.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الاُسرة والمجتمع

أولاً: صلة الأرحام

صلة الأرحام في الأحاديث الشريفة:

قطيعة الأرحام في الأحاديث الشريفة:

الآثار الروحية والمادية لصلة الأرحام وقطيعتها:

 ثانياً: حقوق الجيران

 الوصايا الشريفة:

 حسن الجوار:

حق الجار في رسالة الحقوق:

ثالثاً: حقوق المجتمع

حقوق المجتمع في القرآن الكريم:

 


الفصل الخامس

الاُسرة والمجتمع

الاُسرة هي اللبنة الاُولى لتكوين المجتمع، وهي الخلية التي تقوم بتنشئة العنصر الإنساني وتشكيل دعائم البناء الاجتماعي، وهي نقطة البدء المؤثرة في جميع مرافق المجتمع، وفي جميع مراحل حياته إيجاباً وسلباً، ولهذا أبدى الإسلام عناية خاصة بالاُسرة، فوضع القواعد الأساسية في تنظيمها وضبط شؤونها من حيث علاقات أفرادها في داخلها، وعلاقاتهم مع المجتمع الكبير الذي يعيشون فيه.
وقد عني الفصل السابق بموضوع العلاقات بين أفراد الاُسرة الواحدة، فيما يختص هذا الفصل ببحث علاقات الاُسرة بالمجتمع الذي تبحث فيه.
وقد تطرقنا إلى هذه المواضيع لابتلاء غالب الاُسر باحكامٍ من هذا القبيل، ولأنّ الاُسرة وحدة اجتماعية لا تنفصل عن المجتمع بشكل أو بآخر.

وعلى هذا الصعيد تتصدر في المنهاج الإسلامي ثلاثة عناوين بارزة، وهي: صلة الأرحام، وحقوق الجيران، وحقوق المجتمع.
أولاً: صلة الأرحام

من السنن الالهية المودعة في فطرة الإنسان هي الارتباط الروحي والعاطفي بأرحامه وأقاربه، وهي سُنّة ثابتة يكاد يتساوى فيها أبناء البشر، فالحب المودع في القلب هو العلقة الروحية المهيمنة على علاقات الإنسان بأقاربه، وهو قد يتفاوت تبعاً للقرب والبعد النسبي إلاّ أنّه لايتخلّف بالكلية.
ولقد راعى الإسلام هذه الرابطة، ودعا إلى تعميقها في الواقع، وتحويلها إلى مَعلَم منظور، وظاهرة واقعية تترجم فيه الرابطة الروحية إلى حركة سلوكية وعمل ميداني.
فانظر كيف قرن تعالى بين التقوى وصلة الأرحام، فقال: (
... واتّقُوا اللهَ الذي تَساءَلُونَ بهِ والارحامَ إنّ اللهَ كانَ عليكُم رقيباً )
[1].
وذكر صلة القربى في سياق أوامره بالعدل والاحسان، فقال: (
إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاء ذِى القُربى وينَهى عن الفحشَاءِ والمنكرِ والبَغي يَعظُكُم لعلّكُم تَذكَّرونَ )
[2].
وبالاضافة إلى الصلة الروحية دعا إلى الصلة المادية، وجعلها مصداقاً للبرّ، فقال تعالى: (
... ولكنَّ البِرَّ مَن... آتى المالَ على حُبّه ذوى القُربى واليَتَامى والمسَاكِينَ وابنَ السَّبيلِ والسَّآئلينَ وفي الرقابِ وأقامَ الصَّلاةِ وءاتَى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهدِهِم إذا عاهَدُوا والصَّابرينَ في البأسآءِ والضَّرَّآءِ وَحِينَ البأسِ أُولئِكَ الَّذينَ صَدَقُوا وأُولئكَ هُمُ المُتَّقُونَ )
[3].
وجعل قطيعة الرحم سبباً للعنة الالهية فقال: (
فَهل عَسَيتُم إن تَولَّيتُم أن تُفسدُوا في الأرضِ وتُقطّعُوا أرحامَكُم * أولئكَ الَّذينَ لَعنَهُم اللهُ فأصمّهم وأعمَى أبصارَهُم )
[4].
صلة الأرحام في الأحاديث الشريفة:
لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام إلى صلة الأرحام في جميع الأحوال، وأن تقابل القطيعة بالصلة حفاظاً على الأواصر والعلاقات، وترسيخاً لمبادىء الحب والتعاون والوئام.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إنّ الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافىء، ولكن الواصل من الذي إذا انقطعت رحمه وصلها »
[5].
وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أصل رحمي وإن أدبَرَت)
[6].
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: « صلوا أرحامكم وإن قطعوكم »
[7].

ومما جاء في فضل صلة الأرحام في الحديث الشريف أنها خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة، وأنها أعجل الخير ثواباً، وأنها أحبّ الخطى التي تقرب العبد إلى الله زلفى، وتزيد في ايمانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ألا أدلكم على خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ من عفا عمن ظلمه، ووصل من قطعه، وأعطى من حرمه »
[8].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « أعجل الخير ثواباً صلة الرحم، وأسرع الشر عقاباً البغي »
[9].
وقال الإمام علي بن الحسين عليه السلام: « ما من خطوة أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ من خطوتين: خطوة يسدّ بها المؤمن صفّاً في سبيل الله، وخطوة إلى ذي رحم قاطع »
[10].
وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: « صلة الارحام وحسن الخلق زيادة في الايمان »
[11].
ولقد رتّب الإمام علي بن الحسين عليه السلام حقوق الأرحام تبعاً لدرجات القرب النسبي، فيجب صلة الأقرب فالأقرب، فقال: « وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، فأوجبها عليك حقّ أُمك، ثم حقّ أبيك، ثم حقّ ولدك، ثم حقّ أخيك، ثم الأقرب فالأقرب، والأول فالأول »
[12].
وتتجلى مظاهر الصلة بالاحترام والتقدير والزيارات المستمرة وتفقد أوضاعهم الروحية والمادية، وتوفير مستلزمات العيش الكريم لهم، وكفّ الأذى عنهم.
ولقد دعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى تفقّد أحوال الأرحام المادية وإشباعها، فقال: « ألا لا يعدلنَّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيدٍ كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة »
[13].
وأدنى الصلة هي الصلة بالسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « صلوا أرحامكم ولو بالسلام »
[14].
وأدنى الصلة المادية هي الاسقاء، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «صل رحمك ولو بشربة ماء... »
[15].
ومن مصاديق صلة الأرحام كفّ الأذى عنهم، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: « عظّموا كباركم، وصلوا أرحامكم، وليس تصلونهم بشيء أفضل من كفّ الأذى عنهم »
[16].
قطيعة الأرحام في الأحاديث الشريفة:
الإسلام دين التآزر والتعاون والوئام، لذا حرّم جميع الممارسات التي تؤدي إلى التقاطع والتدابر، لأنها تؤدي إلى تفكيك أواصر المجتمع، وخلخلة صفوفه، فحرّم قطيعة الرحم، وجعلها موجبة لدخول النار والحرمان من الجنّة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم »
[17].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « اثنان لا ينظر الله إليهما يوم القيامة: قاطع رحم، وجار السوء »
[18].
وقطيعة الرحم موجبة للحرمان من البركات الالهية، كنزول الملائكة وقبول الأعمال.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « إنّ الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم»
[19].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « إنّ أعمال بني آدم تعرض كلّ عشية خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم »
[20].
وقطيعة الرحم من الذنوب التي تعجّل الفناء، قال الإمام الصادق عليه السلام:
« الذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرحم »
[21].
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف على المسلمين من قطيعتهم لأرحامهم، وكان يقول: « إنّي أخاف عليكم استخفافاً بالدين، ومنع الحكم، وقطيعة الرحم، وأن تتّخذوا القرآن مزامير، تقدّمون أحدكم وليس بأفضلكم في الدين »
[22].
ومقابلة القطيعة بالقطيعة ظاهرة سلبية في العلاقات، وهي موجبة لعدم رضا الله تعالى عن الجميع، ففي رواية أنّ رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله، أهل بيتي أبوا إلاّ توثّباً عليَّ وقطيعة لي وشتيمة، فأرفضهم؟) قال صلى الله عليه وآله وسلم: « إذن يرفضكم الله جميعاً » قال: كيف أصنع؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: « تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك، فانك إذا فعلت ذلك، كان لك من الله عليهم ظهير »
[23].
الآثار الروحية والمادية لصلة الأرحام وقطيعتها:
لصلة الارحام آثار ايجابية في الحياة الإنسانية بجميع مقوماتها الروحية والخلقية والمادية، قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: « صلة الارحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسء في الأجل »
[24].
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: « صلة الأرحام تُحسن الخلق، وتسمّح الكف، وتطيب النفس، وتزيد في الرزق، وتنسء في الأجل »
[25].
وصلة الرحم تزيد في العمر، وقد دلّت الروايات على ذلك، وأثبتت التجارب الاجتماعية ذلك من خلال دراسة الواقع، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: « ما تعلم شيئاً يزيد في العمر إلاّ صلة الرحم، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين فيكون وصولاً للرحم فيزيده الله في عمره ثلاثين سنة فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون قاطعاً للرحم فينقصه الله ثلاثين سنة ويجعل أجله إلى ثلاث سنين »
[26].
والواصل لأرحامه يكون محل احترام وتقدير من قبلهم ومن قبل المجتمع، وهو أقدر من غيره على التعايش مع سائر الناس، لقدرته على إقامة العلاقات الحسنة، ويمكنه أن يؤدي دوره الاجتماعي على أحسن وجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء مسؤوليته في البناء المدني والحضاري باعتباره عنصر مرغوب فيه، وبعكسه القاطع لرحمه، فإنّه يفقد تأثيره في المجتمع، لعدم الوثوق بنواياه وممارساته العملية.
ثانياً: حقوق الجيران

لرابطة الجوار دور كبير في حركة المجتمع التكاملية، فهي تأتي في المرتبة الثانية من بعد رابطة الأرحام، إذ للجوار تأثير متبادل على سير الاُسرة، فهو المحيط الاجتماعي المصغّر الذي تعيش فيه الاُسرة وتنعكس عليها مظاهره وممارساته التربوية والسلوكية، ولهذا نجد أنّ المنهج الاسلامي أبدى فيه عناية خاصة، فقد قرن القرآن الكريم عبادة الله تعالى والاحسان إلى الوالدين والارحام بالاحسان إلى الجار كما في قوله تعالى: ( واعبدُوا اللهَ ولا تُشرِكُوا بهِ شَيئاً وبالوالِدَينِ إحساناً وبذي القُربى واليتَامى والمَساكينِ والجارِ ذي القُربى والجارِ الجُنُبِ والصّاحبِ بالجَنبِ)[27].
فقد رسم القرآن الكريم منهجاً موضوعياً في العلاقات الاجتماعية يجمعه الاحسان إلى أفراد المجتمع وخصوصاً المرتبطين برابطة الجوار.
وحق الجوار لا ينظر فيه إلى الانتماء العقائدي والمذهبي، بل هو شامل لمطلق الانسان مسلماً كان أم غير مسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة، ومنهم من له حقّان: حق الإسلام، وحق الجوار، ومنهم من له حق واحد: الكافر له حق الجوار »
[28].
الوصايا الشريفة:
أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بمراعاة حق الجوار، والسعي إلى تحقيقه في الواقع، وركز على ذلك باعتباره من وصايا الله تعالى له، قال صلى الله عليه وآله وسلم: « مازال جبرئيل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنّه سيورثه»
[29].
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: « والله الله في جيرانكم، فإنّهم وصية نبيكم، مازال يوصي بهم حتى ظنّنا أنه سيورّثهم »
[30].
وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل المدينة: « إنّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وحرمة الجار على الجار كحرمة أُمّه »
[31].
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إكرام الجار من علامات الايمان فقال: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره »
[32].
واستعاذ صلى الله عليه وآله وسلم من جار السوء الذي أطبقت الانانية على مشاعره ومواقفه فقال: « اعوذ بالله من جار السوء في دار إقامة، تراك عيناه ويرعاك قلبه، إن رآك بخير ساءه، وإن رآك بشر سرّه »
[33].
حسن الجوار:
إنّ حسن الجوار من الأوامر الالهية، كما قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: « عليكم بحسن الجوار، فإنّ الله عزَّ وجلَّ أمر بذلك »
[34].
وحسن الجوار ليس كف الأذى فحسب، وإنّما هو الصبر على الأذى من أجل إدامة العلاقات، وعدم حدوث القطيعة، قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: « ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى »
[35].
ودعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى تفقد أحوال الجيران وتفقّد حاجاتهم، فقال: « ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع »
[36].
وحثّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام على حسن الجوار لما فيه من تأثيرات إيجابية واقعية تعود بالنفع على المحسن لجاره، فقال: « حسن الجوار يعمّر الديار، ويزيد في الأعمار »
[37].
وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام وسلمان وأبا ذر والمقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنّه « لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه »، فنادوا بها ثلاثاً، ثم أومأ بيده إلى كلّ أربعين داراً من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله
[38].
والاعتداء على الجار موجب للحرمان من الجنة، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: « من كان مؤذياً لجاره من غير حقّ، حرمه الله ريح الجنة، ومأواه النار، ألا وإن الله عزَّ وجلَّ يسأل الرجل عن حق جاره، ومن ضيّع حق جاره فليس منّا »
[39].
ومن يطّلع على بيت جاره ويتطلّب عوراته يحشر مع المنافقين يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « ومن اطلع في بيت جاره فنظر إلى عورة رجل أو شعر امرأة أو شيء من جسدها، كان حقاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يتبعون عورات الناس في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله ويبدي عورته للناس في الآخرة »
[40].
ويحرم الاعتداء على ممتلكات الجار، ومن اعتدى فالنار مصيره، قال صلى الله عليه وآله وسلم: « ومن خان جاره شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة إلى سبع أرضين ناراً حتى يدخله نار جهنّم »
[41].
وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بالتكافل الاجتماعي والنظر إلى حوائج الجار والعمل على إشباعها فقال صلى الله عليه وآله وسلم: « ومن منع الماعون من جاره إذا احتاج إليه منعه الله فضله يوم القيامة، ووكله إلى نفسه، ومن وكله الله إلى نفسه هلك، ولا يقبل الله عزَّ وجلَّ له عذراً »
[42].
حق الجار في رسالة الحقوق:
وضع الإمام علي بن الحسين عليه السلام في رسالة الحقوق منهجاً شاملاً للتعامل مع الجيران، متكاملاً في أُسسه وقواعده، مؤكداً فيه على تعميق أواصر الاخوة، مجسداً فيه السير طبقاً لمكارم الأخلاق التي بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل إتمامها، فقال عليه السلام: « وأمّا حق الجار فحفظه غائباً، وكرامته شاهداً، ونصرته ومعونته في الحالين معاً، لا تتبع له عورة، ولاتبحث له عن سوءة لتعرفها، فإن عرفتها منه عن غير إرادة منك ولاتكلف، كنت لما علمت حصناً حصيناً وستراً ستيراً، لو بحثت الأسنة عنه ضميراً لم تتصل إليه لانطوائه عليه.
لا تستمع عليه من حيث لا يعلم، لا تسلمه عند شديدة ولا تحسده عند نعمة.
تقبل عثرته، وتغفر زلته، ولا تدّخر حلمك عنه إذا جهل عليك ولا تخرج أن تكون سلماً له ترد عنه لسان الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النميمة، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا قوة إلاّ بالله »
[43].

ثالثاً: حقوق المجتمع

الإسلام ليس منهج اعتقاد وايمان وشعور في القلب فحسب، بل هو منهج حياة إنسانية واقعية، يتحول فيها الاعتقاد والايمان إلى ممارسة سلوكية في جميع جوانب الحياة لتقوم العلاقات على التراحم والتكافل والتناصح، فتكون الأمانة والسماحة والمودة والاحسان والعدل والنخوة هي القاعدة الأساسية التي تنبثق منها العلاقات الاجتماعية.
وقد جعل الإسلام كل مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعية، يمارس دوره الاجتماعي البنّاء من موقعه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته »
[44].
ودعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاهتمام باُمور المسلمين ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال: « من أصبح لا يهتم باُمور المسلمين فليس بمسلم »
[45].
ودعا الإمام الصادق عليه السلام إلى الالتصاق والاندكاك بجماعة المسلمين فقال: « من فارق جماعة المسلمين قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه »
[46].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر »
[47].
وأمر الإمام الصادق عليه السلام بالتواصل والتراحم والتعاطف بين المسلمين، وذلك هو أساس العلاقات بينهم، فقال: « تواصلوا وتباروا وتراحموا وتعاطفوا »
[48].
ودعا الإمام علي عليه السلام إلى استخدام الأساليب المؤدية إلى الاُلفة والمحبة، ونبذ الأساليب المؤدية إلى التقاطع والتباغض، فقال: «لاتغضبوا ولا تُغضبوا افشوا السلام وأطيبوا الكلام »
[49].
والاُسرة بجميع أفرادها مسؤولة عن تعميق أواصر الود والمحبة والوئام مع المجتمع الذي تعيش فيه، ولا يتحقق ذلك إلاّ بالمداومة على حسن الخلق والمعاشرة الحسنة، وممارسة أعمال الخير والصلاح، وتجنب جميع ألوان الاساءة والاعتداء في القول والفعل.
ولذا وضع الإسلام منهاجاً متكاملاً في العلاقات قائماً على أساس مراعاة حقوق أفراد المجتمع فرداً فرداً وجماعة جماعة، وتتمثل هذه الحقوق العامّة في:
(حقّ الاعتقاد، وحقّ التفكير وإبداء الرأي، وحق الحياة، وحق الكرامة، وحق الأمن، وحق المساواة، وحق التملك) وتنطلق بقية الحقوق من هذه القواعد الكلية، لتكون مصداقاً لها في الواقع العملي.
والالتزام بالاوامر الالهية كفيل باحقاق حقوق المجتمع، ومن الأوامر الالهية الجامعة لجميع الحقوق قوله تعالى: (
إنّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وايتاء ذي القُربى ويَنهى عَنِ الفَحشَاءِ والمُنكَرِ والبَغي يَعِظُكم لَعلَّكُم تَذَكَّرونَ)
[50].
فالتقيد بهذا الأمر الالهي يعصم الإنسان من التقصير في حقوق المجتمع، ويدفعه للعمل الجاد الدؤوب لتحقيق حقوق الآخرين وأداء مسؤوليته على أحسن وجه أراده الله تعالى منه.
حقوق المجتمع في القرآن الكريم:
القرآن الكريم دستور البشرية الخالد، يمتاز بالشمول والاحاطة الكاملة بجميع شؤون الحياة، وقد وضع أُسساً عامة في علاقة الفرد بالمجتمع، ووضع لكلِّ طرف حقوقه وواجباته للنهوض من أجل إتمام مكارم الأخلاق، وإشاعة الود والحب والوئام في ربوع المجتمع الإنساني، وفيما يلي نستعرض جملة من حقوق المجتمع على الفرد والاُسرة، الخلية الاجتماعية الاُولى، وأهم تلك الحقوق هو التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الاثم والعدوان قال تعالى: (
وَتَعَاونوا على البرِّ والتَقوى ولا تَعاونُوا على الإثمِ والعُدوانِ )
[51].
وأمر القرآن الكريم بالاحسان إلى أفراد المجتمع: (
واعبُدُوا اللهَ ولاتُشرِكُوا بهِ شَيئاً وبِالوالدينِ إحساناً وبذي القُربى واليتَامى والمسَاكينِ والجارِ ذي القُربى والجارِ الجُنُبِ والصَّاحبِ بالجنبِ وابنِ السبيلِ وما مَلكَت أيمانُكُم )
[52].
وأقرّ القرآن حق النصرة: (
وإن استَنصرُوكُم في الدِّينِ فَعَليكُمُ النَّصرُ...)
[53].
وأمر بالاعتصام بحبل الله وعدم التفرّق: (
واعتَصِموا بِحبلِ اللهِ جَميعاً ولاتَفَرَّقُوا )
[54].
وأمر بالسعي للاصلاح بين المؤمنين: (
إنّما المؤمِنُونَ إخوةٌ فاصلِحُوا بينَ أخوَيكُم واتقُوا اللهَ لَعلّكُم تُرحَمُونَ )
[55].
وأمر بالعفو والمسامحة: (
خُذِ العَفو وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عَن الجَاهِلينَ)
[56].
وأمر بالوفاء بالعقود: (
يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا أوفُوا بالعُقُودِ )
[57].
وأمر باداء الامانة: (
إنّ اللهَ يأمُرُكُم أن تُؤدّوا الأماناتِ إلى أهلِهَا )
[58].
وأمر باداء حق الفقراء والمساكين وابن السبيل وعدم تبديد الثروة بالتبذير والاسراف: (
واتِ ذا القُربى حَقّهُ والمسكِينَ وابن السّبيلِ ولاتُبذّر تَبذيراً )
[59].
وقال أيضاً: (
وفي أموالِهم حقٌ لِلسّائِلِ والمحرُومِ )
[60].
ومن أجل إشاعة مكارم الأخلاق، والسير على النهج القويم، أمر القرآن بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر: (
وَتَواصوا بِالحقِّ وتَواصَوا بالصّبرِ )
[61].
ومن حقوق المجتمع على الفرد أن يقوم بواجب الاصلاح والتغيير للحفاظ على سلامة المجتمع من الانحراف العقائدي والاجتماعي والأخلاقي، وأن يقابل الاساءة والمصائب التي تواجهه بصبر وثبات، فمن وصية لقمان لابنه: (
يا بُنيّ أقِم الصَّلاةَ وأمُر بالمعرُوفِ وانه عَنِ المنكَرِ واصبِر على ما أصابَكَ إنَّ ذلكَ مِن عزمِ الاُمُورِ )
[62].
ونهى القرآن الكريم عن الاعتداء على الآخرين، بالظلم والقتل وغصب الأموال والممتلكات والاعتداء على الأعراض: (
ولا تَعتدُوا إنَّ اللهَ لا يُحبُّ المُعتَدينَ )
[63].
وحرّم الدخول إلى بيوت الآخرين دون إذن منهم: (
يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تَدخُلوا بُيُوتاً غَير بُيُوتِكُم حتى تَستأنِسُوا وتُسلِّموا عَلى أهلِها )
[64].
ونهى عن بخس الناس حقوقهم: (
ولا تَبخَسُوا الناسَ أشياءَهُم )
[65].
وحرّم التعامل الجاف مع الآخرين: (
ولا تُصعِّر خَدَّكَ للناسِ ولا تَمشِ في الأرضِ مَرَحاً... )
[66].
وحرّم جميع الممارسات التي تؤدي إلى قطع الأواصر الاجتماعية، (
يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا لا يَسخَر قومٌ مِن قَومٍ عَسى أن يَكُونُوا خَيراً مِنهُم ولانِساءٌ مِن نِساءٍ عَسى أن يَكُنَّ خَيراً مِّنهنَّ ولا تَلمِزُوا أنفسَكُم ولا تنابزُوا بالألقابِ بِئسَ الإسمَ الفسُوق بعدَ الإيمانِ... )
[67].
وحرّم الظن الآثم والتجسس على الناس واغتيابهم: (
يا أيُّها الّذينَ آمنُوا اجتَنبُوا كَثيراً مِن الظنّ إنّ بَعضَ الظنّ إثمٌ ولا تَجَسّسُوا ولا يَغتب بَعضُكُم بَعضاً )
[68].
وحرّم إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلامي: (
إنّ الذينَ يُحبُّونَ أن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الذينَ آمنُوا لَهُم عذابٌ أليمٌ... )
[69].
وحرّم ارتكاب الفواحش الظاهرية والباطنية: (
ولا تَقربُوا الفواحِشَ ماظَهرَ مِنها وما بَطنَ )
[70].
وهكذا يوفر القرآن في هذه اللائحة الطويلة والعريضة، ما يضمن توفير الحصانة للمجتمع البشري، وهو يضع النظام الدقيق والشامل، من أحكام وقيم أخلاقية، ليكون الامان والتآلف والتعايش والتكافل معالم أصيلة في الحياة الاجتماعية.
ثم تأتي السُنّة الشريفة متمّمة لهذا المنهاج ومفصلة له:



[1]  سورة النساء : 4 | 1 .

[2]  سورة النحل : 16 | 90 .

[3]  سورة البقرة : 2 | 177 .

[4]  سورة محمد : 47 | 22 ـ 23 .

[5]  جامع الأخبار | السبزواري : 287 ـ مؤسسة آل البيت عليهم السلام ـ قم ـ 1414 هـ ط1 .

[6]  الخصال | الصدوق 2 : 345 | 12 ـ جماعة المدرسين ـ قم ـ 1403 هـ .

[7]  بحار الانوار 74 : 92 .

[8]  جامع الأخبار : 287 .

[9]  جامع الاخبار : 290 .

[10]  الخصال 1 : 50 | 60 .

[11]  جامع الاخبار : 290 .

[12]  تحف العقول : 183 .

[13]  نهج البلاغة : 65 ، الخطبة : 23 ، تحقيق صبحي الصالح .

[14]  تحف العقول : 40 .

[15]  بحار الأنوار 74 : 88 .

[16]  الكافي 2 : 165 .

[17]  الخصال 1 : 179 | 243 .

[18]  كنز العمال 3 : 367 | 6975 .

[19]  كنز العمال 3 : 367 | 6974 .

[20]  كنز العمال 3 : 370 | 6991 .

[21]  بحار الأنوار 74 : 94 .

[22]  عيون أخبار الرضا | الشيخ الصدوق 2 : 42 .

[23]  الكافي 2 : 150 .

[24]  الكافي 2 : 150 .

[25]  الكافي 2 : 151 .

[26]  الكافي 2 : 152 ـ 153 .

[27]  سورة النساء : 4 | 36 .

[28]  جامع السعادات | النراقي 2 : 267 .

[29]  بحار الانوار 74 : 94 .

[30]  نهج البلاغة : 422 ، كتاب : 47 .

[31]  الكافي 2 : 666 .

[32]  المحجة البيضاء 3 : 422 .

[33]  الكافي 2 : 669 .

[34]  بحار الانوار 74 : 150 .

[35]  تحف العقول : 306 .

[36]  جامع السعادات 2 : 268 .

[37]  الكافي 2 : 667 .

[38]  الكافي 2 : 666 .

[39]  بحار الانوار 76 : 362 .

[40]  بحار الانوار 76 : 361 .

[41]  بحار الانوار 76 : 361 .

[42]  بحار الأنوار 76 : 363 .

[43]  تحف العقول : 191 .

[44]  جامع الاخبار : 327 .

[45]  الكافي 2 : 163 .

[46]  الكافي 1 : 405 .

[47]  المحجة البيضاء 3 : 357 .

[48]  الكافي 5 : 175 .

[49]  تحف العقول : 140 .

[50] سورة النحل : 16 | 90 .

[51]  سورة المائدة : 5 | 2 .

[52]  سورة النساء : 4 | 36 .

[53]  سورة الانفال : 8 | 72 .

[54]  سورة آل عمران : 3 | 103 .

[55]  سورة الحجرات : 49 | 10 .

[56]  سورة الاعراف : 7 | 199 .

[57]  سورة المائدة : 5 | 1 .

[58]  سورة النساء : 4 | 58 .

[59]  سورة الاسراء : 17 | 26 .

[60]  سورة الذاريات : 51 | 19 .

[61]  سورة العصر : 103 | 3 .

[62]  سورة لقمان : 31 | 17 .

[63]  سورة البقرة : 2 | 190 .

[64]  سورة النور : 24 | 27 .

[65]  سورة هود : 11 | 85 .

[66]  سورة لقمان : 31 | 18 .

[67]  سورة الحجرات : 49 | 11 .

[68]  سورة الحجرات : 49 | 12 .

[69]  سورة النور : 24 | 19 .

[70]  سورة الانعام : 6 | 151 .

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست