الرؤيا وكشفها للواقع
الرؤيا وكشفها للواقع
من لطف الله على عباده أن جعل لهم قدرة على تجاوز العالم المادي، وتلمس ما فوق عالم الطبيعة، فالإنسان يشعر بالكثير من الأمور التي تحدث حالاً أو مستقبلاً بشكل طبيعي، في يقظته، وبعض الأمور يدركها في منامه وذلك من خلال الرؤيا التي يشاهدها النائم في نومه. ولم يجعل الله ذلك عبثا. بل للرؤيا فوائد كثيرة، قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} الأنفال: 43
والرؤيا في المنامات قد تغير سلوك إنسان، وتبدل معتقد آخر وتحول تفكيره وتصرفاته، كل ذلك من خلال رؤيا رآها، أو رويت له بأن فلان شاهده في منامه. ولم تكن هذه الأمور ضربا من الخيال، أو تخرصا من الجهل بل لها واقع، ولكن هذا الواقع يختلف درجته ووضوحه من شخص إلى آخر. فأصدق الرؤى رؤيا الأنبياء عليهم السلام : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يوسف: 4
ثم من يليهم في التقى والورع، مع ملاحظة صفاء النفس وقابليتها لرؤية ذلك العالم، فلذلك عبر الله عن ذلك بالبشرى، قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} يونس: 64
ولكي تصدق الرؤيا فإن لها أوقاتاً خاصة تصدق فيها بنحو أكبر. كأن تكون الرؤيا في وقت السحر، أو قبل الغداة بساعة، وقد تصدق في غيرهما، ولكن هذين الوقتين يشتهر فيهما صدق الرؤيا. وتفسير الرؤيا ومعرفتها يحتاج إلى فن وعلم، وليس لأي شخص أن يقوم بتفسير الرؤيا، فقد يشاهد النائم شيئاً مقيتاً في رؤياه، وعند تفسيرها يكون تأويلها حسن، وقد يكون العكس من ذلك. وكيفما كان فإن للرؤيا جزء من الواقع كما جاءت به الروايات فعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في تفسير الآية السابقة: «هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشر بها في دنياه» الكافي 8: 90، يقول النبي (صلى الله عليه وآله) : «لم يبقَ من النبوة إلاّ المبشرات قالوا له يا رسول الله وما المبشرات؟ قال: الرؤية الصالحة» بحار الأنوار 61: 177
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «إنّ المؤمن رؤياه جزء من سبعين جزء من النبوة» كتاب المؤمن: 35، أي أن لها جزء من الواقعية، وعنه (عليه السلام) : «رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزء من النبوة» أصول الكافي 8: 90. وعندما نقول إنها جزء من سبعين جزء من النبوة فإن ذلك يشير إلى حقيقة إمكان وقوع الرؤيا كما رآها النائم، ولكن لا يعني بالضرورة صدقها في كل حين، ومتى كانت كذلك فإن من الخطأ الذي يقع فيه الكثير من الناس هو الحكم على الآخرين من خلال رؤيا رآها، أو حلم شاهده في منامه، فيبني عليه معتقداته، وتصرفاته وهذا الأمر لا يقبله الشارع الإسلامي مطلقاً. فإن الموازين التي يبني عليها الدين تبنى على العقل والشرع، لا المنامات والأحلام وأضغاث الأحلام. فلا يقول أحد إني رأيت الشخص الفلاني بشكل مقيت، فهو يدل على خبث سريرته وإذا كان العكس فيدل على طهارته، أو إن البعض يترك زوجته التي يريد أن يتزوجها بسبب أنه رأى شخصاً يقول له: لا تتزوجها ونحوه. فإذا كان الحال هكذا في الأمور الدنيوية فإنه من باب أولى أن يكون كذلك في الأمور الشرعية سواء كانت الرؤيا في المنام لإنسان عادي، أو لعالم كبير، أو لولي من أولياء الله فلا يصح التعبد، أو الاعتقاد بالأحكام من خلال المنامات. ولقد أستحق المحقق الحلي لقباً، وشرف هذا اللقب بسبب أنه لم يتعبد بالمنامات فقد كان صاحب الشرائع رحمه الله، يدرس في المسجد فدخل مجنون فأمر بطرد المجنون عن المسجد، في الليل رأى شخصًا نورانيًا يقول له: لا تطرد المجنون إذا دخل المسجد.
في اليوم الثاني جاء ذلك المجنون أيضاً، فقال لتلامذته اطردوا ذلك المجنون من المسجد، فطردوه وفقاً لأوامر الشيخ، وتكررت الرؤيا في الليلة الثانية وفي الليلة الثالثة وذلك الرجل النوراني ينهاه عن طرد المجنون من المسجد، إلا أن الشيخ يقوم بطرده، وفي الليلة الرابعة جاءه ذلك الشخص النوراني وقال له : يا أبا القاسم ـ كنيته أبو القاسم ويلقب بنجم الدين ـ لماذا طردت المجنون؟ فلامه.
قال له المحقق : لو رأيتك ألف مرة، أو سبعين مرة لما غيرت رأيي في طرد ذلك المجنون؛ لأنّ لدينا سبع روايات تأمر بطرد المجانين من المساجد، ولن أغير رأيي في الأحاديث الصحيحة بحسب رؤية رأيتها هذا أولا، وثانياً إن الرؤية ليست من مصادر الأحكام الشرعية فمصادر الأحكام الشرعية الكتاب والسنة والإجماع والعقل وليس من ضمنها عالم الرؤيا حتى تغير لنا الأحكام، التفت إليه ذلك النوراني قال له أردت أن امتحنك، فوجدتك محققاً، بعدها قص الرؤيا على تلامذته فشاع تلقيبه بالمحقق بين الجميع.
والحق يقال لو إن شخصا منا رأى مثل هذه الرؤيا لغير كل آرائه وأفكاره، ولكن المحقق يتبع ما ورد عن الله ورسوله وأهل البيت صلوات الله عليهم ولم يلتفت إلى مثل هذه الأمور. فما يلزمنا هو العمل بالموازين الشرعية فقط. بل حتى لو وافقت الرؤيا الواقع والحكم الشرعي فلا يؤخذ به إتباعا للمنام أو للرؤية ولذلك يقول الصادق (عليه السلام) : «إنّ دين الله أعز من أن يرى في النوم» الفصول المهمة 1: 689.
وهذه الرواية تريد أن تشير إلى نقطة مهمة وهي أن دين الله عزيز بحيث لا يمكن لأحد أن يتلاعب بالأحكام الشرعية من خلال منام يشاهده،ولو فتح المجال لهذا الأمر لم يبق من دين الله إلا القشور والخزعبلات وصار الإسلام دينا موهونا لا قيمة له.