|
||||||||||||||
في فضل صلاة الليل أبدى هذا الحديث
الشريف اهتماماً بالغاً تجاه صلاتي
الليل والظهر قائلاً: ـ (وَعَلَيْكَ
بِصَلاَةِ اللَّيْلِ وَعَلَيْكَ
بِصَلاَةِ اللَّيْلِ وَعَلَيْكَ
بِصَلاَةِ اللَّيْلِ وعَلَيْكَ
بِصًلاَةِ الزَّوَالِ، وعَلَيْكَ
بِصًلاَةِ الزَّوَالِ وعَلَيْكَ
بِصًلاَةِ الزَّوَالِ) أما بالنسبة
إلى صلاة الليل فقد تولينا الحديث عنها
لدى شرحنا لبعض الأحاديث المتقدمة. وهنا
نكتفي بذكر الروايات الشريفة المأثورة
في فضيلة صلاة الليل. في الوسائل عن كتاب
الكافي بسنده إلى أبي عبداللّه الإمام
الصادق عليه السّلام قال: شَرَفُ
الْمُؤْمِن صَلاَتُه بِاللَّيْلِ،
وعِزُّ المُؤْمِنِ كَفُّه عَنْ
أَعْرَاضِ النَّاسِ)(1). وعن أبي عبداللّه
عليه السّلام قال: قال النبيِّ صلّى الله
عليه وآله وسلم لِجِبْرَائِيلِ عِظْنيِ
فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ
فَإِنَّكَ مَيّتٌ، وَأَحْبِبْ مِا
شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ وَاعْمل
مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلاقِيهِ
وَاعْلَم أَنِّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ
صَلاتُه بِاللَّيْلِ وَعِزُّهُ كَفُّهُ
عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ(2). وعن جعفر بن محمد
قال: الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ
الدُّنْيَا، وَثَمَانِ رَكَعَاتٍ مِنْ
آخِر اللَّيْلِ، وَالوَتْرِ زِينَةُ
الآخِرَةِ وَقَدْ يَجْمَعَهَا اللَّهُ
لأقْوَامٍ(3) . وعن محمد بن محمد
المفيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه
وآله وسلم إِذَا قَامَ
الْعَبْدُ مِنْ لَذِييذِ مَضْجَعِهِ
وَالنُّعَاسُ فِي عَيْنِه لِيُرْضِي
رَبَّهُ بِصَلاةِ لَيْلَه بَاهَى بِهِ
الْمَلاَئِكَةُ وَقَالَ أَمَا تَرَوْنَ
عَبْدِي هذَا قَدْ قَامَ مِنْ لَذِيذِ
مَضْجَعِهِ لِصَلاَةٍ لَمْ أَفْرُضْهَا
عَلَيْهِ إِشْهَدُوا أَنِّي قَدْ
غَفَرْتُ لَهُ(4) . والأحاديث
المأثورة في فضل صلاة الليل كثيرة فلا
مجال لعرضها في هذا المختصر. ـــــــــــــــ (1) و(2) وسائل
الشيعة، المجلد 5، الباب 39 من أبواب بقية
الصلوات المندوبة ح 2 و 3 ص268. (3) و(4) وسائل
الشيعة، المجلد 5، الباب 39 من أبواب بقية
الصلوات المندوبة، ح 34 و 35 ص 276 ـ 277. [
527 ] واستضاف أبو
ذر الغفاري ضـَيـْفاً فَقَالَ
لِلْضَيْفِ إِنّي مَشْغُولٌ وَإِنَّ لِي
إِبِلاً فَاخْرُجْ وَأَتِنِي
بِخَيْرِهَا فَذَهَبَ فَجَاءَ
بِنَاقَةٍ مَهْزُولَةٍ فَقَالَ لَهَ
أَبُو ذَرْ خُنْتَنِي بِهَذِهِ فَقَالَ
وَجَدْتُ خَيْرَ الإِبْلِ فَحْلَهَا
فَذَكَرْتُ يَوْمَ حَاجَتِكُمْ
إِلَيْهِ فَقَالَ أَبُو ذِرْ إِنَّ
يَوْمَ حَاجَتِي إِلَيْهِ لِيَوْمٍ
أُوْضَعُ فِي حُفْرَتِي مَعَ أَنَّ الله
يَقُولُ (لَنْ تَنَالُوا
البرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ). وَقَالَ
أَبُو ذَرْ فِي المَالِ ثَلاَثَةُ
شُرَكَاء: القَدرُ لاَ يَسْتَأمِرُكَ
أنْ يَذْهَبَ بِخَيْرِهَا أَوْ شَرِّهَا
مَنْ هَلَكَ وَالْوَارِثُ يَنْتَظِرُكَ
أَنْ تَضَعَ رَأْسَكَ ثُمَّ
يَسْتَاقَهَا وَأَنْتَ ذَمِيمٌ
وَأَنْتَ الثَّالِثُ فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ أَعْجَزُ
الثَّلاَثَةَ فَلاَ تَكُنْ إِنَّ الله
يَقُول (لَنْ
تَنَالُوا البرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ)(وَإِنَّ
هذَا الجَمَلُ كَانَ مِمَّا أُحِبُّ
مِنْ مَالِي فَأَحْبَبْتُ أَنْ
أُقَدِّمَهُ لِنَفْسِي)(1). لا بد وأن نعرف بأن
الإنسان قد نشأ وتربّى على حبّ المال
والجاه والزخارف الدنيوية وقد انعكس هذا
التعلق على قلبه، وتعمّق فيه وأضحى
مصدراً لكثير من المفاسد الخلقية
والسلوكية، بل للانحرافات الدينية. كما
ورد في أحاديث كثيرة وأشرنا إلى ذلك في
غضون شرحنا لبعض الأحاديث. وعليه إذا
استطاع الإنسان بواسطة الصدقات أو
الإيثار على النفس أن يستأصل من قلبه هذا
التعلق أو يخفف منه، لتمكن من اجتثاث
مادة الفساد ومصدر الأعمال المشينة فترة
حياته وفتح أبواب المعارف الإلهية،
وعالم الغيب والملكوت، والملكات
الفاضلة، على نفسه. وهذا من الأمور
الهامة في الإنفاق المالي الواجب
والمستحب وخاصة في الإنفاق المستحب حيث
لا بد من الإقلاع عن التعلق بالدنيا حتى
يتم البذل. وهو واضح. إذن يتبين من كافة
الأخبار والأحاديث في هذا الموضوع أن
الصدقة تشتمل على الفضائل الدنيوية
والأخروية حيث ترافق الإنسان من اللحظة
الأولى من التصدق فتدفع الشر والبلاء عن
الإنسان حتى يوم القيامة ومواقفها إلى أن
تُدخل الإنسان إلى الجنة وتُسكنه جوار
الحق سبحانه. لا بد وأن نعرف بأن
صدقة السر أفضل من الصدقة في العلانية،
كما ورد في ـــــــــــــــ (1) مجمع
البيان، المجلد الثاني، ص 474، طباعة دار
إحياء التراث العربي ـ بيروت. [
528 ] الكافي الشريف
بسنده إلى عمار الساباطي عن الإمام
الصادق عليه السّلام قال يـَا
عـَمَّاُر الصَّدَقَةُ فِي السِّرِّ
وَاللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ
فِي العَلاَنِيَةِ وَكَذلِكَ وَاللَّهِ
العِبَادَةُ فِي السِّرِّ أَفْضَلُ
مِنْهَا فِي العَلاَنِيَةِ . وقد ورد في أحاديث
كثيرة عن أبي جعفر عليه السّلام قالَ:قـَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلم: صَدَقَةُ
السِّرِّ تُطفئُ غَضَبَ الرَّبِّ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(1). وفي الحديث عن أبي
جعفر الباقر عليه السّلام سـَبـْعـَةٌ
يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ
لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّه ـ إلى أن قال ـ
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ
فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَمْ تَعْلَمْ
يَمِينُهُ مَا تُنْفِقَ شِمَالُهُ)(2). ولعل نكتة أفضلية
صدقة السِّرَّ تكمن أولاً في أن عبادة
السر أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص،
وثانياً أن صدقة السرّ تحافظ على كرامة
الفقراء. وأيضاً أن الصدقة
على الأرحام والأقرباء أفضل من التصدق
على غيرهم، لأن عنوان صلة الرحم الذي هو
من أفضل العبادات ينطبق على مثل هذه
الصدقة. ففي الحديث عن أبي عبدالله عليه
السّلام قـَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلم
أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ
عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحِ(3). وعن
أبي عبدالله عليه السّلام قَالَ: قـَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلم ..... وَصِلَةُ
الإِخْوَانِ بِعِشْرِينَ وَصِلَةُ
الرَّحِمِ بِأَرْبَعَةَ وَعِشْرِينَ)(4).
وفي بعض الروايات عن محمد بن علي بن
الحسين قال: قـَالَ عَلَيْهِ السَّلاَم:
لاَ صَدَقَة وَذُو رَحِمٍ مُحْـتَاجٍ(5). ختام: اعلم أنه يظهر من
قوله عليه السّلام في هذا الحديث الشريف (وَأَمَّا
الصَّدَقَةَ فَجُهْدَكَ حَتَّى تَقُولَ
قد أَسْرَفْتُ وَلَمْ تُسْرِفْ) أن
المطلوب في الصدقة الإكثار فيها وأنه لا
يتحقق الإسراف مهما أكثر الإنسان من
التصدق. وفي الحديث (قـَالَ
سَأَلْتُ أَبَا ـــــــــــــــ (1) فروع
الكافي، المجلد 4، ص8. (2) وسائل
الشيعة، المجلد 6، الباب 13 من أبواب
الصدقة، ح11. (3) (4) فروع
الكافي، المجلد 4، ص 10. (5) وسائل
الشيعة، المجلد 6، الباب 20 من أبواب
الصدقة، ح 4 ص 286. [
529 ] في بيان الصلاة الوسطىوأما المقصود من
صلاة الزوال المذكورة في وصيّته صلوات
الله وسلامه عليه (وعليك بصلاة الزوال)
فهو نوافل صلاة الظهر، كما صرّحت بها
الأحاديث. وهذا اقدر من الاهتمام إما
لأجل أن في هذه النوافل خصوصية معينة،
وإما لأجل أنها من توابع الصلاة الوسطى،
ومتمّماتها ومن بواعث قبولها. ويمكن أن يكون
المقصود من صلاة الزوال صلاة الظهر نفسها
التي تُدعي أيضاً بالصلاة الوسطى، من جهة
وقوعها في وسط الصلوات اليومية، وقد أمر
الحق المتعالي المحافظة على إقامتها
قائلاً: (حافظوا على
الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله
قانتين)(1). ويؤيد هذا
الاحتمال أولاً: أنه المشهور بين الفقهاء
ـ رضوان الله عليهم ـ وثانياً أه الأظهر
من الروايات حيث تحظى بخصائص زائدة على
الصلوات الأخرى. وثالثاً أنها الصلاة
الأولى التي أنزلها الحق سبحانه بواسطة
جبرائيل على آدم أبي البشر على نبينا وله
وعليه الصلاة والسلام. والظاهر أن اهتمام
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بها
حيث يوصي قائلاً: (عليك بصلاة الزوال)
لأجل المحافظة على شروطها وحدودها
ونوافلها وأوقاتها، وليس لأجل التأكيد
على صلاة الظهر. ويستفاد ذلك من الأمر
بالمحافظة على الصلوات وخاصة صلاة الظهر
أيضاً. وقد وردت أحاديث كثيرة مأثورة عن
أهل بيت العصمة عليهم السّلام، تأمرا
بالمحفاظة على أوقات الصلوات، والإتيان
بها في وقت فضيلتها، بل قد يسبب تأخير
الصلاة عن وقت الفضيلة من دون مبرر،
التهاون في الصلاة. وخاصة إذا استمر على
مثل هذا التهاون، وتكرّر على مدى الأيام
اللاحقة. ومن الواضح جداص أن
من يعتني بشيء، أنجزه في أسرع وقت وفي
أفضل صورة. وعلى العكس ما إذا لم يحفل به
ورآه أمراً هيّناً، لتهاون فيه وتماهل،
ونعوذ بالله من أن ينتهي أمر الإنسان إلى
الاستخفاف بالصلاة، والتهاون بها. ـــــــــــــــ (1) سورة
البقرة، آية: 238. [
530 ] عن أبي جعفر عليه
السّلام قال بَيْنَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِد
إذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَامَ يُصَلِّي
فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلاَ
سُجُودَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَم
نَقُرٌ كَنَقْرِ الغُرَابِ لَئِنْ مَاتَ
هذَا وَهكَذَا صَلاَتُهُ لَيَمُوتُنَّ
عَلَى غَيْرِ دِينِي(1) بل قد يفضي
الأمر بالإنسان من جراء الاستخفاف
بالصلاة، إلى تركها. ومن الطبيعي أن
الإنسان إذ لم يبد اهتماماً بشيء، لسقط
من عينه ولانتهي إلى النسيان. إننا قلّما
يعترينا النسيان تجاه أمر دنيوي سيّما في
الأمور المهمّة منها، وذلك لاستعظام
النفس لها، وتعلّقها بها، وتذكّرها
الدائم، ومن الطبيعي أن لا يُنسى مثل هذا
الأمر. فإذا قال لك شخص صادق في وعوده،
إنني لدى الظهر من يوم كذا، أدفع لك
مبلغاً يعدّ كبيراً ومهمّـاً عندك، فإنك
لا تنسى ذلك اليوم والموعد بل تحصي
الساعات والدقائق حتى يقترب الوقت لكي
تستقبل الموعد بكل توجه وحضور قلب، كل
ذلك نتيجة أن حبّ النفس لذلك الشيء
وإكبارها له، قد شغلك به، فلا تتهاون فيه
أبداً. وهكذا يتم الاهتمام من جانب
الإنسان في كل الأمور الدنيوية حسب وضعه
وشؤونه، وأما إذا كان الشيء تافهاً لدى
الإنسان، لتوجهت النفس لحظة واحدة ثم
غفلت عنه. إذن: هل تعرف
المسّوغ لفتورنا هذا في الأمور الدينية؟
إنه لأجل عدم إيماننا بالغيب وأن مرتكزات
عقائدنا واهية، وإيماننا بالوعود
الإلهية والأنبياء مهتزاً ومتزلزلاً،
وتكون النتيجة أن جميع الأمور الدينية
والشرائع الإلهية عندنا تافهة وموهونة،
ويفضي هذا الوهن شيئاً فشيئاً إلى الغفلة
فإما أن هذه الغفلة تهيمن علينا، وتخرجنا
كلياً من هذا الدين الشكلي الصور ي الذي
نعتنقه، أو تبعث على الغفلة لدى أهوال
نزع الروح وشدائد اللحظات الأخيرة من
حياة الإنسان. إن من الأمور
المهمة التي تتوّفر في هذه الصلوات
الخمسة التي تعتبر عمود الدين، والقاعدة
الصلبة للإيمان والتي لا يرقى إلى
مستواها شيء في الأهمية بعد الإيمان،
وبعد التوجهات النورية الباطنية، والصور
الغيبية الملكوتية، حيث لا يعلم أحد
عظمتها إلا الحق سبحانه والخواص في حالات
من الأدب الخاص الروحاني ـــــــــــــــ (1) وسائل
الشيعة، المجلد 3، الباب 8 من أبواب أعداد
الفرائض وأوقاتها، ح2 ص 21. [
531 ] الإلهي، الذي يدفع
بالإنسان إلى توثيق الأواصر بينه من جهة
والحق المتعالي والعوالم الغيبية من جهة
أخرى. ويبعث على ملكه الخضوع لله سبحانه
في الفؤاد، ويقوي الشجرة الطيبة التي هي
التوحيد والتفريد، ويجذّرها في النفس
على نحو لا يمكن اقتلاعها. كما أنه يفلح
في الاختبار العظيم الذي يحصل له من قبل
الحق المتعالي لدى سكرات الموت وأهوال
المطّلع ومشاهدة شيء من عالم الغيب،
ويوجب استقرار دينه وثباته، من دون أن
يكون مستودعاً وقابلاً للزوال حتى يصاب
بالنسيان، لدى أقل ضغط. فيا أيها العزيز:
إيّاك ثُمَّ إيّاك وَاللَّهُ مُعينُكَ
فِي أوليكَ وَأُخْرَاكَ إن تتهاون في
أمورك الدينية وخاصة الصلوات الخمسة،
وتبدي الفتور والإهمال تجاهها. ويعلم
الله بأن الأنبياء والأولياء وأئمة
الهدى عليهم السّلام قد دفعوا بالناس نحو
الصلوات وحذّروهم من التخلّف عنها،
نتيجة العطف والحنان منهم على العباد، إذ
أنهم لا ينتفعون من إيماننا ولا تجديهم
أعمالنا شيئاً. في
فضل تلاوة القرآن إن من وصايا الرسول
الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم الأمر
بتلاوة القرآن(وَعَلَيْكَ بِتَلاَوَةِ
القُرْآنِ عَلَى كُلِّ حَال) وإن عقلنا
القاصر لا يستوعب فضيلة تلاوة القرآن
وحملة وَتَعَلُّمِهِ والتمسّك به
وملازمتَه والتدبَّر في معانيه وأسراره.
وما نقل عن أهل بيت العصمة عليهم السّلام
في ذلك أكثر من طاقة هذا الكتاب على
استيعابه. ونحن نقتصر على ذكر بعضها: الكافي: بإسناده عن
أبي عبدالله عليه السّلام قالَ: القُرْآنُ
عَهْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ فَقَدْ
يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ المُسْلِمِ أَنْ
يَنْظُرَ فِي عَهْدِهِ وَأَنْ يَقْرَأَ
مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِينَ
آيَةً"(1). وبإسناده عن
الزُّهريِّ قالَ: سَمِعْتُ
عَلَيَّ بنَ الحسينِ عليهما السّلام
يَقولُ: آياتُ القُرْآنِ خَزَائِنُ
فَكُلَّمَا فُتِحَتْ خَزِينَةٌ
يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْظُرَ فِيهَا)(2). ـــــــــــــــ (1) و(2) أصول الكافي، المجلد الثاني،
كتاب فضل القرآن، باب في قراءته ح1،2. [
532 ] والمستفاد من هذين
الحديثين أنه حريّ بقرّاء القرآن
التدبّر في آياته والتفكّر في معانيه،
وأن التمعّن والتأمل في الآيات الكريمة
الإلهية، واستيعاب المعارف والحِكَم
والتوحيد من القرآن العظيم، لا يكون من
التفسير بالرأي المنهي عنه الذي يلتجأ
إليه أصحاب الرأي والأهواء الفاسدة،
الذين لا يتمسكون برأي أهل بيت الوحي،
المخاطبين بالكلام الإلهي، كما ثبت ذلك
في محلّه، ولا داعي للولوج في هذا
الموضوع والإسهاب فيه. ويكفينا قوله
تعالى: (أفـَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلوبٍ أَقْفَالها)(1). ووردت أحاديث
كثيرة تأمرنا بالرجوع إلى القرآن
والتعمّق في آياته. فقد نقل عن الإمام
أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: (أَلاَ
لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ
فـِيهـَا تـَدَبُّرٌ)(2). وبإسناده عن أبي
جعفر عليه السّلام قال: قالَ
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:"مَنْ
قَرَأَ عَشْرَ آياتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ
يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، وَمَنْ
قَرَأَ خَمْسِينَ آيَةً كُتِبَ مِنَ
الذّاكِرِينَ، وَمَنْ قَرَأَ مِائَةَ
آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، وَمَنْ
قَرَأَ مِائتي آيَةٍ كُتِبَ مِنَ
الخَاشِعِينَ، وَمَنْ قَرَأَ
ثَلاَثْمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ
الفَائِزِينَ، وَمَنْ قَرَأَ
خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ
المُجْتَهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ أَلْفَ
آيَةٍ كُتِبَ لَهُ قِنْطَارٌ مِنْ
بِرِّ، القِنْطَارُ خَمْسَةَ عَشَرَ
أَلْفَ مِثْقَالٍ مِنْ َذَهٍب،
وَالمِثْقَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ
قِيراطاً أصْغَرُهَا مِثْلُ جَبَلِ
أُحُدٍ وَأَكْبَرُهَا مَا بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)(3). وجاء في الأحاديث
الكثيرة أن قراءة القرآن تتمثـّل في صورة
بهيّة جميلة تشفع لأهله وقرّائه. وقد
أعرضها عن ذكرها. وفي الحديث عن أبي
عبد الله عليه السّلام قالَ مَنْ
قَرَأَ القُرْآنَ وَهُوَ شَابٌّ
مُؤْمِنٌ اخْتَلَطَ القُرْآنُ
بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَجَعَلَهُ اللهُ
عَزَّ وَجَلَّ مَعَ السَّفَرَةَ
الكِرَامِ البَرَرَةِ وَكَانَ
القُرْآنُ حَجِيزاً عَنْهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ
كُلَّ عَامِل قَدْ أَصَابَ أَجْرُ
عَمَلِهِ غَيْرَ عَامِلِي فَبَلَّغ بِهِ
أَكرَمَ عَطَايَاكَ قَالَ فَيَكْسُوهُ
اللهُ العَزِيزُ الجَبَّاُر
حُلَّتَيْنِ مِنْ حُلَّلِ الجَنَّةِ
وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ
الكَرَامَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ هَلْ
أَرْضَيْنَاكَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ
القُرْآنُ يَا رَبِّ قَدْ كُنْتُ
أَرْغَبُ لَهُ فِيمَا هُوَ ـــــــــــــــ (1) سورة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم، آية: 24. (2) بحار
الأنوار ـ المجلد 92 ص 211. (3) أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب فضل
القرآن، باب ثواب قراءة القرآن، ح 5. [
533 ] أَفْضَلُ
مِنْ هذَا فَيُعْطِي الأَمْنَ
بِيَمِينِهِ وَالخُلْدَ بِـيَسَارِهِ
ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّة فَيُقَالُ لَهُ
إِقْرَأْ وَاصْعَدْ دَرَجَةً ثُمَّ
يُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَغَنَا بِهِ
وَأَرْضَيْنَاكَ فَيَقُولُ نَعَمْ(1).
وفي نفس الحديث عن الإمام الصادق عليه
السـّلام(وَمَنْ قَرَأَهُ
كَثِيراً وَتَعَاهَدَهُ بِمَشَقَّةً
مِنْ شِدَّةِ حِفْظِه أَعْطَاهُ اللهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَ هذَا مَرَّتَيْنِ)(2). وتبين من هذا
الحديث الشريف أن المطلوب من تلاوة
القرآن الكريم هو تأثيره في أعماق قلب
الإنسان، وصيرورة باطنه صورة كلام الله
المجيد، وتحويل ما هو ملكة القلب من
القرآن الكريم إلى التحقق والفعلية وذلك
حسب ما ورد في الحديث المذكور(مـَنْ
قَرَأَ القُرْآنَ وَهُوَ شَابٌ مُؤْمِنٌ
اخْتَلَطَ القُرْآنُ بِلَحْمِهِ
وَدَمِهِ) حيث يكون كناية عن استقرار
صورة القرآن في فؤاده، بدرجة يتحول باطن
الإنسان حسب استعداده وأهليته، إلى كلام
الله المجيد والقرآن الكريم. وفي حَمَلَةِ
القرآن من تحوّل تمام باطنه إلى حقيقة
الكلام الجامع الإلهي، والقرآن الجامع
والفرقان القاطع، وذلك مثل الإمام علي بن
أبي طالب والمعصومين من أولاده الطاهرين
عليهم السّلام، حيث يكون وجودهم آيات
طيبات وآيات الله العظمى، والقرآن
التامّ والتمام. بل إن هذا هو المطلوب من
جميع العبادات كما أنه من الأسرار الهامة
للعبادات، وأن تكرار الصلاة من أجل تحقيق
هذه الحقائق العبادية، وتحويل ذات
الإنسان وقلبه إلى صورة العبادة. وفي الحديث(أَنَّ
عَلِّياً عَلَيْهِ السَّلاَمِ صَلاَةُ
المُؤْمِنِيَن وَصِيَامُهم)(3). في
بيان أن العبادة تؤثر في الشباب
ويتم بالقرآن
الكريم التأثر القلبي والتحوّل الباطني
بصورة أفضل فترة الشباب، لأن قلب الفتى
لطيف وبسيط وذو نقاء وصفاء أكثر. وأن
وارداته قليلة، وتضارب الأفكار وتهافتها
فيه قليل. فيكون شديد الانفعال والتأثر
وسريع التقبّـل. ـــــــــــــــ (1) و(2) أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب فضل
القرآن، باب فضل حامل القرآن، ح4 ص603. (3) يضاهي هذا
الحديث ما ورد في البحار، المجلد 24، ح 14 ص
303، عن داوود بن كثير قال قُلْتُ أبي
عَبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلام،
أَنْتُمُ الصَّلاَةُ فِي كِتَابِ اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتُمُ الزَّكَاةُ
وَأَنْتُمُ الْحَجُّ؟ فَقَالَ يَا
دَاوُوُدُ نَحْنُ الصَّلاَةَ فِي
كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَحْنُ
الزّكَاةَ وَنَحْنُ الصِّيَامَ وَ.... [
534 ] إذن يجب على الشباب
حتى إذا كانت قلوبهم مطمئنة بالإيمان، أن
ينتبهوا إلى كيفية تفاعلهم وعِشرتهم مع
الآخرين، ويتورّعوا عن الاختلاط مع
السيئين. بل أن الصداقة والاختلاط مع
العصاة وذوي الخلق الفاسد والسلوك
المنحرف مسيء لجميع الناس من أي طبقة
كانوا، ويجب أن لا يكون أحد مطمئناً
بنفسه ومغروراً بإيمانه أو أخلاقه
وأعماله. كما ورد في الأحاديث الشريفة
الأمر بالابتعاد عن معاشرة أهل المعصية. في
آداب تلاوة القرآن
وملخص القول أن
المبتغى من خلال تلاوة القرآن هو ارتسام
صورة القرآن في القلب، وتأثير الأوامر
والنواهي فيه، وتثبيت الأحكام والتعاليم
الإلهية. ولا يتحقق هذا إلا في ظل مراعاة
آداب القراءة. وليس الهدف من الآداب ما هو
المعروف لدى بعض القُرّاء من الاهتمام
البالغ بمخارج الألفاظ، وأداء الحروف،
هذا الاهتمام الباعث مضافاً إلى الغفلة
عن المعاني والتدبر فيها، إبطال التجويد
بعض الأحيان، فإن كثيراً من الكلمات
القرآنية نتيجة مثل هذا التجويد، تفقد
صورتها الخلاّبة الأصيلة، وتتحول إلى
صورة أخرى، ذات صورة ومادة تختلف عما
أرادها الله تعالى. إن هذا يُعتبر من
مكائد الشيطان حيث يلتهي الإنسان المؤمن
إلى آخر عمره بألفاظ القرآن، وينسى
نهائياً استيعاب سرِّ نزول القرآن،
وحقيقة الأوامر والنواهي، والدعوة إلى
المعارف الحقة، والخلق الفاضل الحسن، بل
ينكشف لديه بعد مضي خمسين عاماً أنه من
جرّاء تغليظ بعض الحروف، والتشديد فيها،
قد أخرج صورة بعض الكلمات كلياً عن
حالتها الطبيعية وأصبحت ذات صورة غريبة. بل الهدف المنشود
من وراء آداب قراءة القرآن، تلك الآداب
التي وردت في الشريعة المقدسة والتي يعدّ
من أفضلها وأعظمها التفكر والتدبر في
آيات القرآن كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. في الكافي الشريف
بسنده إلى الإمام الصادق عليه السّلام
قال: " إنَّ هذاَ
القُرْآنَ فِيهِ مَنَارُ الهُدى
وَمَصَابِيحُ الدُّجى، فَلْيَجُلْ
جَالٍ بَصَرَهُ وَيَفْتَحْ لِلضِّيَاءِ
نَظَرَهُ، فَإِنَّ [
535 ] التَّفَكُّر
حَياةُ قَلْبِ البَصِيرِ كَمَا يَمْشى
المُسْتَنِيرُ فِي الظُّلُمَاتِ
بِالنُّورِ"(1) . وفي المجالس
بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام
في كلامٍ طويلٍ في وَصْفِ المتَّقِينَ: وَإِذَا
مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْويفٌ
أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ
قُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
فَاقَشَعَرَّتْ مِنْهَا جُلُودُهُمْ
وَوَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فَظَنُّوا
أَنَّ صَهِيلَ جَهَنَّمَ وَزَفِيرَهَا
وَشَهِيقَهَا فِي أصولِ آذَانِهِمْ،
وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا
تَشْويقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً
وَتَطَلَّعَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهَا
شَوْقاً وَظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ
أَعْيُنِهِمْ (2). ومن الواضح أن من
يتمعّن ويتدبر في معاني القرآن الكريم،
يتأثر قلبه، ويبلغ مقام المتقين شيئاً
فشيئاً. وإن حظي بتوفيق وسداد من الله،
لَتجاوز هذا المقام أيضاً ولَتحوّل كل
عضو وجارحة وقوة منه إلى آية من الآيات
الإلهية، ولعلّ جَذَوَاتَ خطاب الله
وجذباته، ترفعه وتبلغ به إلى مستوى إدراك
حقيقة اقـْرَأْ واصْعَدْ (3) في هذا
العالم وانتهى إلى مرحلة سماع الكلام من
المتكلم من دون واسطة، وتحوّل إلى موجود
لا يسع الإنسان فهمه واستيعابه. الإخلاص
في القراءة
ومن الآداب
اللازمة في قراءة القرآن، والتي لها دور
أساسي في التأثير في القلب والتي لا يكون
من دونها لأي عمل أهمية وشأن، بل يعتبر
ضائعاً وباطلاً وباعثاً على السخط
الإلهي. وهو الإخلاص، فإنه ركن أصيل
للانطلاق إلى المقامات الأُخروية، ورأس
مال في التجارة الأخروية. وقد ورد في هذا
الباب أيضاً أخبار كثيرة من أهل بيت
العصمة عليهم السّلام: منها ما حدثنا
الشيخ الكليني رضوان الله تعالى عليه: بإسناده عن أبي
جعفر عليه السّلام قالَ: "
قُرّاءُ القُرْآنِ ثَلاَثَةٌ: رَجُلٌ
قَرَأَ القرآنَ فَاتَّخَذَهُ بِضَاعَةً
وَاسْتَدَرَّّ بِهِ المُلُوكَ
وَاسْـتَطَال بِهِ عَلَى النَّاسِ.
وَرَجُلٌ قَرَأَ القُرْآنُ فَحَفِظَ
حُرُوفَهُ وَضَـيَّعَ حُدُودَهُ
وَأَقَامَهُ إِقَامَةُ القَدَحِ، فَلاَ
كَـثَّر اللَّهُ هؤُلاَءِ مِنْ حَمَلَةِ
القُرْآنِ. وَرَجُلٌٌ ـــــــــــــــ (1) أصول
الكافي، المجلد 2، كتاب فضل القرآن، ح 5. (2) وسائل
الشيعة، المجلد 4، الباب 3 من أبواب قراءة
القرآن، ح6. (3) أصول
الكافي المجلد الثاني كتاب فضل القرآن،
باب فضل حامل القرآن، ح4. [
536 ] قَرَأَ
القُرْآنَ فَوَضَعَ دَوَاءَ القُرْآنِ
عَلَى دَاءِ قَلْبِهِ فَأَسْهَرَ بِهِ
لَيْلَهُُ وَأَظْمَأَ بِهِ نَهَارَهُ
وَقَامَ بِهِ فِي مَسَاجِدِهِ
وَتَجَافَى بِهِ عَنْ فِرَاشِهِ،
فَبِأُوْلئِكَ يَدْفَعُ اللَّهُ
العَزِيزُ الجَبّارُ البَلاَءَ،
وَبِأُولئِكَ يُدِيلُ اللَّهُ مِنَ
الأَعْدَاءِ، وَبِأُلئِكَ يُنْزِلُ
اللَّهُ الغَيْثَ مِنَ السَّمَاءِ،
فَوَاللَّهِ لَهؤُلاَءِ فِي قُرّاء
القُرْآنِ أَعَزُّ مِنَ الكِبْرِيتِ
الأَحْمَرِ (1). وعن عقاب الأعمال
بإسناده عن أبي عبد الله عليه السّلام،
عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام قالَ: " مَنْ
قَرَأَ القُرْآنَ يَأْكُلُ بِهِ
النَّاسَ جَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ
وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لاَ لَحْمَ فِيهِ (2). وبإسناده عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث
قالَ: مَنْ تَعَلَّمَ
القُرْآنَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَآثَرَ
عَلَيْهِ حُبَّ الدُّنْيَا
وَزِينَتَهَا اسْتَوْجَبَ سَخَطَ
اللَّهِ وَكَانَ فِي الدَّرَجَةِ مَعَ
اليَهودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ
يَنْبِذُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ. وَمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ
يُرِيدُ بِهِ سُمْعَهً وَالتِمَاسَ
الدُّنْيَا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ
القِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لَيْسَ
عَلَيْهِ لَحْمٌ وَزَجَّ القُرْآنُ فِي
قَفَاهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ
وَيَهْوَى فِيهَا مَعَ مَنْ هَوَى.
وَمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَلَمْ
يَعْمَلْ بِهِ حَشَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمى فَيَقُولُ: يَا
رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ
كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ: كَذلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا
وَكَذلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى"فَيُؤْمَرُ
بِهِ إِلَى النَّارِ. وَمَنْ قَرَأَ
القُرْآنَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ
وَتَفَقُّهاً فِي الدِّينِ كَانَ لَهُ
مِنَ الثَّوَابِ مِثْلُ جَمِيعِ مَا
أُعْطِى المَلاَئِكَةُ وَالأَنْبيِاءُ
والمُرْسَلُونَ. وَمَنْ تَعَلَّمَ
القُرْآنَ يُرِيدُ بِهِ رِياءً
وَسُمْعَةً لِيُمَارِيَ بِهِ
السُّفَهَاءَ وَيُبَاهِيَ بِهِ
العُلَمَاءَ وَيَطْلُبَ بِهِ
الدُّنْيَا بَدَّدَ اللَّهُ عِظَامَهُ
يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي
النَّارِ أَشَدُّ عَذَاباً مِنْهُ ،
وَلَيْسَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ
العَذَابِ إلاّ سَيُعَذَّبُ بِهِ مِنْ
شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَخَطِهِ. وَمَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ
وَتَوَاضَعَ فِي العِلْمِ وَعَلَّمَ
عِبَادَ اللَّهِ وَهُوَ يُرِيدُ مَا
عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ فِي
الجَنَّةِ أَعْظَمُ ثَواباً مِنْهُ
وَلاَ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً مِنْهُ
وَلَمْ يَكُنْ فِي الجَنَّةِ مَنْزِلٌ
وَلاَ دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ وَلاَ
نَفِيسَةٌ إِلاَّ وَكَانَ لَهُ فِيهَا
أَوْفَرُ النَّصِيبِ وَأَشْرَفُ
المَنَازِلِ (3). ـــــــــــــــ (1) أصول
الكافين المجلد2، ص604، كتاب فضل القرآن
باب النادر، ح1، ص627. (2) وسائل
الشيعة، المجلد 4، ص 837. (3) وسائل
الشيعة، المجلد 4، الباب 9 من أبواب
تكبيرة الإحرام - ح 7 و11 ص 727. [
537 ] في
معنى الترتيل
ومن آداب قراءة
القرآن الكريم الذي يبعث على التأثير في
النفس، ويجدر بالقارئ أن يراعيه، هو
الترتيل في التلاوة، وهو كما في الحديث
عبارة عن الحد الوسط بين السرعة والعجلة
من جهة، والتأني والفتور المفرطين
الموجبين لتفرّق الكلمات وانتشارها من
جهة أخرى. عن محمَّد بن يعقوب
بإسناده عن عبد الله بن سليمان قالَ:
سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه
السّلام عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: (وَرَتَّل
القُرْآنَ تَرْتِيلاً) قال: قال
أميرُ المُؤْمِنِينَ عليه السّلام:
تَبَيَّنْهُ تِبْياناً(تَبْييناً - خ ل)
وَلاَ تَهُدَّهُ هَدَّ الشِّعْرِ وَلاَ
تَنْثُرْهُ نَثْرَ الرَّمْلِ وَلكِنْ
أَفْرِغُوا قُلُوبَكُمُ القَاسِيَةَ
وَلاَ يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ
السُّورَةِ (1)(أي لا يكن هدفكم ختم
القرآن في أيام معدودة أو الإسراع في
قراءة السورة والبلوغ إلى آخرها). فالإنسان الذي
يريد أن يتلو كلام الله، ويداوي قلبه
القاسي، ويشفي أمراضه القلبية من خلال
قراءته للكلام الجامع الإلهي، ولكي يطوي
مع نور هداية المصباح الغيبي المنير،
وهذا النور على النور السماوي، طريق
الوصول إلى المقامات الأخروية والمد ارج
الكمالية، لا بد له من توفير الأسباب
الظاهرية والباطنية والآداب الصورية
والمعنوية. أما أمثالنا عندما نقرأ
القرآن بعض الأحيان، فمضافاً إلى أننا
نغفل نهائياً عن معاني الآيات الكريمة،
وأهدافها السامية وأوامرها ونواهيها
ووعظها وزجرها، وكأنّ آيات الجنّة
ونعيمها، وآيات جهنم والعذاب الأليم، لا
تعنينا، بل - نعوذ بالله - يكون انتباهنا
وتوجّه قلوبنا عند قراءة الكتب القصصية
أكثر من توجهنا حين تلاوتنا للآيات
المجيدة، مضافاً إلى ذلك فإننا في غفلة
حتى عن الآداب الظاهرية لقراءة القرآن
الكريم. وقد ورد في
الأحاديث الشريفة، الأمر بقراءة القرآن
بصوت حزين وجميل (وَعَنْ
أَبي الْحَسنَ عَلَيه السَّلام قالَ
ذَكَرتُ الصَّوتَ عِنْدُهُ فَقالَ إِنَّ
عَلي بنُ الحُسين عَلَيهما السَّلام
كانَ يَقْرأُ فَرُبّما مَرَّ بِه المارّ
فَصَعِقَ مِنْ حُسْنِ صَوْتِه، وأَنَّ
الإِمامَ لَوْ أَظْهَرَ مِنْ ذلِكَ
شَيئاً لَما إِحْتَمَلَهُ النَّاسُ مِنْ
حُسْنِةِ)(2) ونحن عندما نريد أن نُري
للناس صوتنا الحسن ـــــــــــــــ (1) أصول
الكافي، المجلد الثاني، ص 614. (2) أصول
الكافي، المجلد الثاني، باب ترتيل
القرآن، ح 4. [
538 ] وأنغامه الجميلة،
نلتجأ إلى قراءة القرآن أو الآذان، من
دون أن نستهدف تلاوة القرآن والعمل بهذا
الاستحباب. وعلى كل حال إن مكائد الشيطان
وأضاليل النفس الأمارة كثيرة، وغالباً
يلتبس الحق بالباطل، والحسن بالقبيح،
فيجب أن نلوذ إلى الله سبحانه ونعوذ به من
هذه الأشَرْاكَ والأفخاخ. في بيان رفع اليدين في
الصلاة وتقليبهما إن ما ورد في هذا
الحديث الشريف من قوله(وَعَلَيْكَ
بِرَفْعِ يَدَيْكَ فِي صَلاتِكَ
وَتَقْلِيبهما) ظاهر في رفع اليدين لدى
التكبيرات أثناء الصلاة. وأن المقصود من
تقليب اليدين يحتمل أن يكون جعل باطن
الكفين نحو القبلة، فإن من المستحبات هو
رفع اليدين لدى التكبير، ويحتمل أن يكون
المقصود منه رفع اليدين لدى القنوت،
فيجعل باطن الكفين نحو السماء، كما أفتى
باستحباب ذلك الفقهاء رضوان الله تعالى
عليهم، وناقشوا في دليل ذلك، رغم أنه لا
حاجة إلى دليل آخر بعد السيرة القطعية
المتشرعة على القنوت المتعارف من رفع
اليدين نحو السماء وعدم فهمهم منه إلاّ
هذه الطريقة الشائعة لدى المصلين في
القنوت، وعدم اكتفائهم برفع اليدين
بصورة مطلقة. وعلى أي حال فإن الأظهر من
هذه الرواية الشريفة، هو الاحتمال الأول. واعلم أن المشهور
بين الفقهاء رضوان الله عليهم استحباب
رفع اليدين عند التكبير في الصلاة. وذهب
بعض إلى الوجوب مستنداً إلى بعض الأوامر
والأخبار التي وردت في تفسير الآية
الشريفة (فـَصـَلِّ
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(1) بأن المقصود
من النحر هو رفع اليدين عند التكبير(2). ولكن هناك شواهد
كثيرة في الأحاديث تدل على استحباب رفع
اليدين دون ـــــــــــــــ (1) سورة
الكوثر، آية: 2. (2) عن أبي
جعفر في قوله[فصل لربك] قال الصلاة[وانحر]
قالَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ أَوَّلَ ما
يُكَبِّرُ فِي الافْتِتَاحِ. وعن عمر بن
يزيد قالَ سَمِعْتُ أَبا عَبْدِ اللَّهِ
عَلَيهِ السّلام يَقُولُ فِي قَولِه[فَصَلِّ
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ] هُوَ رَفْعُ
يَدَيْكَ حِذَاءَ وَجْهِكَ. تفسير
الميزان، المجلد 20، ص 374.(المترجم). [
539 ] وجوبه، مثل
التعليل الوارد في الأخبار، وخاصّة حديث
فضل بن شاذان المروي عن الإمام الرضا
عليه السّلام(1) مضافاً إلى أن صحيحة علي
بن جعفر، صريحة في عدم وجوب رفع اليدين(2). ولذا فإنّ هذه
الأخبار - بعض الأخبار الواردة في تفسير
فصلِّ لربك وانحر - مع قطع النظر عن
القرائن الصارفة، ظاهرة في وجوب رفع
اليدين لدى التكبير في الصلاة. ومقتضى
الجمع بين الروايات الصريحة في
الاستحباب، هو حمل الروايات على
الاستحباب تحكيماً للنص على الظاهر. ويحتمل أن تكون
رواية علي بن جعفر دالّة على وجوب رفع
اليد على خصوص الإمام دون المأموم.
ويحتمل أن تكون بصدد بيان حال الإمام
والمأموم في صلاة الجماعة وإيثار الصمت
تجاه من يصلي فرادى. ولا منافاة في وجوب
رفع اليدين على الجميع: الإمام والمأموم
ومن يصلي فرادى، ولكن رفع يد الإمام يجزي
عن رفع يد المأمومين كما أن قراءة الإمام
تجزيء عن قراءة المأمومين. وبناءاً على هذا
الاحتمال وهو أظهر الاحتمالات في
الرواية، لا ترد مناقشة بعض المحققين
المتأخرين، حتى يستلزم حمل المطلق على
المقيّد، فتكون النتيجة أن رفع اليدين
لدى التكبير واجبٌ على الإمام خاصة دون
غيره. ولكن مع ذلك فإن عدم القول بالفصل
بين الإمام فيجب عليه رفع اليدين حين
التكبير، دون غيره، ومذهب المشهور من
العلماء قديماً وحديثاً، وجميع القرائن
الخارجية والداخلية، كل ذلك يدل على
استحباب رفع اليدين، ولا مجال للبحث في
ذلك. ـــــــــــــــ (1) عن الفضيل
بن شاذان عن الرضا عليه السّلام قال
إِنَّما تُرْفَعُ اليَدانِ
بِالْتكْبِيرِ لأنَّ رَفْعَ الْيَدين
ضَرْبٌ مِنَ الإِبْتِهالِ
والْتَبَتُّلَ وَالتّضَرُّع فَأَحَّبَ
اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ أن يَكُونَ
الْعَبْدُ فِي وَقُتِ ذِكْرِهِ لَهُ
مُتَبَـتِّلاً مُتَضَرِّعاً مُبْتَهلاً
وَلأَنَّ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ
إِحْضارُ النِّيَةِ وَإِقْبالُ
الْقَلْبِ عَلى ما قالَ((وسائل الشيعة -
كتاب الصلاة - الباب التاسع من أبواب
تكبيرة الإحرام المجلد -4 - ص 727 ج 11 وص 726 ح7))(المترجم)
وسائل الشيعة، المجلد 4، الباب 9 من أبواب
تكبيرة الإحرام، ح 11. (2) عن علي بن
جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام
قالَ: قالَ عَلَى الإِمامِ أَنْ يَرْفَعَ
يَدَهُ في الصَّلاةِ لَيْسَ عَلى
غَيْرِهِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ في
الصَّلاةِ((وسائل الشيعة - كتاب الصلاة -
الباب التاسع من أبواب تكبيرة الإحرام
المجلد -4 - ص 727 ج 11 وص 726 ح 7)).(المترجم).
وسائل الشيعة، المجلد4، الباب 9 من أبواب
تكبيرة الإحرام، ح 11، وسائل الشيعة،
المجلد 4، باب 9 من أبواب تكبيرة الإحرام،
ح 7. [
540 ] وهذا القدر من
البحث قد فاض عن حجم هذا الكتاب. ورغم أن رفع اليدين
حين التكبير يكون مستحباً، فلا ينبغي ترك
هذا المستحب مهما أمكن، وخاصة أن هناك من
العلماء من يقول بوجوبه. ويكون مقتضى
الاحتياط هو عدم ترك هذا المستحب. في بيان سرِّ رفع اليدين لدى التكبير في الصلاةوعلى أيّ حال فإن
رفع اليدين لدى التكبير في الصلاة، يعدّ
من زينة الصلاة، كما أن صلاة جبرائيل
عليه السّلام، وملائكة السماوات السبع،
تكون على هذا الغرار، كما ورد عن الأصبغ
بن نباته عن علي بن أبي طالب عليه السّلام
قالَ لَمَّا نَزَلَتْ
عَلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ (فَصَلِّ
لرَبّـكَ وانْحَرْ)
قالَ يا جِبْرائِيلُ ما هذِهِ
النُّحَيْرَة الَّتِي أَمَرَ بِها
رَبِّي؟ قالَ يا مُحَمَّدُ إنَّها
لَيْسَتْ بِنُحَيْرَةَ، وَلكِنّه
يَأمُرُكَ إذا تَحَرَّمَت للْصَّلاةِ
أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذا كَبَّرْتَ
وإذا رَكَعْتَ وإِذا رَفَعْتَ رَأْسَكَ
مِنْ الرُّكوعِ وإِذا سَجَدْتَ
فَإِنَّها صَلاتُنا وَصَلاةُ
الْمَلائِكَةِ فِي السَّماواتِ
السَّبْعِ وأَنَّ لِكُلِّ شيءٍ زِينَة
وإِنَّ زِينَةَ الصَّلاةِ رَفْعَ
الأَيْدِي عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَة(1). ونقل عن الإمام
الرضا عليه السّلام كما في كتابي(علل
الشرائع) و(عيون الأخبار) قال: (إِنَّما
تُرْفَعُ اليَدانِ بِالتَّكْبِيرِ
لأَنَّ رَفْعَ الْيَدَينِ ضَرْبٌ مِنْ
الإِبْتِهالِ وَالْتَبَتُّلَ
وَالتَّضَرُّع فَأَحَبَّ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ يكُونَ الْعَبْدُ فِي
وَقْتِ ذِكْرِه لَهُ مُتَبَتِّلاً
مُتَضَرِّعَاً وَلأَنَّ فِي رَفْعِ
الْيَدَيْنِ إِحْضارُ النِّيَةِ
وَإقْبالُ الْقَلْبِ)(2). وهذا الكلام
يتطابق مع ما يقول بعض أهل المعرفة في
فلسفة رفع اليدين لدى التكبير من إلقاء
غير الله وراء ظهره، واقتلاع أشواك طريق
الوصول إلى الحبـيب، وجعل نفسه منقطعة عن
الغير وخالصة مخلصة له - من دون أدنى توجه
إلى الغير والغيرية الذي يعد في مذهب
العشاق والمحبين شركاً لله سبحانه - ثم
يبدأ معراجه الحقيقي الروحاني، والسفر
إلى الله. وهذا السفر والمعراج لا يمكن أن
يتحقق من دون رفض الغير والغيرية وترك
الذات والأنانية. كما أن مع التكبيرات
السبعة الافتتاحية نخرق الحجب السبعة
الملكية ـــــــــــــــ (1) وسائل
الشيعة، المجلد 4، الباب 9 من أبواب
تكبيرة الإحرام، ح 13 و14. (2) وسائل
الشيعة، المجلد 4، الباب 9 من أبواب
تكبيرة الإحرام، ح 11. [
541 ] والملكوتية
نهائياً. ففي كل تكبيرة من التكبيرات
السبعة من صلاة الأولياء خرق لحجاب، ورفض
لعوالم ذلك الحجاب وللقاطنين فيها. ثم
ينكشف عليهم حجاب آخر، ويتجلّى لهم على
قلوبهم، تجلياً تقيـيدياً، فبالتكبير
اللاحق يجتث الأشواك من الطريق، ولا
يلتهي بعالم ما وراء الحجاب وساكنيه،
وكأنّ باطن قلوبهم يهتف: الله أكبر من أن
يتجلى تجلياً تقيـيدياً، كما هتف بذلك
شيخ الأولياء والمخلصين، خليل الرحمن في
ذاك السفر العرفاني الشهودي، والتجليات
التقيـيدية. فالسالك إلى الله، والمسافر
إلى ساحة الحبيب، والمجذوب لطريق الوصول
إلى المعشوق، يخرق الحجب واحداً بعد آخر،
حتى ينتهي إلى التكبير الأخير، فيخرق به
الحجاب السابع، ويرفض الغير والغيرية
ويقول: (وَجَّهْتُ وَجْهِي
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ
الْمُشْرِكِينَ)(1).كما قاله النبي
إبراهيم خليل الرحمن. ثم تنفتح عليه
الأبواب، وتنكشف له سبحات الجلال،
فيستعيذ من الشيطان الرجيم، ويبدأ ببسم
الله الرحمن الرحيم. لقد أشار إلى ذلك
محمَّد بن عليّ بن الحسين - رضوان الله
عليه - بإسناده عن أبي الحسن عليه السّلام
أنَّه رَوى لِذَلِكَ
عِلَّةً أخْرى وهِيَ أَنَّ النَّبيَّ
صلّى الله عليه وآله وسلم لَمّا أُسْرِىَ
بِهِ إِلَى السَّمَاءِ قَطَعَ سَبْعَ
حُجُبٍ فَكَبَّرَ عِنْدَ كُلِّ حِجابٍ
تَكْبِيرَةً فَأَوْصَلَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ بِذلِكَ إِلى مُنْتَهَى
الكَرَامَةِ (2). وفي حديث آخر قريب
إلى هذا المضون عن أبي الحسن موسى عليه
السّلام قـَالَ قُلْتُ لَهُ لأَيِّ
عِلَّةٍ صارَ التَّكْبِيرُ فِي
الإِفْتِتاحِ سَبْعَ تَكْبِيراتٍ
أَفْضَلْ(إلى أن قال) قالَ يا
هُشامُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ
السَّماواتِ سَبْعاً وَالأَرْضَينَ
سَبْعاً وَالْحُجُبُ سَبْعاً، فَلَمَّا
أَسْرَى بِالنَّبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ، فَكانَ مِنْ
رَبَّهِ كِقابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى
رَفعَ له حِجابُ مَنْ حُجُبِهِ
فَكَبَّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله
عَلَيْهِ وآلِه وسَلَّم وَجَعَلَ
يَقُولُ الْكَلِماتِ الَّتِي تُقالُ فِي
الإِفْتِتاحِ، فَلَمَّا رَفَعَ لَهُ
الثَّاني كَبَّرَ فَلَمْ يَزلْ كَذلِكَ
حتَّى بَلَغَ سَبْعَ حُجُبٍ فَكَبَّرَ
سَبْعَ تَكْبِيراتٍ، فَلِتلِكَ
الْعِلَّةِ يُكَبِّرُ للإِفْتِتاح فِي
الصَّلاةِ سَبْعَ تَكْبِيراتٍ(3). ـــــــــــــــ (1) سورة
الأنعام، آية: 79. (2) وسائل
الشيعة، المجلد 4، الباب 7 من أبواب
تكبيرة الإحرام، ح 5. (3) وسائل
الشيعة، المجلد 4، الباب 7 من أبواب
تكبيرة الإحرام، ح 7. [
542 ] وهذا الحديث ينسجم
مع الذوق والمشرب العرفاني أكثر من
الحديث السابق، لأن مع رفع كل يد لدى خرق
الحجاب، وإزاحة لستار، وظهور نور من
أنوار الكرامة، وحيث أن هذا النور قيد من
الحجب النورانية، فمع رفع اليدين يحطم
هذا القيد ويزيح الحجاب ويُنَحْى وهكذا
حتى يتجلى الذات ويتم الوصول إلى منتهى
الكرامة، الذي هو غاية آمال الأولياء.
ونستطيع أن نفسر الرواية السابقة على ضوء
هذه الرواية. وعلى أي حال إننا
محرومون من استيعاب هذه المعاني، فكيف
بمشاهدتها أو الوصول إليها. ومشكلتنا
أننا نجحد كل هذه المقامات والدرجات،
ونعتقد بأن صلاة الأولياء ومعراجهم مثل
صلاتنا ومعراجنا، ونجعل كمال عملهم
مضاهياً لكمال عملنا، غاية الأمر أننا
نتصور بأن صلاتهم تتفوق على صلواتنا من
جهة حسن القراءة وإنجاز الآداب
والشرائط، وأنها خالية من الشرك والرياء
والعُجب، أو أن عبادة الأولياء لا تكون
خشيةً من النار أو طمعاً في الجنة ولا
نتصور شيئاً وراء ذلك، في حين أن لصلاتهم
ومعراجهم الروحاني مقامات سامية أخرى،
لا ترقى إليها أوهامنا. في
التنبيه إلى مكيدة من مكائد الشيطان
وملخص الكلام في
هذا المقام - الذي انتهينا إليه من دون
قصد - أنه يجب أن ننتبه إلى أن أسوأ
الأشواك في طريق الكمال والوصول إلى
المقامات الروحانية، والذي يُعَدُّ من
إبداع الشيطان القطاع للطريق، هو إنكار
المقامات والمدارج الغيبية الروحية،
ويعتبر هذا الجحود رأس مال كل الأضاليل
والجهالات، وسبب للوقوف والخمود عن
الحركة والتقدم، وإماتة لروح الشوق التي
هي مركب إلي كل الكمالات، وإطفاء لهب
العشق الذي يكون واسطة المعراج الروحاني
الباعث على كمال الإنسان، فيُمنى
بالتقاعس والإحجام عن الطلب. على العكس إن
الإنسان إذا آمن بالمقامات الروحانية
والمعارج العرفانية فمن الممكن أن هذا
الإيمان يُلهب جذوة العشق الفطريّ
الهامد تحت رماد الرغبات النفسية، ويشعل
نور الشوق في القلب، فيندفع شيئاً فشيئاً
نحو الطلب [
543 ] والنهوض بالجهاد،
فيصبح مشمولاً لهداية الحق، ونجدة الذات
المقدس المتعالي له والحمد لله. في فضل السواك إعلم أن من الآداب
المستحبة الشرعية بشكل مطلق السواك الذي
أوصى به رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلم في هذا الحديث الشريف(وَعَلَيْكَ
بِالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ)
ويتأكد في بعض الحالات الخاصة مثل قبل
الوضوء وقبل الصلاة وعند قراءة القرآن
وحين السحر ولدى القيام من النوم. وقد
أكدت الأخبار الشريفة على ذلك، وذكرت له
آثار كثيرة. ونحن نقتصر على ذكر بعضها في
هذا الكتاب. الكافي: بإسناده عن
أبي عبد الله عليه السّلام قالَ: "
فِي السِّواكِ اثْنَتَا عَشْرَةَ
خَصْلَةً: هُوَ مِنَ السُّنَّةِ
وَمَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ ومَجْلاةٌ
لِلْبَصَرِ وَيُرْضِي الرَّبَّ
وَيَذْهَبُ بِالْبَلْغَمِ وَيَزِيدُ
فِي الحِفْظِ وَيُبَيِّضُ الأَسْنَانَ
وَيُضَاعِفُ الحَسَنَاتِ وَيَذْهَبُ
بِالحَفْرِ وَيَشُدُّ اللِّثَةَ
وَيُشَهِّي الطَّعامَ وَيَفْرَحُ بِهِ
المَلائِكَةُ(1). وهناك حديث آخر
بهذا المضمون، وهذا الحفر الوارد في
الحديث الشريف هو الالتهابات التي قد
تحصل فـي أصول الأسنان من اللثة التي
تدعـى لـدى الأطبـاء بـ(Pyrrhei' مرض استسقاء
اللثة) والتي توجب التقيح والتعفن، حيث
يختلط القيح الذي ينز منه، مع الطعام
الممضوغ ويسبب أمراضاً خطيرة مثل سوء
الهضم وغيره، وفي بعض الأحيان يضطر
الطبيب إلى قلع الأسنان حتى يتمكن من
القضاء على الأمراض. فمن الحرّي
بالأسنان أن يواظب على السواك الذي يفيد
صحته وينظف أسنانه، مع قطع النظر عن
الأمور الغيبية الباطنية التي أعظمها
رضا الله سبحانه، وأن يستمر على هذه
السُنة التي تعدّ من سُنن المرسلين. وفي الحديث عن أبي
عبد الله عليه السّلام قالَ: قالَ رسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيهِ ـــــــــــــــ (1) فروع
الكافي، المجلد 6، كتاب الزي والتجمّل،
باب السواك، ح6. [
544 ] وَآلِه وَسَلَّم أَوْصانِي
جِبْرائيلُ بِالسِّواكِ حَتَّى خِفْتُ
عَلَى أَسْنانِي(1). وقال صلّى الله
عليه وآله وسلم (لـَوْلا
أَنْ أَشُقَّ عَلى أُمَّتِي
لأَمْرتَهُمْ بِالسِّواكِ عِنْدَ
وُضُوءِ كُلِّ صَلاةٍ)(2). وفي الحديث عن أبي
عبد الله عليه السّلام (قالَ
إِنَّ رَسُولَ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّم كانَ إِذا
صَلَّى الْعِشاءَ الآخِرَ أَمَر
بِوُضُوئِه وَسِواكِهِ يُوضَعُ عِنْدَ
رَأَسِهِ مَخْمَراً فَيَرْقُدُ ما شاء
الله ثُمَّ يَقُومُ فيَسَتْاكَ
وَيتوَّضأُ وَيُصَلِّي أَرْبَعَ
رَكَعاتٍ ثُمَّ يَرْقُدُ ثُمَّ يَقُومُ
فَيَسْتاكُ وَيتوَّضأُ وَيُصَلِّي
ثُمَّ قالَ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً)(3). وفي الحديث عن أبي
عبدالله عليه السّلام قالَ رَكْعَتانِ
بِالسِّواكِ أَفْضَلُ مِن سَبْعينَ
رَكْعَةٍ بِغَيْرِ سِواكٍ(4). وفي الحديث عن
المعلى بن خنيس قَالَ سَأَلْتُ أَبَا
عَبْدَِاللَّهِ عَلَيْهِ السَّلام عَنِ
السَّوَاكِ بَعْدَ الوُضُوءِ فَقَالَ الإِسْتِيَاك
قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ قُلْتُ
أَرَأَيْتَ إِنْ نَسِيَ حَتَّى
يَتَوَضَّأُ قَالَ يَسْتَاكُ ثُمَّ
يَتَمَضْمَضَ ثَلاَثَ مَرّاتٍ. والأخبار كثيرة في
المقام. ومن أرادها فليراجع كتب الأصحاب(5). فصل
في
بيان مبادئ محاسن الأخلاق ومساوئها
المذكورة في نهاية وصية الرسول
الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم إننا وإن شرحنا في
هذا الكتاب في مناسبات عديدة، كثيراً من
خُلق النفس، بصورة مفصلة، وذكرنا بقدر ما
يتناسب والميسور والمناسبة كيفية
الاتصاف بالمحامد الخلقية والابتعاد عن
مساوئها ومفاسدها، ولكننا في هذا المقام
نستعرض بياناً جامعاً في هذا الموضوع. ـــــــــــــــ (1) فروع
الكافي، المجلد 6، الباب 2 من أبواب
السواك من كتاب الزي والتجمّل، ح 8. (2) وسائل
الشيعة، المجلد 1، الباب 3 من أبواب
السواك، ح 4. (3) وسائل
الشيعة، المجلد 1، الباب 6 من أبواب
السواك، ح 1. (4) وسائل
الشيعة، المجلد 1، الباب 5 من أبواب
السواك. (5) وسائل
الشيعة، المجلد 1، الباب 1 من أبواب
السواك، الأحاديث من ح1 - ج 40. [
545 ] اعلم أن الخُلق
عبارة عن حالة نفسية، تدفع الإنسان نحو
العمل من دون تَروّي وتفكّر. فمثلاً إن
الذي يتمتع بالسخاء، يدفعه خلقه هذا إلى
الجود والإنفاق من دون حاجة إلى تنظيم
مقدمات، وترتيب مرجحات. وكأنّ هذا الخُلق
غدا من الأمور الطبيعية للإنسان مثل
النظر والسمع. وهكذا النفس العفيفة التي
أصبحت العفّة خُلقاً لها جزءاً طبيعياً
لها، وما دامت النفس لم تبلغ هذا المستوى
من التجذر الخلقي بواسطة التفكر والتدبر
والترويض، لم يكن لها أخلاق وكمال، ويخشى
عليها من زوال الخلق الكريم الذي يعدّ من
الكمالات النفسية، وتغلب عليها العادات
والخلق السيئ. وأما إذا بلغ الخلق مستوى
الأفعال الطبيعية في الإنسان، وغدا من
قبيل القوى والآلات، وظهرت سلطنة الحق
وقهره، لكان زواله مشكلاً ونادراً. وقال علماء
الأخلاق أن هذه الحال والخلق النفسية قد
تكون في الإنسان طبيعية وفطرية، ومرتبطة
بمزاج الإنسان من دون فرق بين ما هو خير
وسعادة أو شرّ وشقاء. كما هو المشهور من
أن بعض الناس منذ نعومة أظافرهم يرغبون
في الخير، وبعضهم ينزع نحو الشر وأن
البعض يُثار بأدنى شيء، ويستوحش من عمل
بسيط، ويفزع من أقل سبب، وبعض يكون على
خلاف ذلك. وقد تحصل بعض هذه الخلق
النفسانية من خلال العادات والعِشرة
والتدبر والتفكر، وقد تحصل نتيجة التفكر
والتروي حتى يبلغ مستوى الملكة. وهناك اختلافات
كثيرة بين علماء الأخلاق، لا مجال لذكرها
والبحث عنها في هذا الكتاب حيث تمنعنا عن
التعمق في الهدف الأساسي. فنحن نستعرض ما
يناسب المقام ويجديه فنقول: لا بد من معرفة أنه
ليس المقصود من قولنا إن الخلق النفسية،
طبيعية وفطرية. إنها ذاتية وغير خاضعة
للتغيير، بل إن جميع الملكات والخُلق
النفسانية، قابلة للتبدّل والتحوّل، ما
دامت النفس تعيش في هذا العالم، عالم
الحركة والتغيير، وتخضع للزمان والتجدد،
وتملك الهيولى والقوة، ويستطيع الإنسان
أن يُغيّر خُلُقه النفسي ويحوّله إلى
أضداده. وإضافة إلى البراهين والتجربة،
تدل على ذلك أيضاً، دعوة الأنبياء
والشرائع الحقة، الناس، للتخلق بالصفات
الحميدة، [
546 ] والابتعاد عما
يقابلها من الخلق السيء. ولا بد من معرفة أن
علماء الأخلاق أرجعوا كافة الفضائل
النفسية، إلى أمور أربعة هي: الحكمة،
العفة، الشجاعة، العدالة، واعتبروا
الحكمة فضيلة للنفس الناطقة التي تُميّز
وتفرّق الإنسان عن غيره. والشجاعة من
فضائل النفس الغضبية. والعفّة من فضائل
النفس الشهوية والعدالة؛ ترعى الفضائل
الثلاثة. كما وأن علماء الأخلاق أرجعوا
جميع الفضائل والكمالات النفسية إلى هذه
الفضائل الأربعة. ولا يتناسب التفصيل في
كل واحدة من هذه الفضائل الأربعة مع هذا
الكتاب، ولا مجال لأمثالنا الإسهاب في
ذلك. وما يجب فهمه هو أن المستفاد من
الحديث الشريف المأثور عن رسول الله صلّى
الله عليه وآله وسلم "بـُعـِثـْتُ
لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَق"(1).
إن سبب بعث الأنبياء، والدافع لدعوة خاتم
الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلم، هو
إكمال مكارم الأخلاق. وإن الأخبار
الشريفة قد أبدت الاهتمام الكبير،
إجمالاً وتفصيلاً بمكارم الأخلاق أكثر
من أي شيء آخر بعد الاهتمام بالمعارف
الإلهية. ونحن سنذكر بعض تلك الأخبار
بعون الله، كما وأن أهمية الفضائل
الخلقية أكبر من قدرتنا على شرحها وبسط
الحديث فيها، ولكن لابد وأن نقول بأن
أساس الحياة الأبدية الأخروية، ورأس مال
العيش في تلك النشأة، الخلق الفاضل،
والاتصاف بمكارم الأخلاق، وأن الجنة
الممنوحة للإنسان من جراء خلقه الكريم
المسماة بجنّة الصفات، أفضل بكثير من
جنّة الأعمال الجسمانية والتي فيها ما
طاب ولذّ، بصورة أفضل وأحسن من النعم
المادية الجسمانية، كما أن فيها ظلمات
وأهوال نتيجة الأعمال السيئة للإنسان،
أسوء من أي عذاب أليم. ويستطيع الإنسان
ما دام حياً، أن ينقذ نفسه من هذه
الظلمات، ويبلغ بها عالم الأنوار. نعم
يستطيع البلوغ إلى ذلك، ولكن لا مع هذه
البرودة والخمود والفتور والإهمال الذي
أصابنا، حيث نرى جميعاً بأننا منذ أيام
الطفولة ننمو على الخلق الذميم والسلوك
المنحرف، الذي أقترفناه من جراء هذه
الحالات السيئة من العشرة اللامسؤولة،
والاختلاط غير اللائق، ونحافظ عليها، بل
نضيف في كل يوم ـــــــــــــــ (1) تفسير
مجمع البيان، المجلد 10، ص333. [
547 ] على تلك الصفات
البشعة، جريرة أخرى، وكأننا لا نعتقد
بوجود عالم آخر ونشأة باقية أخرى. نصف بيت
شعر: الوَيْل لي إذا كان
عقيب هذه الحياة الدنيوية حياة أخرى! كأن دعوة الأنبياء
والأولياء عليهم السلام لا تعنينا،
وعليه لا نعلم إلى أين نصل مع هذه الأخلاق
التي نتصف بها، ومع هذه الأعمال التي
نقترفها؟ وفي أي صورة نحشر يوم القيامة؟
وعندما نصحو ونستيقظ، نعرف بأن الفرصة قد
فاتتنا، وأن الحسرة والندامة ستكون من
نصيبنا، ولا نلومنّ حينئذٍ إلا أنفسنا. إن الأنبياء عليهم
السّلام، قد وضعوا بين أيدينا طريق
السعادة، ثم قام العلماء والحكماء
بتفسير أحاديثهم لنا، وشرح أساليب
معالجة الأمراض الباطنية، وبذلوا أقصى
الجهد لتفهيمنا إياها، ولكننا امتنعنا
عن الاستيعاب، وأعطينا ظهورنا لهذه
الإرشادات والكلمات. فلا بد من عود
التأنيب إلينا كما قال رسول الله صلّى
الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث
الشريف الذي نشرحه (فـَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَلاَ تَلُومَنَّ إلاَّ
نَفْسَكَ). وقد وردت روايات
كثيرة لا تحصى تؤكد على مكارم الأخلاق،
وتحذّر من الصفات التي تقابلها، ونحن
ساهون ولاهون عن مراجعة تلك الأحاديث. فيا أيها العزيز:
إن كنت راغباً في دراسة الأخبار
والأحاديث، فراجع الكتب الشريفة للأخبار
وخاصة كتاب(أصول الكافي) حتى تعرف مدى
اهتمام المعصومين عليهم السّلام بالخلق
الكريم والمبادئ الفاضلة. وإن كنت من
التائقين للبيان العلمي وكلمات العلماء
فراجع الكتب الأخلاقية، مثل كتاب(طهارة
الأعراق) لابن مُسْكَوَيْه وكتب المرحوم
فيض الكاشاني وكتب المجلسي وكتب
النراقيين(1). حتى تستوعب آثار ونتائج
مكارم الأخلاق. وإن وجدت نفسك في غنًى عن
اقتناء الفضيلة، أو لا تلمس ضرورة في
الابتعاد عن الخلق السيئ، فحاول أن ـــــــــــــــ (1) الوالد هو
المولى مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي
صاحب كتاب"جامع السعادات "المتوفى
عام 1209 هـ. والولد هو أحمد بن مهدي صاحب
كتاب"معراج السعادة"المتوفى عام 1245
هـ(المترجم). [
548 ] تعالج جهلك الذي هو
رأس الأمراض. ونحن ننهي الموضوع
بعد أن نتبرك بذكر بعض الأخبار الشريفة
في هذا المضمار: في كتاب من لا
يحضره الفقيه: بإسناده عن أبي عبد الله
عليه السّلام قالَ: "إنَّ
الله خَصَّ رَسولَهُ صلّى الله عليه وآله
وسلم بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ
فَامْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنْ
كَانَتْ فِيكُمْ فَاحْمَدُوا اللَّهَ
وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي الزَّيَادَةِ
مِنْهَا؛ فَذَكَرَهَا عَشْرَةً:
اليَقينُ وَالقَنَاعَةُ وَالصَّبْرُ
وَالشُّكْرُ وَالحِلْمُ وَحُسْنُ
الخُلْقِ وَالسَّخَاء وَالغِيرَةُ
وَالشَّجَاعَةُ وَالمُرُوَّةُ"(1). ونقل هذا الحديث
بعدّة طرق. إلا أنه ذكر في كتاب(معاني
الأخبار)"الْرِضا "بدلاً عن الحلم. وروى الفيض
الكاشاني في كتاب "الوافي" هذا
الحديث عن كتاب "الكافي" مع اختلاف
يسير. وعن المجالس
بإسناده عن الصادق جعفر بن محمَّد عليه
السّلام أنَّهُ قالَ: "عَلَيْكُمْ
بِمَكَاِرِم الأَخْلاَقِ فَإِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّهَا
وَإِيَّاكُمْ وَمَذامَّ الأَفْعَالِ
فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُهَا إِلَى أَنْ
قَالَ: وَعلَيْكُمْ بِحُسْنِ الخُلُقِ
فَإِنَّهُ يَبْلُغُ بِصَاحِبِهِ
دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ الحديث"(2). الكافي: بإسناده عن
أبي جعفر عليه السّلام قالَ: "إنَّ
أكْمَلَ المُؤْمِنِينَ إيماناً
أحْسَنُهُمْ خُلُقاً" (3). وبإسناده
عن عليِّ بن الحسين عليهما السّلام قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: "ما
يوضَعُ في ميزانِ امْرئٍ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَفْضَلُ مِنْ حُسْنِ
خُلْقٍ" (4). وعن أبي عبد الله
عليه السـّلام قـَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّم أَكْثَرَ
مَا تَلِجُ بِهِ أُمَّتِي الْجَنَّةَ
تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلقِ(5). ـــــــــــــــ (1) كتاب من لا
يحضره الفقيه، المجلد الثالث، رقم
الحديث 4901. (2) وسائل
الشيعة، المجلد 11، الباب 6 من أبواب جهاد
النفس وما يناسبه، ح 8. (3) أصول
الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر،
باب حسن الخلق، ح 2. (4) أصول
الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر،
باب حسن الخلق، ح 6. (5) أصول
الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر،
باب حسن الخلق، ح 6، 8، 12. [
549 ] وعن أبي عبد الله
عليه السّلام قَالَ الْبِرُّ
وحُسْنُ الخُلُقِ يُعَمَّرانِ
الدِّيَارَ وَيَزِيدانِ فِي
الأَعْمَارِ(1). وعن أبي عبد الله عليه
السّلام قالَ إِنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
لَيُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الثَّوَابِ
عَلَى حُسْنِ الخُلُقِ كَمَا يُعْطِي
المُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يَغْدُوا عَلَيْهِ وَيَرُوحُ(2). إلى غير ذلك من
الأخبار الكثيرة في هذا الموضوع. وكما أن حسن الخلق
يوجب كمال الإيمان، وثقل الميزان،
والدخول في الجنان، فإن سوء الخلق يكون
على العكس من ذلك حيث أنه يفسد الإيمان،
ويلقي بصاحبه في العذاب الأليم. كما أشير
ذلك في الأحاديث الشريفة: الكافي: بإسناده عن
أبي عبد الله عليه السّلام قال: "إِنَّ
سوءَ الخُلُقِ لَيُفْسِدُ الإيْمَانَ
كَمَا يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ" (3). وفي رواية أخرى عن
أبي عبد الله عليه السّلام قال: إنَّ
سُوءَ الخُلُقِ لَيُفْسِدَ العَمَلَ
كَمَا يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ" (4). وعن أبي عبد الله
عليه السّلام قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّم: أَبَى اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ لِصَاحِبِ الخُلُقِ السَّيئ
بِالْتَوْبَةِ قِيلَ وَكيَفْ َذلِكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لأَنِّهُ إِذَا
تَابَ مِنْ ذَنْبٍ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ
أَعْظَمَ مِنْهُ(5): وعن أبي عبد الله
عليه السّلام قَالَ مَنْ
سَاءَ خُلُقُه عَذَّبَ نَفْسَهُ(6). ومن المعلوم أن
الخلق السيئ يعذب الإنسان دائماً، ويبعث
أيضاُ على العذاب والظلمات. كما ذكرنا
لدى شرحنا لبعض الأحاديث. والحمدُ
لِلَّهِ أَوَّلاً وآخِراً. ـــــــــــــــ (1)
و(2) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان
والكفر، باب حسن الخلق ح6، 8، 12. (3)
و(4) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان
والكفر، باب سوء الخلق ح 3 و1 و2 و4. (5)
و(6) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان
والكفر، باب سوء الخلق ح 3 و1و 2 و4. [
550 ]
|
||||||||||||||
|