"العِـلْم" [
415 ] بالسَّنَدِ
المتُصِلِ إلى أفْضَلِ المُحَدِّثينَ و
الحسنِ وعليِّ بنِ محمَّدٍ، عن سهلِ بن
زياد، عن محمَّدِ بنِ عيسى، عن عُبَيْدِ
الله بنِ عبد الله الدِّهْـقانِ، عن
دُرُسْتَ الو اسِطي، عن إبراهيمَ بنِ
عبدِ الحَميدَِأَقْدمِهِمْ مُحَمَّدِ
بْنِ يَعْقوبَ الكُلَيْنِيِّ ـ رضوانُ
الله عليه ـ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ، عن أبي
الحسنِ موسى عليه السّلام قالَ:"دَخَلَ
رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم
الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ
أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هذَا؟
فَقيلَ: عَلاَّمَةٌ، فَقَالَ: وَمَا
الْعَلاَّمَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ:
أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ
العَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيّامِ
الجَاهِلِيَّةِ وَالأَشْعَارِ
العَرَبِيَّةِ، قَالِ: فَقَالَ
النَّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلم:
ذاكَ عِلْمٌ لاَ يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ
وَلاَ يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ
قَالَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وآله
وسلم: إنَّما العِلْمُ ثَلاَثَةٌ: آيَةٌ
مُحْكَمَةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ
أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَمَا
خَلاهُنَّ فَهُو فَضْلٌ"(1). ـــــــــــــــ (1) أصول
الكافي، المجلد الأول، كتاب فضل العلم،
باب صفة العلم وفضلة، ح 1. [
416 ] ورد في بعض النسخ
مكان(ما هذا)،(من هذا). واستعمل صلوات الله
عليه(ما هذا) لأجل التحقير. و(العَلاّمة) صيغة
المبالغة، والتاء أيضاً للمبالغة
والمعنى كثير العلم جداً. إعلم أنه ذكر في
المنطق بأن(من) للسؤال عن الشخص وكلمة(ما)
للسؤال عن الحقيقة أو عن شرح الاسم
ومفهومه. وعندما قالوا لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أن هذا الرجل
علاّمة، استفهم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم عن تصورهم لحقيقة العلامة،
ومغزى علمه، ولهذا سأل بكلمة(ما). فإنه قد
تجعل الأوصاف العنوانية ـ العلامة ـ
وسيلة للسؤال عن الذات. مثل ما إذا كان
الإنسان عارفاً لحقيقة الوصف ولكنه يجهل
الموصوف فيسأل حينئذ بكلمة من ويقول من
العلامة؟ وأما إذا كان الشخص معروفاً
والوصف مجهولاً أو أن الغرض قد تعلق
بمعرفة الوصف فقط فيسأل حينئذٍ بكلمة(ما)
ويتوجه السؤال نحو الوصف فقط لا الموصوف
مع الوصف ولا الموصوف فقط. وفي هذا الحديث
الشريف لمّا قالوا إن هذا الرجل علاّمة،
تعلق غرض خاتم النبيين نحو معرفة حقيقة
الوصف حسب زعمهم فقال(وما العلامة؟) ولم
يقل(من العلامة؟) أو(لماذا يقال له
العلامة؟) أو(ما السبب في كونه علامة؟). وما ذكرناه أوضح
ممّا حققه محقق الفلاسفة وفيلسوف
المحققين صدر [
417 ] المتألهين ـ قدس
الله نفسه ـ في شرح هذا الحديث الشريف
الذي يوجب ذكره الإطالة والخروج عن
المقصد. (أقسام
العلوم النافعة) اعلم ـ قد تقدم
سابقاً ـ بأن للإنسان ـ إجمالاً وبصورة
كلية ـ نشآت ومقامات وعوالم ثلاث: الأولى ـ نشأة
الآخرة، وعالم الغيب، ومقام الروحانية
والعقل. الثانية ـ نشأة
البرزخ وعالم متوسط بين العالمين، ومقام
الخيال. الثالثة ـ نشأة
الدنيا ومقام المُلك وعالم الشهادة.
ولكل منها كمال خاص وتربية خاصة وعمل
يتناسب مع نشأته ومقامه، وأن الأنبياء
عليهم السلام يتولّون بيان تلك الأعمال. فجميع العلوم
النافعة تنقسم إلى هذه العلوم الثلاثة: علم راجع إلى
الكمالات العقلية والوظائف الروحية.
وعلم راجع إلى الأعمال القلبية ووظائفها.
وعلم راجع إلى الأعمال القالبية
الخارجية، ووظائف النشأة الظاهرة للنفس. أما العلوم التي
تقوّي العالم الروحاني، والعقل المجرد
وتربيتهما فهي: العلم بالذات المقدس الحق
جلّ وعلا، ومعرفة أوصافه الجمالية
والجلالية، والعلم بالعوالم الغيبة
المجردة مثل الملائكة وأصنافهم من أعلى
مراتب الجبروت الأعلى و الملكوت الأعلى
إلى نهاية الملكوت السفلي والملائكة
الأرضية وجنود الحق سبحانه. والعلم
بالأنبياء والأولياء ومقاماتهم
ومدارجهم، والعلم بالكتب المنزلية،
وكيفية نزول الوحي، وتنزل الملائكة
والروح. والعلم بنشأة الآخرة وكيفية عودة
الموجودات إلى عالم الغيب، وحقيقة عالم
البرزخ والقيامة، وتفاصيل ذلك. وملخص الكلام أن
العلم الذي يرتبط بالعالم الروحاني
والعقل المجرد، هو العلم بمبدأ الوجود
وحقيقته ومراتبه وبسطه وقبضه وظهوره
ورجوعه. ويتكفل بيان [
418 ] هذا العلم بعد
الأنبياء والأولياء، الفلاسفة والعظام
من الحكماء وأصحاب المعرفة والعرفان. أما العلوم التي
ترتبط بتربية القلب وترويضه والأعمال
القلبية فهي: العلم بالمُنجيات
الخُلقُيّة والمهلكات الخُلقية، أي
العلم بمحاسن الأخلاق مثل الصبر،
والشكر، والحياء والتواضع، والرضا
والشجاعة والسخاء والزهد والورع والتقوى
وغير ذلك من محاسن الأخلاق، والعلم
بكيفية تحصيلها وأسباب حصولها ومبادئها
وشرائطها. والعلم بقبائح الأخلاق مثل
الحسد والكبر والرياء والحقد والغش وحب
الرئاسة والجاه وحب الدنيا والنفس وغير
ذلك، والعلم بمبادئها التي تمنحها
الوجود، والعلم بكيفية التنزه عنها.
والذي يتولىّ بيان هذه الأمور أيضاً
الأنبياء والأوصياء عليهم الصلاة
والسلام ثم علماء الأخلاق وأصحاب
الرياضة الروحية وذوي المعارف. والعلوم التي تناط
بها تربية الظاهر وترويضه، علم الفقه
ومبادئه، وعلم آداب المعاشرة وتدبير
المنزل، وسياسة المُدُن ويتكفل بشرحها
الأنبياء ثم الأولياء عليهم السلام ثم
علماء الظاهر من الفقهاء والمحدّثين.
ولابد من معرفة كل واحد من هذه المراتب
الثلاث الإنسانية المذكورة مترابطة
بدرجة، تنعكس آثار كل مرتبة على المرتبة
الأخرى من دون فرق في ذلك بين الأمور
الكمالية، أو الأمور القبيحة المعيبة. مثلا لو أن شخصاً
قام بالوظائف العبودية والمناسك
الظاهرية ـ حسب ما هو لازم ومطابق
لتوجيهات الأنبياء ـ لانعكست من جرّاء
أدائه لمسئولياته العبودية آثار على
قلبه وروحه، حيث يحسن خلقه، وتتكامل
عقائده. وهكذا فان من يواظب على تهذيب
خلقه وتحسين باطنه، يترك آثاراً على
النشأتين الأخرويتين البرزخ والقيامة.
كما أن كمال الإيمان ومتانة العقائد
يؤثران في النشأتين التاليتين. ويكون كل
ذلك نتيجة شدة الارتباط بين المقامات
الثلاثة، بل التعبير بالارتباط بين
العوالم الثلاثة من جهة ضيق الخناق لعدم
وجود كلمة أخرى تعبّر عن مدى تداخل كل
منها في الآخر. إذ لابد و أن نقول إنها ـ
العوالم الثلاثة ـ حقيقة واحدة، ذات
مظاهر ثلاثة. وهكذا كمالات المقامات
الثلاثة مرتبطة بكمالات كل واحد منها. من
دون [
419 ] أن يظن أحد أنه
يستطيع أن يكون ذا إيمان كامل أو خلق مهذب
من دون الأعمال الظاهرية، والعبادات
الصورية. أو يستطيع أن يجعل إيمانه كاملا
و أعماله تامةً، رغم نقصان في خُلقة وعدم
تهذيبه، أو يمكن أن يتم أعماله الظاهرية
ويكمّل محاسن أخلاقه من دون الإيمان
القلبي. و هكذا عندما تكون الإعمال
الصورية ـ الصلاة، الصوم، والحج و.. ناقصة
وغير واقعة على ضوء أوامر الأنبياء، لحصل
حجاب في القلب و كدرة في الروح، وهما
يمنعان من نور الإيمان واليقين. و أيضا
إذا كان الخلق الذميم معشعشا في القلب،
لمنع من نفوذ الإيمان إليه. فيلزم على طالب
السفر إلى عالم الآخرة. و السالك على
الصراط المستقيم للإنسانية أن يتمّعن في
كل واحد من المراتب الثلاث، ويشدد في
المراقبة عليها، ويصلحها، ويرّوضها ولا
يلوي بوجهه عن كل واحد من الكمالات
العلمية والعملية. لا يحسب بأن تهذيب
الخلق أو ترسيخ العقائد أو موافقة ظاهر
الشريعة، يكفيه، كما اكتفى بعض أصحاب
العلوم الثلاثة بكل واحد من الأمور
الثلاثة. فمثلاً يقوم شيخ الإشراق في أول
كتابه(حكمة الإشراق) بتقسيمات، تعود إلى:
كامل في العلم والعمل، وكامل في العمل
وكامل في العلم، ويستفاد من ذلك أن كلاًّ
من العلم الكامل مع النقصان في العمل، أو
العمل الكامل مع النقصان في العلم، يمكن
أن يتحقق، واعتبر ذوي العلم الكامل، من
أهل السعادة، والمرتبطين بعالم الغيب
والتجرد، ورأى أن مآلهم الانخراط في سلك
العليّين و الروحانيين. ويرى بعض علماء
الأخلاق، وتهذيب الباطن، أن منشأ جميع
الكمالات تحسين الأخلاق وتهذيب القلب
وأعماله، ولا يرون دوراً للحقائق
العقلية والأحكام الظاهرية، بل
يعتبرونها معوّقات في سبيل السالكين. ويزعم بعض علماء
الظاهر ـ الفقهاء ـ ، أن العلوم العقلية و
الباطنية والمعارف الإلهية من الكفر
والزندقة، ويعاندون طلابها وعلمائها. إن هؤلاء الطوائف
الثلاث الذين يعتنقون هذه الآراء
الثلاثة الباطلة، لمحجوبون عن المقامات
الروحانية والنشآت الإنسانية، ولم
يتدبروا بصورة صحيحة في علوم الأنبياء
والأولياء. ولهذا كان بينهم العداء
سائداً دائماً، والافتراء [
420 ] متبادلاً، وكان
أحدهم يرمي الآخر بالباطل، مع أنهم
جميعاً على الباطل ولكنهم يختلفون في
تحديد مراتب الباطل بمعنى أن أصحاب
الطوائف الثلاث صادقون في تكذيب كل منهم
للآخر، لا من جهة أن علمهم أو عملهم باطل
بصورة مطلقة، بل من جهة أن تحديدهم
للمراتب الإنسانية بهذا المستوى ـ أن
أصحاب الكمال العلمي هم العليون وأن
أصحاب التهذيب للباطل هم ذوو الكمالات،
وأن أصحاب العلوم الظاهرية هم المقربون
عند الله ـ وجعلهم العلوم والكمالات
مقتصرةً على المجال الذي يرتأونـه، يكون
على خلاف الواقع. إن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قد قسمّ في هذا
الحديث الشريف العلوم إلى ثلاثة أقسام.
ولاشك أن هذه العلوم الثلاثة، مرتبطة
بهذه المراتب الثلاث كما تشهد بذلك
العلوم السائدة في الكتب الإلهية وسنن
الأنبياء وأحاديث المعصومين عليهم
الصلاة والسّلام، حيث تكون العلوم لديهم
مقسّمة إلى هذه الأقسام الثلاثة: أحدهما: ـ العلم
بالله وملائكته وكتبه ورسله ويوم الآخر،
فإن الكتب السماوية وخاصة الكتاب الإلهي
الجامع والقرآن الربوبي الكريم مشحونة،
من ذلك، بل نستطيع أن نقول إن الشيء
الوحيد الذي تصدّى كتاب الله لذكره أكثر
من غيره، هو هذا العلم، مع الدعوة إلى
المبدء والمعاد على أساس براهين صحيحة
ووضوح كامل ذكرها المحققون. وأما القسم الثاني
والثالث فلا ذكر لهما بمقدار القسم الأول. وإن أحاديث أئمة
الهدى عليهم السلام في هذا المجال ـ
القسم الأول من العلوم الثلاثة ـ تفوق
حدّ الإحصاء. ويتضح ذلك عند مراجعتنـا
للكتب المعتـبرة لدى جميع العلماء رضوان
الله عليهم مثل كتاب(الكافي) الشريف و(توحيد
الصدوق) وغيرهما. وهكذا وردت
بالنسبة إلى تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق
وتعديلها، آيات في الكتاب الإلهي، و
أحاديث مأثورة عن أهل البيت عليهم
السلام، فوق المستوى المتصور، ولكن تلك
الآيات وهذه الروايات أصبحت لدينا نحن
المساكين والمبتلين بالآمال والأماني،
مهجورة وغير معتبرة ولا نبالي بها.
وسيأتي يوم يؤاخذنا [
421 ] الله سبحانه
عليها، ويحتج علينا، ويتبرأ منا ـ نعوذ
بالله ـ الأئمة الأطهار عليهم السلام،
لبراءتنا من أحاديثهم وعلومهم. نعوذ
بالله من سوء العاقبة وشر الختام. وإن الأحاديث
العائدة إلى الفقه والمناسك الظاهرية،
مشحونة بها في كل كتبنا ولا نحتاج إلى
عرضها وذكرها. إذا إتضح أن علوم
الشريعة منحصرة في هذه الأقسام الثلاثة،
حسب حاجات الإنسان، والمقامات الإنسانية
الثلاثة. ولا يحقّ لأحد من العلماء في هذه
العلوم الثلاثة أن يطعن في الآخر، ولا
يجب على الإنسان إذا جهل علماً أن يكذبه
ويتطاول على صاحبه. وكما أن العقل السليم
يعتبر التصديق من دون تصور من الأغلاط
والقبائح الأخلاقية، فكذلك التكذيب لشيء
من دون تصوّر بل حاله أسوء وقبحه أعظم.
فإذا سألنا الله سبحانه يوم القيامة،
وقال مثلا أنتم لم تكونوا تعرفون معنى
وحدة الوجود حسب مسلك الحكماء، ولم
تتعلّموه من الإنسان المتخصص في ذلك
العلم وصاحب ذلك الفن، ولم تحصلوا على
علم الفلسفة ومقدماتها فلماذا أهنتم
القائل بها وكفّرتموه مـن دون معرفة؟ فماذا نملك من جواب
أمام ساحة قدسه حتى نجيب عليه، عدا أن
نطأطأ الـرأس حياءاً وخجلاً؟ ولا يقبل
الاعتذار بأنني هكذا زعمت في نفسي. إن لكل
علم مبادئ ومقدمات ولا يتسير فهم ذلك
العلم الا بعد استيعاب تلك المقدمات،
وخاصّة مثل هذه المسألة الدقيقة التي
استنزفت جهود أجيال تلو أجيال، ومع ذلك
يصعب فهم أصل الحقيقة ومغزاها بصورة
دقيقة. إن الشيء الذي بحثه
الحكماء والفلاسفة آلاف السنين ودقّقوا
فيه، هل تريد أن تدرك بعقلك الناقص،
الموضوع بواسطة دراسة كتاب واحد أو قصيدة
واحدة من قصائد المثنوي؟ وقطعاً لا
تستطيع أن تدرك شيئا من ذلك. "رَحِمَ
الله امْرَءاً عَرَفَ قَدْرَهُ وَلَمْ
يَتَعَدَّ طَوْرَه"(1). وهكذا
إذا سأل الله سبحانه حكيما متفلسفاً أو
عارفاً متصنّعاً، لماذا جعلت العالم
الفقيه قشريا وظاهريا وطعنت فيه؟ بل ما
هو المبرّر الشرعي في قدحك في ـــــــــــــــ (1) غرر
الحكـم، باب الراء. [
422 ] سلسلة من العلوم
الشرعية، التي جاء بها الأنبياء عليهم
السلام من قبل رب الأرباب لتكميل النفوس
البشرية وفي تكذيبك إيّاها وإهانتها؟
وما هو المسوّغ الشرعي أو العقلي للتطاول
على مجموعة من العلماء والفقهاء؟ فما هو
جوابه أمام الحق المتعالي؟ انه لا يملك
جواباً إلا أن يطأطأ حياءاً مبدياً
الإنفعال. وعلى أي حال نترك هذه المرحلة
من البحث التي تبعث على السأم والضجر. (تفسير كل من الآية
المحكمة، الفريضة العادلة، السنة
القائمة) بعد أن تبين أن
العلوم الثلاثة التي ذكرها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم هي هذه الفروع
الثلاثة التي ذكرناها، نقول على أي علم
من العلوم الثلاثة تنطبق هذه العناوين
الثلاثة؟ وهذا الموضوع وان لم يكن مهماً،
فإن المهم هنا هو فهم تلك العلوم ثم السعي
في سبيل طلبها وتحصيلها، ولكن من أجل شرح
الحديث الشريف، لابد من الإشارة إلى تلك
العلوم الثلاثة: فنقول: إن أعاظم علمائنا
رضوان الله عليهم الذين تصدوا لشرح هذا
الحديث الشريف، قد اختلفوا فيما بينهم في
شرحه، ولكن ذكر تلك الأقوال والشروح يسبب
إطالة الحديث. ونحن سنذكر ما يخطر ببالنا
القاصر في هذا الموضوع مع ذكر شواهد لم
تُبيّن بعد. ثم نأتي على ذكر نكتة مهمة قد
بيّنها العارف الكامل الشاه آبادي دام
ظله ـ : اعلم أن(الآية
المحكمة) هي العلوم العقلية والعقائد
الحقة والمعارف الإلهية. وان(الفريضة
العادلة) عبارة عن علم الأخلاق وتطهير
القلوب. و(السنّـة القائمة) عبارة عن
العلم الظاهر وعلوم الآداب القابلية ـ
الصورية ـ . وذلك أن كلمة(آية) التي تكون
بمعنى العلامة، تتناسب مع العلوم
العقلية الإعتقادية، لأن هذه العلوم هي
علامات الذات والأسماء والمعارف الأخرى.
ولم نعهد من قبل، أن استعلمت الآية أو
العلامة في علوم أخرى. فمثلاً نجد في
موارد كثيرة من الكتاب الإلهي، بعد
استعراض البرهان على وجود الصانع المقدس
أو على الأسماء والصفات لذاته المقدس أو
على وجود القيامة وكيفيتها وعالم الغيب
والبرزخ قوله [
423 ] (إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً(1) أو الآيات
لِـقَـوْمٍ يَتَفَكرَّونُ(2) أو
لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(3).
وهذا تعبير شائع بالنسبة إلى هذه العلوم
والمعارف. في حين أن كلمة (آية) لو ذكرت
اثر مسألة فقهية شرعية أو أصل من الأصول
الأخلاقية لكان مستهجناً. كما هو الظاهر.
فعلم أن(الآية) والعلامة من مختصات ومما
يتناسب مع علوم المعارف الإلهية. كما أن
التوصيف بـ(الحكمة) مما ينسجم مع هذه
العلوم، لأن هذه العلوم تخضع للموازين
العقلية والبراهين المحكمة. وأما بقية
العلوم فلا يوجد لها غالباً دليل قاطع
ومتين. وأما الدليل على أن(الفريضة
العادلة) تعود إلى علم الأخلاق هو وصف
الفريضة بالعادلة، لأن الخلق الحسن كما
تقرر في ذلك العلم ـ علم الأخلاق ـ هو
الخروج عن حدّ الإفراط والتفريط فان
كلاًّ منهما مذموم ومشين، وأما العدالة
التي هـي الحد المتوسط والمعتدل بينهما
فمستحسن. مثلا: إن الشجاعة التي هي
من أصول وأركان الخلق الحسن والملكة
الفاضلة، هي الحالة المتوسطة والمعتدلة
بين الإفراط، الذي يُعبّر عنه
بالتَهَوّر(وهو عدم الخوف من مورد ينبغي
الخوف فيه) والتفريط الذي يعبر عنه
بالجبن(وهو عبارة عن الخوف في موارد لا
ينبغي الخوف فيها). والحكمة التي تكون
من الأركان أيضاً تتوسط بين رذيلة(السفه)
وهو استعمال الفكر في غير مورده أو في
موارد التي لا ينبغي استعماله فيها. وبين
رذيلة (البُله) وهو عبارة عن تعطيل القوة
الفكرية في الموارد التي ينبغي
استعمالها فيها. وهكذا العفّة
فإنها تتوسط بين رذيلة الشره والخمود.
والسخاء يتوسط بين الإسراف والبخل. فالفريضة العادلة
تدل على انطباقها على علم الأخلاق. كما أن
كلمة(الفريضة) أيضاً تُشعر بذلك. لأن
الفريضة المقابلة للسُنّة الراجعة إلى
القسم الثالث، يجد العقل إلى استيعابها
سبيلا، كما هو شأن علم الأخلاق، على خلاف ـــــــــــــــ (1) سورة
النحل،آية: 11. (2) سورة
يونس، آية: 24. (3) سورة
الرعد، آية: 4. [
424 ] السُنّة التي تكون
تعبّداً صرفاً ويكون العقل عاجزا عن
إدراكه. ولهذا نقول إن(السنة
القائمة) تعود إلى العلوم التعبدية،
والآداب الشرعية التي يعبر عنها بالسنة ـ
فعل المعصوم وقوله وتقريره ـ والتي تعجز
العقول غالباً عن إدراكها. وينحصر طريق
إثباتها وفهمها بالسنة. كما أن توصيف
السنة بالقائمة يتناسب مع الواجبات
الشرعية، لأن كلمة إقامة الواجبات من
الصلوات والزكوات وغيرهما من التعابير
الشائعة الصحيحة. في حين أن هذه الكلمة لم
تستعمل في العلمين الآخرين ولم يكن
التعبير فيهما بالسنة صحيحا. هذا منتهى ما يمكن
تطبيقه في هذا الحديث الشريف حسب
المناسبات القائمة بين كلماته. والعلم
عند الله. (علامات العلوم النافعة) الآن نفسح المجال
لذكر النكتة التي وعدناكم بذكرها، وهي أن
الحديث الشريف قد عبّر عن علم العقائد
والمعارف بالآية وهي بمعنى العلامة،
والسرّ في التعبير هذا هو أن العلوم
العقلية، والحقائق الاعتقادية إذا تمّ
تحصيلها لأجل نفس هذه العلوم والحقائق
ولأجل تجميع المفاهيم والمصطلحات وزخرفة
العبارات وتزيين تركيب الكلمات بعضها مع
بعض ومن ثم نقلها إلى العقول الضعيفة،
للحصول على المقامات الدنيوية، لا تكون
مثل هذه العلوم من الآيات المحكمة، و
إنما هي حجب غليظة وأوهام واهية، لأن
الإنسان إذا لم يبتغ من وراء طلب العلم،
الوصول إلى الحق، والتحقق بأسماء الله
وصفاته، والتخلق بأخلاق الله، سيتحول كل
واحد من إدراكاته إلى دركات، وحجب مظلمة،
تسوّد قلبه وتعمي بصيرته، ويصبح من
مصاديق الآية المباركة التي تقول: (وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ
بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ
آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنسَى)(1). ـــــــــــــــ (1) سورة طه،
آية: 124. [
425 ] فإن المقياس في
البصر في عالم الآخرة، هو بصيرة القلب،
وأن الجسم والقوى تكون ـ في الآخرة ـ
تابعة للقلب واللُـبّ، وأن ظلّية ذلك
العالم، لهذا العالم تبدو بنحو أتمّ، وأن
ظِلّ الأعمى والأصم والأبكم تجاه آيات
الله تعالى، هو العمى والصمم والبكم في
يوم القيامة. لا يظن علماء
المفاهيم والمصطلحات والعبارات، وحافظو
الكتب في الصدور، بأنهم من أهل العلم
بالله والملائكة واليوم الآخر، فلو كانت
علومهم علامة وآية ـ على معرفة الله ـ
فلماذا لم تتنوّر قلوبهم من الآثار
النورانية؟ نعم قد أُضيفت على ظلمات
قلوبهم ومفاسد أخلاقهم و أعمالهم
الظلمات والفساد. والقرآن الكريم قد ذكر
المقياس لمعرفة العلماء حيث يقول: (إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ) فمن لا يخشى ولا يخاف
من الحق المتعالي فلا يعدّ من العلماء. هل في قلوبنا شيء
من آثار الخشية؟ وإذا كانت فلماذا لم يبد
أثر منها على ظاهرنا؟ ففي الحديث الشريف
عن الكافي بسنده إلى أبي بصير قال:(سَـمِعْتُ
أبَا عَبْدِ الله عليه السلام(أبا جعفر ـ
خ ل) يقول كان أمير
المؤمنين عليه السلام يقول: يا طالب
العلم إن للعلم فَضَائِلَ كَثِيرةٍ،
فَرَأسُهُ التَّواضُعُ، وَعَيْنُهُ
البَرَاءَةُ مِنَ الحَسَدِ، وأذُنُهُ
الفَهْمُ، وَلِسَانُهُ الصِّدقُ،
وحِفْظُهُ الفَحْصُ، وَقَلْبُهُ حُسْنُ
النِّيَّةِ، وَعَقْلُهُ مَعْرِفَةُ
الأشْيَاءِ وَالأُمُورِ، وَيَدُهُ
الرَّحْمَةُ، وَرِجْلُهُ زِيَارَةُ
العُلَمَاءِ، وَهِمَّتُهُ
السَّلاَمَةُ، وَحِكْمَتُهُ الوَرَعُ،
وَمُسْتَقَرُّهُ النَّجَاةُ،
وَقَائدُهُ العَافِيَةُ، وَمَرْكَبُهُ
الوَفَاءُ، وَسِلاحُهُ لِينُ
الكَلِمَةِ، وَسَيْفُهُ الرِّضَا،
وَقَوْسُهُ المُدَارَاةُ، وَجَيْشُهُ
مُحَاوَرَةُ العُلَمَاءِ، وَمَالُهُ
الأدَبُ، وَذَخِيرَتُهُ اجْتِنَابُ
الذُّنوبِ، وَزَادُهُ المَعْرُوفُ،
وَمَاؤُهُ المُوادَعَةُ، وَدَليلُهُ
الهُدَى، وَرَفِيقُهُ مَحَبَّةُ
الأخْيَارِ"(1). إن ما استعرضه
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يكون
من علامات العلماء، وآثار العلوم، فمن
حصل على العلوم السائدة وكان خالياً من
هذه الآيات، فليعلم بأنه لاحظ له من
العلم، بل هو من أصحاب الجهل والضلال،
وتوجب له في عالم الآخرة هذه المفاهيم
والجهل المركب والكلمات المتبادلة بينه
وبين العلماء الآخرين لدى التحقيق
والبحث، الحجب الظلمانية، وتكون حسرته
يوم القيامة أعظم الحسرات. فالمقياس في
العلم أن يكون آية وعلامة، ولا تكون له
إنّية ولا ـــــــــــــــ (1) أصول
الكافي، المجلد الأول، كتاب فضل العلم،
باب النوادر، ح 2. [
426 ] أنانية، بل تضمحل
لدى حصول العلم الإنّية، وتتلاشى
الأنانية ولا يغدو العلم باعثاً على
النخوة والأنانية والتظاهر والترفع. ثم عبر الإمام عليه
السلام عن العلم بـ(المحكمة) لأجل أن
العلم الصحيح لنورانيته وضيائه في
القلب، يوجب الاطمئنان، ويدحض الريب
والشك، ومن الممكن أن الإنسان طيلة حياته
يخوض في البراهين ومقدماتها، ويستدل لكل
واحد من المعارف الإلهية براهين عديدة
وأدلة كثيرة، ويتفوق على أقرانه في مقام
البحث والمنافسة، ولكن تلك العلوم لم
تؤثر في قلبه شيئاً، ولم تبعث لديه
الاطمئنان، بل تزيده شكاً وتحيّراً
والتباساً، فجميع المفاهيم و الإكثار من
المصطلحات، لا تجدي نفعاً، وإنما تُشغل
القلب بغير الحق سبحانه، وتثنيه عن الذات
المقدس، فيغفله. أيها العزيز إن
العلاج كل العلاج فيما إذا أراد الإنسان
أن يكون علمه إلهيا فعليه عندما يدرس أي
علم شاء، أن يبادر إلى مجاهدة النفس،
ويسعى بواسطة الرياضة الروحانية، في
سبيل تخليص نيته. فإن المنقذ الأساسي،
ومصدر الفيض، تخليص النية، والنية
الخالصة"مَنْ أَخْلَصَ لِلّهِ
أرْبَعينَ صَبَاحاً جَرَتْ يَنَابِيعُ
الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى
لِسَانِهِ" فهذه فوائد وآثار الإخلاص
في أربعين يوم. فأنت عندما بذلت الجهد
أربعين عاماً أو أكثر في سبيل تجمع
المصطلحات والمفاهيم العلمية، واعتبرت
نفسك علامة ومن جنود الله، ولكن لم تجد
أثرا للحكمة في قلبك، ولا طعماً لها على
لسانك فاعلم بأن دراستك وتعبك لم يقترنا
بالإخلاص بل إنما اجتهدت للشيطان
والرغبات النفسية. فعندما رأيت بأن هذه
العلوم لم تثمر ولم تنجع فانصرف ولو لأجل
الاختبار، نحو إخلاص النية وتصفية القلب
من الرذائل والكدر، فإذا لمست أثراً حاول
أن تستمر في ذلك أكثر. وإن كانت التصفية
لأجل الاختبار كانت هذه النية متنافية مع
الإخلاص، ولكن من المحتمل أن بصيصاً من
نورها يهديك. وعلى أي حال أيها
العزيز أنت محتاج في جميع العوالم: عالم
البرزخ وعالم القبر وعالم القيامة
ودرجاتها إلى المعارف الإلهية الحقة،
والعلوم الحقيقية والخلق الحسن والأعمال
الصالحة. فاجتهد أينما كنت من هذه
الدرجات والمراتب، وأكثر من إخلاصك وأزل
عن قلبك أوهام النفس ووساوس الشيطان حتى
تظهر لك [
427 ] النتائج، وتجد
سبيلا إلى الحقيقة، وينفتح لك طريق
الهداية، ويكون الله سبحانه في عونك. يعلم الله سبحانه
بأننا إذا انتقلنا مع هذه العلوم التافهة
الباطلة وهذه الأوهام الفاسدة والقلب
الكدر والخلق الذميم إلى عالم الآخرة،
كيف تكون مصائبنا ومحنتنا، وكيف يكون
مصيرنا، وأن أيّ ظلم ووحشة وعذاب توفر
لنا هذه العلوم وهذه الأخلاق؟ (أقسام العلوم الدنيوية
والأخروية) نقل محقق الفلاسفة
صدر الحكماء والمتألهين قدس الله سره
وأجزل أجره في(شرح أصول الكافي) عن الشيخ
الغزالي كلاماً طويلاً خلاصته: أن العلوم
تنقسم إلى علوم دنيوية وأخروية، وجعل علم
الفقه من العلوم الدنيوية. وقسم العلوم
الأخروية إلى علم المكاشفة والمعاملة
واعتبر علم المعاملة، هو العلم بأحوال
القلوب، وعلم المكاشفة نور يحصل في القلب
بعد تطهيره من الصفات المذمومة، وبه
تنكشف الحقائق، وتحصل المعرفة الحقيقية
بالذات والأسماء والصفات والأفعال
وأسرارها وكافة المعارف الإلهية(1). ولما كان هذا
التقسيم مرضياً لدى المحقق المذكور قال
في شرح هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه:(الظاهر
أن هذا التقسيم الحاصر الذي بينه رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود إلى
علوم المعاملات، لأن معظم الناس ينتفعون
من هذه العلوم، وأما علوم المكاشفة،
فتحصل لدى قليل من الناس وتكون أعزّ من
الكبريت الأحمر، كما تدل عليه أحاديث
كتاب الإيمان والكفر التي سنذكرها). يقول الكاتب إن في
كلام الشيخ الغزالي إشكال. وعلى فرض صحة
كلامه وعدم توجه الإشكال عليه، يرد إشكال
آخر على ما ذكره صدر المتألهين رحمه الله ـــــــــــــــ (1) إحياء
العلوم للغزالي، المجلد الأول، ص 19 طباعة
دار المعرفة بيروت. [
428 ] تعالى. أما
الاعتراض على كلام صدر المتألهين حسب فرض
صحة كلام الغزالي، فهو أن الغزالي اعتبر
علم المعاملات الذي هو العلم بأحوال
القلب من المنجيات حينا مثل الصبر والشكر
والخوف والرجاء وغير ذلك، ومن المهلكات
حيناً آخر مثل الحقد والحسد والغل والغش
وغيرها، وعليه لا تكون العلوم الثلاثة
التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم من علوم المعاملة إلا قسم واحد منها
وهو الفريضة العادلة، وقد تقدم شرح ذلك.
في حين أن صدر المتألهين جعل العلوم
الثلاثة من علوم المعاملة. وأما الملاحظة
الواردة على كلام الشيخ الغزالي فتتجسد
في أمرين: أحدهما: إنه اعتبر
علم الفقه من العلوم الدنيوية والفقهاء
من علماء الدنيا، مع أن هذا العلم من أعز
علوم الآخرة. وهذا التوجه، نشأ من حب
للنفس، وحب ما يتصور أنه من أهله وهو علم
الأخلاق بالمعنى المتعارف المتداول بين
الناس، ولهذا طعن في كل العلوم، حتى
العلوم العقلية. ثانيهما: إنه جعل
المكاشفات جزءا من العلوم وأوردها في
تقسيمات العلوم في حين أن الحق يستدعي أن
نقول بأن العلم هو الذي يشتمل على التدبر
والتمعن والبرهان والاستدلال، بينما قد
تكون المكاشفات والمشاهدات نتيجة العلوم
الحقيقية، وقد تكون من جراء الأعمال
القلبية. وعلى أي حال إن المشاهدات
والمكاشفات، والتحقق بحقائق الأسماء
والصفات، يجب أن لا تندرج في تقسيمات
العلوم، لأن العلوم في واد والمكاشفات في
واد آخر. والأمر سهل. (أقسام العلوم حسب ما ورد
في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم)
إعلم أن كثيراً من
العلوم تندرج على تقدير في قسم من
الأقسام الثلاثة التي ذكرها رسول الله،
وعلى تقدير آخر في قسم آخر. مثلاً: إن علم
الطب والتشريح والنجوم والأفلاك وما
يضاهيها، إذ جعلناها آية وعلامة، وكذلك
علم التاريخ وأمثاله، إذا ألقينا عليه
نظرة اعتبار واتّعاظ، اندرج جميعها في(الآية
المحكمة)، [
429 ] لأنه يحصل
بواسطتها العلم بالله أو بالمعاد، أو
يتأكد العلم بالله وبالمعاد وقد يندرج
تحصيلها في (الفريضة العادلة) وقد يندرج
تحت(السنة القائمة). وأما إذا كانت
دراسة هذه العلوم، لأجل ذاتها أو لأجل
أهداف أخرى، فلو شغلتنا عن علوم الآخرة،
لأصبحت مذمومة بالعرض، لأنها صرفت الناس
عن الآخرة، وإن لم تشغلنا عن علوم الآخرة
فليس فيها ضرر أو نفع، كما قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم. فالعلوم بصورة
كليّة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول ـ ما كان
نافعاً للإنسان حسب أحواله في النشآت
الأخرى التي يعتبر الوصول إليها غاية
التكوين والكائنات. وهذا القسم هو الذي
جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
علماً، وقسّمه إلى الأقسام الثلاثة التي
وردت في الحديث الشريف. الثاني ـ ما يضر
بالإنسان ويصرفه عن وظائفه اللازمة.
ويكون هذا القسم من العلوم المذمومة التي
يجب على الإنسان أن لا يقترب منها مثل علم
السحر، والشعوذة وأمثالهما... الثالث ـ ما لا
يوجد فيها ضرر ولا نفع، فيهدر الإنسان
وقته عليها للتسلّي والتلهّي، مثل علم
الموسيقى وعلم الأنساب والحساب والهندسة
والأفلاك وأمثال ذلك. ولو استطاع الإنسان
أن يُدخل هذا النوع من العلم تحت واحد من
العلوم الثلاثة لكان أفضل. وإن لم يتمكن
من ذلك، فعدم الاشتغال يكون حسناً. لأن
الإنسان العاقل عندما عرف بأنه مع هذا
العمر القصير، والوقت القليل، والحوادث
الكثيرة، لا يستطيع أن يكون جامعاً لكل
العلوم وحائزاً على جميع الفضائل، فلابد
له من التفكير والتأمل في العلوم،
واختيار ما يكون له أنفع، والانصراف
إليه، وتكميله. ومن العلوم أن ما هو أنفع من كل
العلوم وأهمها بالنسبة إلى حياته
الأبدية الخالدة هو العلم الذي أمر به
الأنبياء عليهم السلام والأولياء، وحثوا
الناس على تعلّمه، وهو هذه العلوم
الثلاثة التي ذكرناها. والحمد لله تعالى. [
430 ] الحَديث
الخامِس وَالعشرون
"الـشك والوسوسة" [
431 ] بِسَنَدِي
المتَّصِلِ إلى شيـخ المحدثين وأفضـلِهم
محمَّدِ بن يعقوبَ الكلينيِّ ـ رحمه الله
تعالى ـ عن مُحَمَّدِ بنِ يحيى، عن أحمدَ
بن محمَّدٍ، عن أبن محبوبٍ، عن عبداللهِ
بنِ سِنانٍ قالَ:" ذَكَرْتُ لأَبِي
عَبْدِاللهِ عليه السلام رَجُلاً
مُبْتَلىً بِالوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ
وَقُلْتُ: هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ . فَقالَ
أبو عَبْدِاللهِ عليه السّلام: وَأيُّ
عَقْلٍ لَهُ وَهُوَ يُطيعُ
الشَّيْطَانَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ
يُطيعُ الشَّيْطَانَ؟ فَقالَ: سَلْهُ
هذَا الَّذِي يَأتِيهِ مِنْ أَيِّ
شَيْءٍ هُوَ؟ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ:
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" (1). ـــــــــــــــ (1) أصول
الكافي ، المجلد الأول، كتاب العقل
والجهل، ح 10. [
432 ] إعلم أن الوسوسة
والشك والتزلزل والشرك وأشباهها من
الخطرات الشيطـانية والإلقاءات
الإبليسية التي تُقذف في قلوب الناس. كما
أن الطمأنينة واليقين والثبات والإخـلاص
وأمثالها من الإفاضات الرحمانية
والإلقاءات المُلكية. وتفصيل هذا
الإجمال بصورة مختصرة هو: أن قلب الإنسان
شيء لطيف متوسط بين نشأة المُلك ونشأة
الملكوت، بين عالم الدنيا وعالم الآخرة،
عين منه نحو عالم الدنيا والمُلك ، وبها
يعمّر هذا العالم، وعين أخرى منه نحو
عالم الآخرة والملكوت والغيب، وبها
يعمّر عالم الآخرة والملكوت. فالقلب بمثابة
مرآة لها وجهان، وجه منها نحو عالم
الغيب، وتنعكس فيه الصور الغيبية، ووجه
آخر نحو عالم الشهادة وتنعكس فيه الصور
المُلكية الدنيوية. ويتم انعكاس الصور
الدنيوية من خلال القوى الحسّية
الظاهرية وبعض القوى الباطنية مثل
الخيال والوهم. وتنـتـقش الصور الأخروية
فيها من باطن العقل وسرّ القلب. فإذا قويت
الوجهة الدنيوية، والتفتت كلياً إلى
تعمير الدنيا، وانحصرت همته في هذا
العالم واستغرق في ملاذ البطن والفرج،
وكافة المشتهيات والمتع الدنيوية، انعطف
باطن الخيال نحو الملكوت السفلي، الذي
يكون بمثابة الظل المظلم لعالم المُلك
والطبيعة، وعالم الجن والشياطين والنفوس
الخبيثة، وتكون الالقاءات شيطانية،
وباعثة على تخيّلات باطلة وأوهام خبيثة.
وحيث أن النفس تنتبه إلى الدنيا، إشتاقت
إلى تلك التخيلات الباطلة، وتبعها أيضاً
العزم والإرادة، وتتحول كل الأعمال
القلبية والقالبية إلى سنخ الأعمال
الشيطانية من قبيل الوسوسة [
433 ] والشك والترديد
والأوهام والخيالات الباطلة. وتصبح
الإرادة على ضوء ذلك في مُلك الجسم
فعّالة، وتتجسد الأعمال البدنية أيضاً
حسب الصور الباطنية للقلب، لأن الأعمال
صورة وتمثال للإرادات، التي هي صور ومثال
للأوهام التي بدورها إنعكاس لاتجاه
القلب. وحيث أن وجهة القلب كانت نحو عالم
الشيطان، كانت الإلقاءات في القلب من سنخ
الجهل المركب الشيطاني، وفي النهاية
تستشري من باطن الذات، الوسوسة والشك
والشرك والشبهات الباطلة وتسري في كل
أنحاء الجسم. وعلى هذا القياس
المذكور، إذا كانت وجهة القلب نحو تعمير
الآخرة، والمعارف الحقة، وعالم الغيب،
لحصل له وئام مع الملكوت الأعلى، الذي هو
عالم الملائكة وعالم النفوس الطيبة
السعيدة، والذي يكون هذا العالم بمثابة
الظل النوراني لعالم الطبيعة، واعتبر
العلوم التي تفاض عليه من العلوم
الرحمانية الملكية والعقائد الحقة وغدت
الخواطر من الإلقاءات والخواطر الإلهية
، ويتطهر من الشك والشرك ويتنزه منهما،
وحصلت الإستقامة والطمأنينة في النفس،
وصارت أشواقها أيضاً على ضوء تلك العلوم،
وإرادتها على ضوء تلك الأشواق. ومجمل
الكلام أن الأعمال القلبية والقالبية
والظاهرية والباطنية، تتحقق على أساس
العقل والحكمة. ولهذه الإلقاءات
الشيطانية والمَلكية والرحمانية مراتب
ومقامات، لا تسمح هذه الصفحات فعلاً في
التطرق إلى تفصيل ذلك. وتدل على ذلك بعض
الأخبار الشريفة، مثل ما ورد في مجمع
البيان عن العياشي: روى العيّاشي
بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمّد
عليهما السّلام قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: "مَا
مِنْ مُؤْمِنٍ إلاّ وَلِقَلْبِهِ فِي
صَدْرِهِ أُذُنَانِ: أُذُنٌ يَنْفُثُ
فِيهَا المَلَكُ وَأُذُنٌ يَنْفُثُ
فِيهَا الوَسْوَاسُ الخَنّاسُ،
يُؤَيِّدُ اللهُ المُؤْمِنَ بِالمَلَكِ
وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ" (1). ـــــــــــــــ (1) مجمع
البيان، المجلد العاشر، ص 571. [
434 ] وفي مجمع البحرين:
في حديث آخر: إنَّهُ قَالَ: الشَّيْطَانُ
واضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ
آدَمَ، لَهُ خُرْطُومٌ مِثْلُ خُرْطُومِ
الخَنْزِيرِ، يُوَسْوِسُ لابْنِ آدَمَ
أنْ أَقْبِلْ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا
لاَ يُحِلُّ اللهُ. فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ
خَنَسَ"(1) إلى غير ذلك من الروايات. (الوسوسة من الأعمال
الشيطانية) بعد أن علمنا عن
طريق أهل المعرفة أن الوسوسة من الأعمال
الشيطانية، كما ورد في هذا الحديث الشريف
الذي نحن بصدد شرحه والأحاديث الأخرى
نضطر إلى بيان هذا الموضوع بطريق آخر
يكون أقرب إلى أذهان العامة وأكثر
ملائمةً لها، رغم أن البيان السابق عند
أهله موافق للقواعد العقلية والضوابط
البرهانية ومطابق لذوق أهل المعرفة
ومشاهدات أصحاب القلوب، ولكن حيث انه
يرتكز على قواعد وأسس خارجة عن مستوى هذا
الكتاب، ننصرف عن بيانها ونقتصر على ذكر
أصل الموضوع فنقول: إن الشاهد على أن
هذه الوساوس والأعمال من ألعاب الشيطان
وإلقاءات ذلك الملعون، وأنه لا يوجد لها
دافع ديني وباعث إيماني ، رغم زعم صاحبها
أن دافعه أمر ديني، هو أن هذه الوساوس
تخالف أحكام الشريعة وأخبار أهل بيت
العصمة والطهارة. مثلاً: وردت في
أحاديث متواترة عن طريق أهل بيت العصمة
عليهم السلام، كيفية وضوء رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم من أنها كانت غسلة
واحدة. ومن ضروريات الفقه اجزاء غَرفة
واحدة للوجه، وغرفة لغسل اليد اليمنى
وغَرفة لغسل اليد اليسرى وأما الإجزاء مع
غَرفتين أو غسلتين لكل من الوجه واليد
اليمنى واليسرى ، فهو محل خلاف حتى أنه
يستفاد من وسائل الشيعة الفتوى بعدم
الجواز أو التأمل في عدم الجواز. ونقل عن
آخرين خلاف ذلك. مع أن جواز الغسلتين لا
يكون محل تأمل أيضاً. والشهرة العظيمة مع
الأخبار الكثيرة دالة على استحبابه، لكن
لا يبعد أفضلية الغسلة الواحدة شريطة أن
يصل الماء إلى جميع ـــــــــــــــ (1) مجمع
البحرين، مادة خنس ، ص 305. [
435 ] أطراف العضو الذي
نريد أن نغسله. مع العلم بأن الغَسل ثلاث
مرات بأن نصبّ الماء في كل مرة على أن
يستوعب الماء العضو المغسول هو بدعة
وحرام من دون أي محذور، ووضوئه يكون
باطلاً إذا مسح مع رطوبة الغسلة الثالثة.
وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام أن
الغسلة الثالثة بدعة، وكل بدعة في النار. وعليه فإن الإنسان
الجاهل المبتلى بالوسوسة، يغسل أعضاء
الوضوء أكثر من عشر مرات وفي كل مرة يوصل
الماء إلى كل أطراف العضو الذي يُريد أن
يغسله بدقة متناهية، بل يغسل العضو حتى
يجري ماء الوضوء ويتحقق الغسل الشرعي ثم
يكرر الغسل مرات عديدة، فمع أي مقياس
نستطيع أن نطبق عمله هذا؟ ومع أي حديث أو
فتوى فقيه يتطابق عمله؟ لقد صلى المسكين
عشرين عاماً أو أكثر مع مثل هذا الوضوء
الباطل، وتظاهر أمام الناس أنه في منتهى
القدسية والطهارة. إن الشيطان قد داعبه
والنفس الأمارة بالسوء، قد غرّرته، ومع
هذا كله يخطيء الآخرين ويرى نفسه مصيباً. إن الذي يخالف النص
المتواتر وإجماع العلماء ، هل يجب أن
نعدّه من عمل الشيطان أو من طهارة النفس
وتقواها؟ فإذا كانت هذه الوسوسة من جراء
منتهى التقوى والاحتياط في الدين فلماذا
نجد الكثير من ذوي الوسوسة التي لا مبرر
لها والجهلة المتنسكين، لا يحتاطون في
مواضع يجب الاحتياط فيها أو يستحب؟ هل
سمعت أحداً يعيش حالة الوسوسة في الشبهات
المالية؟ مَن من الوسواسين دفع الزكاة
والخمس مرات عديدة ؟ وذهب إلى الحج لأداء
الواجب مرات متكررة؟ وأعرض عن الطعام
المشتبه؟ لماذا كانت أصالة الحلية في
الأطعمة المشتبه جارية وأصالة الطهارة
في مشكوك النجاسة غير جارية؟ مع أنه في
باب مشكوك الحلية من الراجح الاجتناب.
وتدل على ذلك الأحاديث الشريفة مثل حديث
التثليث(1). عن أبي عبدالله عليه السلام في
حديث قال وإنما الأمور ثلاثة: أَمْرٌ
بَيِّنٌ رُشْدَهُ فَيُتَّبَعْ وَأَمْرٌ
بَيِّنٌ غَيَّهُ فَيُجْتَنَبْ وَأَمْرٌ
مُشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَى اللهِ
وَإِلَى رَسُولِهِ ـ وفي باب الطهارة عكس
ذلك ـ كُلُّ شَيْءٍٍ لَكَ طَاهِرٌ حَتَّى
تَعْلَمَ أَنَّهُ نَجِسٌ. كان أحد الأئمة
المعصومين سلام الله عليه وعليهم السلام
إذا ذهب لقضاء حاجته ـــــــــــــــ (1) وسائل
الشيعة، المجلد 18 الباب الثاني عشر من
أبواب صفات القاضي، ح 9. [
436 ] رش الماء على
فخذيه، حتى إذا ترشحت لدى الاستبراء أو
الاستنجاء قطرات من الماء لم يحسٌ بذلك ـ
فهو لم يحتط ولم يتوسوس ـ . وهذا المسكين
الذي يري نفسه محتذياً حذو الإمام
المعصوم عليه السلام وآخذاً دينه منه، لا
يتقي لدى التصرف في الأموال، ولا يحتاط
تجاه الطعام بل يتّكل على قاعدة أصالة
الطهارة ويأكل، ثم يقوم ويغسل فمه ويديه.
إنه حين الأكل يتمسك بأصالة الطهارة وبعد
أن يشبع يقول كل شيء نجس، وإذا كان من أهل
العلم برّر عمله هذا بأنني أريد أن أصلي
مع الطهارة الواقعية، مع أننا لم نعرف
ميزة للصلاة مع الطهارة الواقعية. ولم
ينقل عن أحد من الفقهاء رضوان الله عليهم
اعتبار الطهارة الواقعية في الصلاة.
وعليه إذا كنت من أهل الطهارة الواقعية
فلماذا لم تكن من أهل الحلّية الواقعية ؟
وإذا فرضنا أنك أردت الطهارة الواقعية
فما معنى الغسل في الماء الكر أو الجاري
عشر مرات؟ مع أنه يكفي الغسل مرة واحدة من
غير البول أو بعض النجاسات الأخرى في
الماء الجاري أو في الماء الكر. وأما في
البول فتكفي مرة واحدة على المشهور وتكفي
مرتان إجماعاً فلا يكون الغسل لمرات
عديدة إلا من تدليس الشيطان وتسويل النفس.
وحيث أن ذلك لا يتطلب جهداً منا نجعله رأس
المال للتظاهر يالقدسيّة. وأسوأ من كل ذلك
وأكثر فضيحة ، وسوسة البعض لدى نية
الصلاة وتكبيرة الإحرام ، لأنه يرتكب عدة
محرمات، ويعتبر نفسه من المقدسين، ويرى
بهذا العمل ميزة لنفسه. هذه النية التي
تتوقف عليها الأعمال الاختيارية بأسرها،
وتعدّ من الأمور اللازمة للأعمال
الاختيارية، ولا يستطيع الإنسان أن يأتي
بعمل من الأعمال العبادية أو غير
العبادية من دونها ، فمع هذا الوصف ومع
مختلف أساليب الشيطنة وهيمنة الشيطان
عليه قد يبتلى ساعة أو ساعات لإنجاز هذا
الأمر الضروري الوجود وفي النهاية قد لا
يحصل. فهل إن هذا الأمر من الخواطر
الشيطانية وأعمال إبليس لعنه الله الذي
وضع الطوق واللجام على هذا المسكين،
وأخفى عليه هذا الأمر الضروري وابتلاه
بالمحرّمات الكثيرة من قبيل قطع الصلاة،
وتركها وتجاوز وقتها، أو أنه من طهارة
الباطن والقدس والتقوى ؟ ومن شؤون الوسوسة
عدم الإقتداء بأشخاص حكم عليهم بالعدالة
نصاً [
437 ] وفتوىً، فإن
ظاهرهم من أهل الصلاح ومن المحافظين على
الأعمال الشرعية وباطنهم معلوم عند
الله، ولا يجب علينا البحث والتفتيش
الدقيق عنهم، بل لا يجوز البحث والتحرّي
عنهم ومع ذلك نرى الشيطان يلجمه ويقوده
إلى زاوية من زوايا المسجد معتزلاً عن
جماعة المسلمين فيصلي فرادى ويعلل عدم
التحاقه بالجماعة بأنني أحتاط ولا أجد
توجهاً قلبياً نحو الجماعة ولكنه لا
يتضايق من إمامته للجماعة مع أن الإمامة
أصعب، ومحل التباسها أكثر ولكن لمَّا
كانت الإمامة موافقة للرغبات النفسية لا
يحتاط في ذلك. ومن شؤون الوسوسة
التي يكثر الابتلاء بها الوسوسة في قراءة
الفاتحة في الصلاة حيث قد تخرج نتيجة
التكرار للحروف أو الكلمات وتفخيمها من
القواعد التجويدية وقد تتغير صورة
الكلمة كلياً. مثلاً ينطق حرف الضـاد من
كلمة (الضــالين) بصورة تقترب من حرف
القاف. ويتفوه بالحاء في(الرحمن الرحيم)
وكأنه ينطق كلمة غريبة ويفصل بين حرف
وحرف في كلمة واحدة مما يسبب تغييراً في
هيئة الكلمة ومادتها وتنسلخ الكلمة عن
وضعها الطبيعي. ومجمل القول إن الصلاة
التي تعدّ معراجاً للمؤمن، وقرباناً
للمتقين، وعموداً للدين تفرغ من كافة
شؤوناتها المعنوية وأسرارها الإلهية
وتتحول إلى كلمات يراد لها التجويد
وكيفيّة الإلقاء، ومن ثمَّ ينجرّ تجويد
الكلمات، إلى فسادها وعدم إجزائها
وكفايتها بحسب ظاهر الشرع . فهل إن هؤلاء
وفي هذه الحالات، يعيشون وساوس الشيطان
أو تغمرهم فيوضات الرحمن؟ لقد وردت روايات
كثيرة في حضور القلب لدى الصلاة، والتوجه
القلبي في العبادات ولكن هذا المسكين عرف
من حضور القلب علماً وعملاً، الوسوسة في
النية ومدّ كلمة (ولا
الضالين) أكثر من القدر اللازم،
وتغيير تقاسيم الوجه والفم حين تلفظ
الكلمات. أليست هذه بمصيبة
حيث أن الإنسان يغفل سنيناً طويلة عن
حضور القلب ومعالجة قلقه النفسي ولم
يتصدّ لإصلاحه، ولا يعتبر لحضور القلب
شأناً من شؤون العبادة، ولم يتعلم كيفية
تحصيله من علماء القلوب ـ العرفاء ـ ولم
يلتزم به، [
438 ] ويشتغل بهذه
الأباطيل التي تكون من الخنّاس اللعين
حسب نصّ الكتاب الكريم. وأنها من عمل
الشيطان حسب تصريح الصادِقَين عليهم
السلام بذلك. وإن العمل بها يوجب
البطلان، كما ذكرتها فتاوى الفقهاء لكنه
يعتبر كل ذلك من شؤون الطهارة والقدسية؟ وقد تحدث الوسوسة
أو تشتد من جرّاء أن جهلةً مثل هذا
الإنسان الوسواسي يطرون عليه ويعتبرون
وسوسته من الفضائل، ويثنون على ديانته
وقدسيته وتقواه، قائلين إنه نتيجة شدَّة
دينه وتقواه أصبح وسواسياً، مع أن
الوسوسة لا ترتبط بالديانة أبداً، بل هي
مخالفة للدين ومن ثمار الجهل وعدم العلم.
ولكنهم لما لم يبيّنوا له حقيقة الأمر،
ولم يبتعدوا عنه ولم يؤنبوه بل على العكس
مدحوه وأثنوا عليه استمر في عمله الشنيع،
حتى بلغ نهايته وجعل نفسه لعبة بيد
الشيطان وجنوده، فأقصاه الشيطان من ساحة
قدس المقرَّبين. فيا أيها العزيز،
بعد أن عُلم نقلاً وفعلاً بأن هذه
الوساوس من الشيطان وهذه الخواطر من عمل
إبليس، الذي يفسد عملنا، ويصرف قلوبنا عن
الحق المتعالي. ومن المحتمل أنه لا يكتفي
بهذه الوسوسة في العمل، بل يبدي البراعة
ليدخل الوسوسة في العقيدة والدين، ويبعد
دينك عن دين الله ويجعلك شاكاً في المبدء
والمعاد ويدفعك إلى الشقاء الأبدي. وإذا
لم يستطع أن يضلّل أشخاصاً عبر الفسق
والفجور، فهو يسلك سبيل العبادات
والمناسك فيبطل نهائياً الأعمال
والأفعال التي يجب أن يتقرب بها إلى
الله، ونعرج من خلالها إلى الحق
المتعالي، ويجعلها دوافعاً للابتعاد عن
ساحة القدس الربوبي جل شأنه والتقرب من
إبليس وجنوده. وعلى أي حال يخشى من أن
يعبث في عقائدك. بعد علمنا ذلك لا بد من
السعي في سبيل معالجة هذه الحالة بأي شكل
كان وبواسطة أي ترويض روحاني ممكن. (معالجة الوسوسة عن طريق
العلم والعمل) إعلم أن معالجة هذه
الآفة القلبية التي يخشى منها أن تؤدي
بالإنسان إلى ـــــــــــــــ (1) (مِنْ
شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)(الناس4). [
439 ] الهلاك الأبدي
والشقاء الدائم، كبقية الأمراض القلبية،
يمكن أن تتم بواسطة العلم النافع والعمل
بكل سهولةٍ ويسرٍ. فيجب أولاً أن يشعر
الإنسان بأنه سقيم، حتى يسعى في سبيل
المعالجة. ولكن النقص يكمن في أن الشيطان
قد يزين له الأمور على مستوى لا يرى فيه
هذا المسكين نفسه مريضاً، وإنما الآخرون
يرونه منحرفاً عن السبيل وغير مكترث
بالدين. أما المعالجة لهذه
الآفة القلبية بواسطة العلم فيكون
بالتفكر في هذه الأمور المذكورة، حيث
يجدر بالإنسان أن تكون أعماله وأفعاله
نتيجة التفكر والتأمل. بأن يفكر في أن هذا
العمل الذي يريد أن ينجزه ويريد أن يجعله
مرضياً لله تعالى من أي مصدر يكون وممن
يؤخذ حتى تكون كيفيته بذلك الشكل
المخصوص؟ ومن الواضح أن العوام من الناس
يأخذون من الفقهاء كيفية العمل ومراجع
التقليد يستنبطونها من الكتاب والسنة
والقواعد الفقهية. وعندما نرجع إلى
الفقهاء نسمع منهم القدح في عمل
الوسواسي، ويرون بعض أعماله باطلة،
وعندما نرجع إلى الأحاديث الشريفة،
والكتاب الإلهي نجد بأن عمله يعتبر من
الشيطان ويجعل صاحبه مجنوناً. إذن إن
الإنسان العاقل إذا فكر وتدبر قليلا قبل
أن يهيمن الشيطان على عقله لأوجب على
نفسه الإقلاع عن هذا العمل الفاسد، ولسعى
في سبيل تصحيح عمله حتى يكون مرضياً عند
الحق المتعال. ويجب على كل من يشك
في حصول الوسوسة عنده، أن يكون مثل الناس
العوام، في عرض عمله على العلماء
والفقهاء، والاستفهام منهم بأنه هل
ابتلي عمله بمرض الوسوسة أم لا؟ لأنه
كثيراً ما يكون الإنسان الوسواسي غافلاً
عن حاله ومعتقداً بأنه معتدل وأن الآخرين
غير مكترثين بالدين. ولكنه إذا فكّر
قليلاً، لوجد أن مصدر هذا الاعتقاد هو
الشيطان وإلقاءاته الخبيثة، لأنه يرى
بأن العلماء والفقهاء الكبار ومن الذين
يؤمن بعلمهم وعملهم، بل ويكونون مراجع
المسلمين في أخذ مسائل الحلال والحرام
منهم، يعملون بما يُغاير عمله. ولا
يستطيع القول بأن الملتزمين غالباً
والعلماء والفقهاء لا يحفلون بدين الله
وأن الإنسان الوسواسي وحده يتقيد بالدين. وعندما أدرك ضرورة
إصلاح العمل، دخل مرحلة العمل، والعمدة
في هذه [
440 ] المرحلة عدم
الاهتمام بالوساوس الشيطانية والأوهام
التي تلقى عليه. فمثلاً إذا كان ـ مجتهداً
ـ ومبتلياً بالوسوسة في الوضوء، فليتوصأ
مع غَرفة واحدة رغم وسوسة الشيطان. إن
الشيطان يوسوس ويقول بأن هذا العمل ليس
بصحيح ولكن يواجهه بأن عملي لو لم يكن
صحيحاً لوجب أن لا يكون عمل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم والأئمة الطاهرين
عليهم السلام والفقهاء جميعاً صحيحاً.
لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمة الطاهرين قد توضأوا في فترة
طويلة تقرب من ثلاثمائة سنة، وكانت كيفية
وضوء جميعهم واحدة. فإذا كان عملهم
باطلاً، فليكن عملي باطلاً أيضاً. وإذا
كنت مقلداً لمجتهد، فأجب الشيطان بأنني
أعمل على ضوء فتوى المجتهد، فإذا كان
وضوئي باطلاً، فلا يؤاخذني ربي عليه، ولا
تكون عليّ حجته. وإذا أوقعك الشيطان
الملعون في الشك قائلاً بأن المجتهد لم
يقل هكذا فافتح رسالته العلمية وتأكد من
صحة العمل، فإذا لم يعبأ بإلقاءاته عدة
مرات وعملت على خلاف رأيه غدا آيساً منك.
ونرجو أن تكون المعالجة النهائية لمرضك.
كما ورد هذا المعنى في الأحاديث الشريفة: فعن الكافي
بإسناده عن زرارة وأبي بصير قالا: "قُلْنَا
لَهُ: الرَّجُلُ يَشُكُ كَثيراً في
صَلاَتِهِ حَتَّى لا يَدْري كَمْ صَلّى
وَلاَ مَا بِقِيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ:
يُعيدُ. قُلْنَا لَهُ: فَإِنَّهُ يَكْثُر
عَلَيْهِ ذلِكَ، كُلَّمَا أَعَادَ شَكَّ.
قَالَ: يَمْضِي فِي شَكِّهِ، ثُمَّ قَالَ:
لاَ تُعَوِّدُوا الخَبِيثَ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ بِنَقْضِ الصّلاةِ
فَتُطْمِعوهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
خَبِيثٌ يَعْتَادُ لِمَا عُوِّدَ،
فَلْيَمْضِ أَحَدُكُمْ فِي الوَهْمِ
وَلاَ يُكْثِرَنَّ نَقْضَ الصَّلاَةِ
فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذلِكَ مَرّاتٍ
لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ الشَّكُّ. قَالَ
زُرَارَةُ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا يُريدُ
الخَبيثُ أَنْ يُطاعَ فَإِذَا عُصِيَ
لمْ يَعُدْ إِلَى أَحَدِكُمْ."(1). وبإسناده عن أبي
جعفر عليه السلام قالَ: "إذا
كَثُرَ عَلَيْكَ السَّهْوُ فَامْضِ فِي
صَلاَتِكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ
يَدَعَكَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ
الشَّيْطَانِ"(2). ومن الوضوح بمكان
أنك إذا خالفت الشيطان فترة من الزمان،
ولم تلق بالاً لوساوسه، لا نقطع طمعه
عنك، وعادت الطمأنينة والسكون إلى نفسك.
ولكن في غضون أيام تصدّيك للشيطان، تضرّع
إلى ساحة الحق المتعالي والتجئ إلى ذاته ـــــــــــــــ (1) و(2) فروع
الكافي، المجلد 3، ص 358 و 359. [
441 ] المقدس من شرّ ذاك
الملعون وشر النفس، واستعذ بالله منه وهو
يعينك عليه كما ورد في الكافي الأمر
بالاستعاذة من الشيطان. بإسناده عن أبي عبد
الله عليه السلام قال:"أتى رَجُلٌ
النَّبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم
فقالَ: يا رَسولَ اللهِ أشكو إلَيْكَ مَا
ألقىَ مِنَ الوَسْوَسَةِ فِي صَلاَتِي
حَتّى لاَ أَدْرِي مَا صَلَّيْتُ مِنْ
زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَقالَ إِذَا
دَخَلْتَ فِي صَلاَتِكَ فَاطْعَنْ
فَخِذَكَ الأَيْسَرَ بِأصْبَعِكَ
اليُمْنَى المُسَبِّحَةِ ثُمَّ قُلْ:
بِسْمِ الله وَبِالله، تَوَكَّلْتُ
عَلَى الله، أعوذُ بِالله السَّمِيع
العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيم، فَإِنَّكَ تَنْحَرُهُ
وَتَطْرُدُهُ"(1). والحمد لله
أَوَّلاً وَأخراً وظاهراً وباطناً،
والصَّلاة والسّلام على محمّدٍ وآله
الطاهرين. ـــــــــــــــ (1) فروع
الكافي ، المجلد 3 ص 359. [
442 ]
|
||||||||
|