قول لا أعلم
قول لا أعلم
يجمع العلماء قديمًا وحديثًا من شرق الأرض وغربها على أنّ الإنسان مهما بلغ من العلم أو حصل له من الفضل، فعلمه بالنسبة لجهله أقل من القليل. والعالم كلما ازداد علماً أيقن بجهله وبأنه لا يعلم فكلما ازداد في علمه وصل إلى إدراك بأنّ ما لديه من العلم بالنسبة لما يجهله قليلا جدا، هذه حقيقة ولكنّ بعض أدعياء العلم أي من الذين لا يتصفون بالعلم حقيقة، يظن أنه يعلم كل شيء، ويحيط بكل شيء والحال خلاف ذلك. فتشعب العلوم، وتفرعها تجعل العالم بتخصصه يعترف بعدم الإحاطه بكل فروعه ومسائله؛ لأن العلم يتطور مع الأيام، أو قل أنه غير محدود بحد وقدرة الإنسان مهما بلغت فهي محدودة، فكيف يستطيع المحدود أن يحيط باللا محدود؟
وكذا الإنسان المسدد من الله سبحانه وتعالى كالأنبياء والرسل وغيرهم، لا تجدهم يجيبون الناس بكل مسألة بل يحيلون بعض الأجوبة إلى الله، كأن يقول النبي (صلى الله عليه وآله) أنتظر حتى يأتني الوحي، وهذا واضح في كثير من الآيات التي كانت تبدأ بقوله ( قل..) فهو جواب لسؤال، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} البقرة: 189.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} البقرة: 219.
بل يعترف الأنبياء في بعض المسائل بعدم العلم ويقول إن هذه المسألة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} الأعراف: 187.
ولذا نرى سيرة وديدن علمائنا الأبرار الأكابر الجهابذة عندما يسألون في مسألة وهم لا يعرفون يجيبون وهم في تمام الوثاقة والطمأنينة ورباطة الجأش بأنهم لا يعرفون، إقتداءً بطريقة الأنبياء والمرسلين ومن هؤلاء الشيخ الأنصاري وهو من أكابر علمائنا فهو عظيم في علمه وتواضعه وتقواه، فقد كان يتعمد عندما يُسأل عن مسألة وهو لا يعلم جوابها حيث لا يقول فقط لا أعلم بل يكرر كلمة لا أعلم ثلاث مرات حتى يسمع الجميع.
وهو بهذه الطريقة يعلِّم طلاب العلم بأن لا يخجلوا من قول الحقيقة وإظهار عدم معرفتهم، ولا يكتفي بالقول بل يجعله درساً عملياً مؤثراً في قلوب طلاب العلم والعلماء والناس على حد سواء.
وليس هذا الأمر محصورا على من وصل إلى مقام التقوى والورع بل حتى من لا يتنسب إلى الدين، وكانوا من العلماء الحقيقيين الذين يبحثون عن الحقيقة ويقولونها مثل:
موريس متر لينك يقول : أعيد القول مرة أخرى أنني لا أعلم، بعَد لا أعلم شيئاً وأكرر ثانية أنه لا أحد يعلم شيئاً، فلو كان أحد يعلم شيئاً لأشاعه بين الناس ولأطلع الجميع عليه ولفهم الناس أسرار الخلقة، لم يستطيع أحد إلى الآن أن يعرف سر الخلق فما نعرفه عن أسرار الخلقة وأسرار العالم ونهايته إنما هو حاصل لما خطر في أذهاننا وعلى أساسه نقيم النظريات بشأن هذه المسائل، ولم تلبث هذه النظرية فترة طويلة حتى يتبين لنا خواءها، وما قلته أنا في هذا الصدد إنما هو حصيلة ما توصل إليه فكري. ولا أدعي أنه صحيح ولو كان أحد في العالم يدعي صحة أقواله بشأن أسرار الخليقة فليدلي برأيه لنرَ ماذا يقول؟
جوي بول يقول : معلوماتنا كقطر في دائرة، فكلما اتسع القطر يتسع المحيط أضعافاً، لعل الأجيال القادمة تستطيع أن تتقدم في أعمالها العلمية وتكتشف أسرارًا جديدة عن الكائنات، لكنه من المؤسف جدّاً فينبغي أن نقاوم غرورنا ونعترف بأننا لا نعلم شيئاً عن أسرار الخلقة وعن سر الوجود، فرموز الحياة والموت وفلسفة الخلق وأشياء كثيرة أخرى ألغاز قد لا يكشف عنها العلم في القريب العاجل.
بل إن أحد العلماء الكبار لما سُئل عن مسألة فأجاب أنني لا أعلم قالت له المرأة السائلة:كيف لا تعلم والملكُ يغدق عليك هذه الأموال الكثيرة، وأنت رئيس العلماء ولا تعلم بهذه المسألة؟
فأجابها العالم : إنّ الملك يعطيني هذه الأموال على مقدار علمي ولو كان يريد أن يعطيني على مقدار جهلي لما وسعت مملكته وأضعاف مع مملكته أن يعطيني لأنّ الجهل أكثر من العلم بمراتب كثيرة.
ونحن عندما نتأمل هذه الأقوال يتولد لدينا قناعة، بأن نعترف بجهلنا أمام الآخرين، وأن لا نكابر في دعوى العلم لأنه غاية الجهل كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من ادعى من العلم غايته فقد أظهر من جهله نهايته».
فانفض عنك غبار الجهل بالاعتراف بالقصور حتى تحصل على ما تجهله، وتدرك ما لم تعرفه, وإلا بقيت طيلة حياتك في جهل, مادمت ترفض أن تتعلم، وتعيش في جهل مركب كما يقول المناطقة. نجانا الله وإياكم من هذا. بل ما يجب علينا هو أن نقرع مسامع قلوبنا بقول الله تعالى، ونتلوه على أنفسنا بين الحين والآخر حتى نعرف أنفسنا وحجمها الطبيعي قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} الإسراء: 85.