنها أدون من مرتبة الجعل، فلا
يتعلق بها الجعل. وأما الحديث المعروف "السَّعيدُ
سَعيدٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ،
وَالشَّقِيُّ شَقِيٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ"
فله معنىً آخر يعود إلى العلم بالأسماء
والأسماء والصفات ولا يناسب المقام ذكره. وبعد هذا البيان
الصحيح المستدل، نواجه شبهة مظنونة أخرى
وهي أننا حسب البيان المذكور عزلنا
الكائنات الموجودة عن الخير والسعادة،
عندما ربطناها بالحق المتعالي وهذا من
الجبر المرفوض. وجعلنا الشرّ والشقاء من
الإنسان وعزلناها عن القدرة الواجبة
وهذا من التفويض المستنكر، وذاك الرفض
وهذا الاستنكار ثابتان على مذهب العرفاء
وعلى ضوء الأدلة الفلسفية فكيف يتمّ
التوفيق بين الكلام السابق وما يلازمه من
الجبر أو التفويض؟. فأجاب الإمام
صلوات الله وسلامه عليه حسب الدليل
المذكور في الكلام [ 636 ] الذي قلنا وتحقيق
ذلك. إن الحق المتعال أولى بالحسنات من
العباد وهم أولى بالسيئات من الذات
المقدس للحق، وفي إثبات هاتين
الأولوتين، إثبات الانتساب إلى الطرفين. أما بيان أولوية
الحق سبحانه في الخير من عباده، فلأجل أن
نسبة الخير إلى مبدأ المبادئ بنية وجودية
بالذات، فإن الخير ذاتي الوجود وهو في
الواجب عين الذات، وفي الممكن بالجعل
والإفاضة، وعليه يكون مصدر إفاضة الخير
من الواجب تعالى، ولكن مرآة ظهوره،
ومَظْهره يكون الممكن. وتلك النسبة
الظاهرية والمفيضة، أتمّ من هذه النسبة
المظهرية والقابلية. وأما في السيئات
والشرور فيكون الأمر معكوساً رغم صحة
الانتساب إلى الطرفين لأن ما يفاض من
الحق يكون خيراً، ويلازمه تخلّل الشرّ
على أساس الانجرار والتبعية فتكون نسبة
الشر إلى الحق بالعرض وإلى الماهية
بالذات لنقصانها وقصورها. وقد تولت الآية
الكريمة بيان هاتين النسبتين. فعندما
تتحكم الواحدة وتتلاشى الكثرات والنقائص
يقول سبحانه (قُلْ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(1). ولدى مراعاة
الكثرات بالعرض والوسائط يقول الله عز
وجل (مَا أَصَابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ)(2). في بيان أن الحق تعالى لا
يُسأل عما يفعل وهم يسألون إعلم: يقول
المحققون من الفلاسفة أنه لا يوجد غرض
وغاية لأفعال الحق المتعالي سوى ذاته،
وتجلّياته الذاتية، ولا يمكن أن يكون
لذاته الأقدس في إيجاد الأشياء هدف آخر
وراء ذاته وظهوره وتجلّيه المقدس. لأن كل
فاعل عندما أوجد شيئا وابتغى من عمله غير
ذاته مهما كانت هذه الغاية حتى إذا كانت
إيصال الفائدة والمثوبة للغير، أو كان
الغاية العبادة والمعرفة أو الثناء
والحمد كان هذا الفاعل مستكملاً بهذه
الغاية وكان وجود هذا الهدف بالنسبة إليه
أولى من عدمه، وهذا ـــــــــــــــ (1) سورة
النساء، آية: 78. (2) سورة
النساء، آية: 79. [
637 ] يستلزم النقص
والقصور فيه وانتفاع الفاعل به، وهو محال
على الذات المقدس الكامل على الإطلاق،
الغني بالذات الواجب من جميع الجهات، فلا
يستفسر عن أفعاله ولا يوجه إليه لِمَ و"لاَ
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ". وأما
الموجودات الأخرى فإنها تستبطن في
أفعالها أغراض ومقاصد أخرى غير ذواتها.
فإن عشّاق جمال الحق والمقربين إليه
والمجذوبين نحوه يكون هدفهم البلوغ إلى
باب الله، والوصول إلى لقاء الله،
والتقرّب نحو ساحة قدسه الإلهي. وإن
الكائنات الأخرى فهي حسب كمالها
ونقصانها وقوتها وضعفها أن تستهدف، ما هو
زائد على ذواتها. وخلاصة القول إن ما
يكون كمالاً مطلقاً وواجباً بالذات، كان
واجباً من جميع الجهات. وعندما لا يصح
توجيه الاستفسار نحو ذاته المقدس كانت
أفعاله أيضاً بعيدة عن توجيه السؤال
نحوها. على خلاف سائر الموجودات فإنه يصح
السؤال عن سبب وجودها كما يصح الاستفهام
عن أفعالها. وأيضاً لما كان
ذاته المقدس كاملاً مطلقاً وجميلاً
مطلقاً، صار كعبة لآمال كافة الموجودات
وهدفاً منشوداً لجميع الكائنات، في حين
أنه سبحانه لا مقصد من خلقه وأفعاله ولا
كعبة لآماله وراء ذاته، لأن الموجودات
الأخرى ناقصة بالذات، وإن كل ناقص مهروب
عنه بالفطرة كما أن كل كامل مرغوب فيه،
فالذات المقدس غاية جميع الحركات
والأفعال، ولا توجد غاية وراء ذاته
المقدس (لاَ يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(1). وأيضاً لمّا كان
ذاته المقدس في المنتهى الأقصى من الجمال
والكمال، كان نظام دائرة الوجود الذي هو
ظل ذلك الجمال الحق سبحانه، في الغاية
القصوى من الكمال الممكن، وعليه يكون هذا
النظام الكلي المجود أتم الأنظمة
المتصورة، فيكون الاستفهام عن الغاية
والغرض والفائدة، منبعثاً عن الجهل
والنقص. كما أن إبليس اللعين وجّه أسئلة
سبعة معروفة من جرّاء جهله، وأجابه الله
سبحانه إجمالاً وعلى أساس (وَجادْلهُمْ
بالَّتي هي أَحْسَنْ) جواباً واحداً
عن أسئلته السبعة(2) فالله ـــــــــــــــ (1) سورة
الأنبياء، آية: 23. (2) والأسئلة
السبعة على ذكر السيد الطباطبائي في
تفسير الميزان ستة منها نقلاً عن روح
المعاني للآلوسي هي: 1-ما الحكمة في الخلق
لا سيّما وقد كان عالماً أن الكافر لا
يستوجب عند خلقه إلاّ النار؟ 2-ما الفائدة
في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع
ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو
قادر على تحصيله لهم من غير واسطة
التكليف؟ 3-هب إنه كلفني بمعرفته وطاعته
فلماذا كلفني بالسجود لآدم؟ 4-لمّا عصيته
في ترك السجود فلِمَ لعنني وأوجب عقابي
مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه، ولي
فيه أعظم الضرر؟ 5-أنه لمّا فعل ذلك لِمَ
سلّطني على أولاده وأمكنني من إغوائهم
وإضلالهم؟ 6-لمّا استمهلته المدة الطويلة
في ذلك فلِمَ أمهلني ومعلوم أنه لو كان
العالم خالياً الشرّ لكان ذلك خيراً؟ (راجع
تفسير الميزان -المجلد الثامن - ص 44 من
الطباعة الخامسة لمؤسسة الأعلمي
لمطبوعات بيروت)(المترجم). [
638 ] سبحانه لا يسأل لأن
فعله في منتهى الكمال وتُسأل الكائنات
الأخرى لنقصها الذاتي والفعلي. وأيضاً إن الحق
المتعالي حكيم بصورة مطلقة، فما يصدر منه
من الأفعال يكون في منتهى الإتقان فلا
يسأل، في حين أن الموجودات الأخرى تُسأل
لأنها ليست كذلك. وأيضاً إن كل ما
يصدر من وجوده المقدس، فهو صادر من حقيقة
ذاته وأصل حقيقته، بينما لم تكن الكائنات
الأخرى كذلك، فهو فاعل بالذات ولا يصح
السؤال عمن هو فاعل بالذات. أما
الموجودات الأخرى فهي فاعلة بالعرض ويصح
السؤال عن فعلها. وحيث أن الإرادة،
والمشيئة، والقدرة عين ذاته المقدس،
كانت الفاعلية بالذات عين الفاعلية
بالإرادة والقدرة. ولا يرد هنا اعتراض
الفاعل بالطبع. وهذا من الأبحاث الشريفة
التي ثبتت بالبرهان في محله، وبه تُحل
الكثير من اعتراضات المتكلمين في أبواب
مختلفة من المعارف الإلهية. ويستفاد من البيان
الذي ذكرناه، ارتباط الجمل المذكورة في
الحديث الشريف بعضها مع البعض الآخر على
أساس الرابطة العلية، وذلك أن الحق لا
يسأل عن فعله لأن فعله كامل تام، يحتوي
على نظام أتم، وأما الآخرون فليسوا كذلك
فيسألون وذلك لأنه سبحانه أولى بالحسنات
والعبد أولى بالسيئات وهو علّة [
639 ] لصدور السيئات
مهما كانت فمن العبد وأما الحسنات فمن
الحق عزّ وجلّ. وهناك بيانات أخرى
أيضاً تُبيّن نوعيّة الارتباط بين
الفاعل والفعل لم نذكرها هنا. والحمد لله
أَوَّلاً وآخِراً. [
640 ]
|
||||||||||||||||||
|