الدور التكاملي للعبادة في حياة الإنسان
قال الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(الحجر:99) صدق الله العلي العظيم.
العبادة لله تبارك وتعالى تُعد مرتكزاً يُمثل هدفاً سامياً من خلق الإنسان، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ *إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ*} (الذاريات:56،58).
أهمية العبادة:
العبادة لها أهمية كبيرة في حياة الإنسان من نواحٍ متعددة، وسوف أُشير إلى بعض النواحي الهامة التي أُكِّد عليها في الروايات، ومن أهم تلك النواحي، ما يتعرض له الإنسان في هذه الحياة الدنيا من الابتلاءات المتعددة، حيث يفقد المال والولد ويصاب بالأمراض المختلفة، و نجد أنّ الكثير من الناس عندما يتعرض لذلك، يفقد صوابه، نتيجة لاطمئنانه الظاهري إلى دوام المال والصحة، بل، يتصور أنّ ما يُعطى من النعم في هذه الحياة الدنيا سوف يدوم ولا يتغير، مع العلم بأنّ الدوام لله تبارك وتعالى، وهذا ما أكد عليه القرآن، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* و َيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ *}(الرحمن:26،27)، ولذلك، نجد أنّ عالم الدنيا في تغير دائم ومستمر، فالفقير يصل إلى الغنى والغني ينقلب حاله إلى الفقر ولا يبقى أحد على دوام حاله ولذلك قيل أنّ دوام الحال من المحال. وللعبادة أدوار متعددة في حياة الإنسان، سوف نستعرض أربعة أدوار منها:
الأول: العبادة تؤدي إلى اليقين.
إنّ الآية التي ابتدأنا بها الحديث تقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين}(الحجر:99)، فهي تأمر بمواصلة العبادة لله تعالى بالصلاة، والدعاء، والصوم، والإحسان إلى الغير، حتى يصل الإنسان إلى مرتبة اليقين. ومن الملفت للنظر أنّ الآية لا تُحدد نمطاً خاصاً من اليقين، وإنما تُشير إلى اليقين بشكل مطلق، وذلك، لأنّ بعض الناس في مسارهم العبودي يصلون إلى علم اليقين والبعض الآخر إلى عين اليقين والبعض يصل إلى حق اليقين وهي أعلى الدرجات، وكل إنسان مُيسر لما خُلق له، ولكن المهم أن يُدرب الإنسان نفسه ويروضها على عبادة الله تبارك وتعالى، ويتيقن أنه لا يصل إلى كماله إلاّ عبر هذا الطريق وأنّ الطرق الأخرى حتى وإنْ أسهمت بدرجة ما ولكنها لن تكون كالعبادة لله تعالى في إيصال الإنسان إلى كماله.
الثاني: العبادة تحقق الكمال للإنسان.
ولكن من أهم ما يصبو إليه الإنسان العابد من النجاح هو وصوله إلى الكمال المنشود، ويترتب على هذا الكمال ما أشرنا إليه من الاستقرار والاطمئنان النفسي. وللعلم والعمل وأمور أخرى مدخلية في وصول الإنسان إلى الكمال، ولكن العبادة تتفرد بالدور الأكبر في إيصال الإنسان إلى الكمال.
ويتضح دور العبادة في تحقيق الكمال من خلال إشباع جانب الفطرة التي يشير إليه قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}(الروم:30)، فالله تبارك وتعالى فطر الإنسان على اللجوء والافتقار إليه، ولكنّ الإنسان ينسى هذه الفطرة ويتعلق بغير الله تبارك وتعالى ويظن أنه سوف يحصل على الغنى عندما يرتبط بغيره تعالى، بينما هو في الواقع متعلق بسراب لا حقيقة له، لأنّ الوجود الحق هو لله تبارك وتعالى, وإذا أدرك الإنسان أنّ ما ارتبط به لا يمثل غنىً لنفسه من خلال فقده ذلك الشيء الذي تعلق به قلبه واطمأنت إليه نفسه وسعى نحوه، ويجد أنّ ذلك الشيء لا قيمة له في قبَال الله تبارك وتعالى.
الثالث: العبادة توصل الإنسان إلى النجاح.
إنّ الله تبارك وتعالى يربطنا دائماً بركن وثيق، يتمثل في الوجود المقدس لذاته تبارك وتعالى، كما جاء في قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}(الذاريات:50)، فالفرار إلى الله من خلال عبادته يُعد توكلاً على الله ولجوءاً إليه تبارك وتعالى، لأنّ هذا النحو من العبادة يحقق القرب منه تعالى، ولذا، أثنى القرآن الكريم على الأنبياء لتوافر هذه الصفة فيهم، قال تعالى: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(الأنبياء:73)، بالإضافة إلى أننا نقرأ في الكثير من الروايات في صفات الأئمة من أهل البيت عليهم السلام أنهم من المتعبدين لله تبارك وتعالى. وهذا يرشدنا إلى أهمية العبادة في حياة الأنبياء والرسل والعظماء، لما لها من تأثير فعّال في وجودهم المعنوي من جهة، وفي مواصلة مسيرتهم التبليغية والدعوة إلى الله تعالى. ولذا، امتازت العبادة بدورها الكبير والهام في حياة الإنسان، لأنها تحقق الاستقرار والاطمئنان النفسي والنجاح الدائم، وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كلمته الرائعة: ‹‹دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة››، فدوام العبادة لا يمكن أن يؤول بالإنسان إلى الفشل, لأنّ العابد لله تبارك وتعالى لا يكون فاشلاً في جهده، باعتباره دائم السعي والمجاهدة لله تعالى، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(العنكبوت:69).
الرابع: العبادة تورث الاطمئنان النفسي.
إنّ كمال الإنسان النفسي والمعنوي يتوقف على عبادته لله تبارك وتعالى، ويترتب على هذا الكمال الخروج من المآسي والآلام، والتي من أعظمها الأمراض النفسية التي يصاب بها الإنسان عندما يقع في مشكلة أو يصطدم بعقبة كأداء، فنجد البعض يتأثر نفسياً في مراحل متعددة من حياته سواءً كان في مقتبل شبابه أو في متوسط عمره أو في آخر حياته، وذلك يرجع إلى عدم لجوئهم إلى الركن الوثيق، المتمثل في الله تبارك وتعالى، فهؤلاء لا يرجعون إلى الله، وإنما يرجعون إلى غير الله، وهذا يؤدي إلى اضمحلال آمالهم، وخيبة أمانيهم وتعثر تلك الأُمنيات التي كانوا يصبون من خلالها للوصول إلى الغنى، وبالتالي، سوف يعرفون أن لا ملجأ لهم من الله إلاّ إليه، وهذه المعرفة لن تفيدهم، لأنهم لم يبنوا شخصياتهم من البداية على اللجوء إلى الله، ولذلك، من أعظم الأمور التي تُؤكد عليها الروايات الواردة عن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام هو أنّ الإنسان دائماً وأبداً، وفي كل سني حياته مأمور بترويض نفسه على عبادة الله تبارك وتعالى، والمواظبة دائماً على ذكر الله تعالى، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28)، فما يترتب على العبادة هو التخلص من الأمراض النفسية، وقد أشار الذكر الحكيم إلى هذه الحقيقة، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون63 الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ63}(يونس:63،64). فمن مقتضيات الإيمان ولوازمه أن يكون ذلك المؤمن ذاكراً لله تبارك وتعالى بقلبه ولسانه، فلسانه رطب بذكر الله، وقلبه يرى الله تبارك وتعالى حاضراً وناظراً. ولذلك نجد الأئمة من أهل البيت عليهم السلام قد أبانوا وأفصحوا عن هذا المطلب، وبالأخص، الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث ورد عنه كَلِمٌ قِصار وعبارات تؤكد ما ذكرناه، ومن يقرأ نهج البلاغة يجد بوضوح الأهمية البالغة التي أولاها الإمام عليه السلام في الحض والتأكيد على ذكر الله تبارك وتعالى، والحث على عبادة الله جل وعلا، لأنّ هذه العبادة هي التي تحمي الإنسان من المؤثرات الخارجية، وتحوطه بلطف الله تعالى، وتلفه بعنايته، وتُغدق عليه بالرحمة، وبالتالي، لا يتأثر بالعوامل السلبية الأخرى، لأنّ غير الله تبارك وتعالى خاضع له، ولا يخرج عن ملكوت سلطانه أي موجود، لأنّ جميع الموجودات مقهورة تحت سلطانه تبارك وتعالى، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(يس:83). فإذا كان الإنسان قد سار في مسار العبودية لله، وتوجه إليه، وآمن بقلبه، فإنّ نفسه سوف تطمئن بذكر الله تجاه كل الهزات والشدائد التي تمر عليه، فلا تؤثر فيه، بل، إنّ مثل هذه الشدائد والأحزان الني يبتلى بها الإنسان، لها أقوى التأثير في إيجاد العمق المعرفي، والوصول إلى درجات القُرب الإلهي. وهذا ما تؤكد عليه الروايات، فقد روي أنّ شخصاً قال للإمام الصادق عليه السلام: دلني على الله تبارك وتعالى، فقال له: هل ركبت سفينة قط؟ قال نعم، فقال: هل كُسرت بك حيث لا سفينة تنجيك, ولا سباحة تغنيك؟ قال نعم، قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم. قال عليه السلام: فذلك الشيء هو الله تعالى. وينقل بعض العلماء أنه كان يعرف صديقاً ينكر وجود الله تبارك وتعالى، وفي يوم من الأيام مرض طفله، وأصيب بداء عضال، ومع أنه ينكر وجود الله تبارك وتعالى إلا أنه بدأ يدعو الله بتوجه وإلحاح شديد، وعند ذلك، قال له العالم: ألست تنكر وجود الله فكيف تدعوه؟ فقال: دعني، فإني لا أريد شفاء ابني إلاّ منه تبارك وتعالى. والإنسان إذا التجأ إلى الله وتعلم كيف يعبد الله ويتوكل عليه، وكيف يلتجئ إليه، فعند ذلك، يستطيع أن يحل كل مشكلة تعترض طريق حياته، ويجتاز كل عقبة تقف دون وصوله إلى مبتغاه، بل، لا يمكن أن يقف أمامه شيء، لأنه وصل إلى معرفة الله، القادر على تخليصه من العقبات والشدائد، والأخذ به نحو ساحل النجاة وشاطئ الأمان. والأهم من ذلك هو يقينه بسلامته من الهم والغم الدنيوي، لأنّ الله تعالى تكفل بذلك، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون}(يونس:62)، بالإضافة إلى أنّ الله تعالى منحه السلامة في عالم الدنيا والآخرة، وهو تعبير آخر عن وصوله إلى مرتبة اليقين، التي من آثارها مناداته حال خروجه من هذا العالم بقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*}(الفجر:27، 29). وهذا من أروع ما يحققه الإنسان العابد في مسار عبوديته الذي يقطعه في الوصول إلى الله تبارك وتعالى.
الإمام الحسين عليه السلام رمز العبودية لله تعالى.
ولعل في ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام ندرك حقيقة العبودية لله تعالى، التي اتسم بها الإمام الحسين عليه السلام، وهو يتعرض إلى ذلك البلاء العظيم، فيفتقد أهله وأولاده وأقرباءه، ولا يبقى له أحد في عالم المادة، ومع ذلك، لم تؤثر تلك الشدة على الجانب المعنوي في شخصيته، لأنه يرى الله تبارك وتعالى حاضراً، وقد وردت تعبيرات تفصح عن هذه الحقيقة نُسبت إلى الإمام عليه السلام مثل قوله:
تركتُ الخلقَ طُراً في هـواك وأيتمتُ العيـالَ لكـي أراك
فلو قطعتني في الحـبِ إربـاً لـمَا مالَ الفؤادُ إلى سـواك
وأيضاً، أكد الإمام هذا المعنى بقوله: ‹‹هَوّنَ عليَّ ما نزل بي أنه بعينك››، فالله تبارك وتعالى حاضر وناظر، والإمام عليه السلام لديه كامل الثقة والاطمئنان بالله تعالى، ولذلك تهون عليه المصائب، وتكون عنده القدرة الكاملة في تخطي كل العقبات، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين}(الحجر:99).