فكر العالم
فكر العالم
يعتبر العلم هو القوام الذي يحرك الأمم نحو التقدم والرقي، وبدونه فلا مجال لأي تطور في العالم، فالفرق بين الإنسان والحيوان هو في العقل. والعقل هو المعرفة التي تعبِر عن العلم. فمتى عقل الإنسان وعرف قادته المعرفة إلى صنع الحضارات، والرقي بها. وكما أن العلم طريق لبناء الأمم فإن الحفاظ عليه يحتاج إلى دماء تسيل وتراق حتى تبقَ الحضارة كما بناها رجالها وعلماؤها. وعندما نريد أن نضع ميزانا وفارقا بين دماء الشهداء التي أريقت، ومدد العلماء الذي كتب به العلم وخطت ملامحه، فإننا نجد أن مداد العلماء عند الله أعظم من دماء الشهداء. وهو إشارة حقيقية لعظمة العلم والعالم وذلك؛ لأن العلم والعالم يتحدان في شخص واحد فيكون العالم هو العلم ولذلك ما يصدر منه علماً وعظمة ففي رواية عن النبي صلى الله عليه وآله يقول: «يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح عليهم مداد العلماء على دم الشهداء» كنز العمال 10: 141. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين فيوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» من لا يحضره الفقيه 4: 399.
ونحن حينما نتساءل لماذا يرجح مداد العلماء على دماء الشهداء؟
فإن الجواب من قبل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله يقول: «أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد» المحجة البيضاء 1: 14، وعنه صلى الله عليه وآله: «طالب العلم ركن الإسلام ويعطى أجره من النبيين» كنز العمال 10: 143. فمتى كان أقرب الناس إلى الأنبياء عليهم السلام هم العلماء، وأن أجرهم من أجر الأنبياء عليهم السلام فان العلماء لهم ما ليس لغيرهم. كما أن المقاتل إذا خرج من دون رأي عالم، كان قتاله وبالاً عليه.
وكذا الحال حينما نعمل نقوم بمقارنة بين العابد والعالم فإن ميزان العالم يفوق ميزان العابد فعن النبي صلى الله عليه وآله قال: «فضل العالم أحب إليّ من فضل العبادة» بصائر الدرجات: 27، لكن لنرَ كيف يقرر صلى الله عليه وآله هذا العلم الذي هو أفضل من العبادة يقول صلى الله عليه وآله: «من خرج يطلب بابًا من علم ليرد به باطلاً إلى حق، أو ضلالة إلى هدىً كان عمله ذلك كعبادة متعبد أربعين عامًا» الأمالي: 619؛ لأن العالم عنده هدف من العلم، علمه يجعله وسيلة لإيصال الناس إلى الله، لربط الناس بالمبادئ.قال أمير المؤمنين عليه السلام: «الكلمة من الحكمة يسمعها الرجل فيقول أو يعمل بها خير من عبادة سنة» بحار الأنوار 1: 148؛ وذلك لأن العالم لا يتقوقع على نفسه ولا يحب الخير لذاته فقط بل يسعى لأخذ الناس نحو الهدى، والحق فهو يأخذ بيده الغافلين، الجهال، الذين لا يعلمون كيف يصلون إلى الحق، فهو يبين لهم الطريق، وبذلك يسمو إلى أعلى الدرجات ولكن أي عالم هذا. فهل كل من تعلم العلم وصل إلى هذا المقام أم أنه عالم خاص له صفات خاصة؟
العالم الذي لا تلتبس عليه اللوابس، العالم بزمانه هو العالم الحقيقي الذي يعرف ما يراد منه، وكيف يفعل ذلك من أجل إيصال كلمة الحق. فينظر بعين الله ولا يهمه جهل الجهال حتى لو نالوا منه. كما قيل (الناس أعداء ما جهلوا)، ومن هؤلاء العلماء الربانيين الحقيقيين الذين سخروا أنفسهم لخدمة الدين وإعلاء كلمة الحق العلامة الشيخ الشهيد مرتضى المطهري (رضوان الله عليه)، فهو عالم تنطبق عليه كلمة العالم العامل، همه إيصال الناس إلى الله تبارك وتعالى لنرَ كيف كان أو ماذا كان يتحمل لإيصال الناس إلى الله تبارك وتعالى؟
كان رحمه الله يكتب في مجلة، هذه المجلة مجلة لا تلتزم بالقواعد الأخلاقية بل كان الهدف منها إشاعة الرذيلة والتشجيع على السفور الهدف منها يختلف مع هدف العلماء والرساليين، ومع ذلك كان الشهيد المطهري يكتب مقالات عن المرأة وعن أهمية الالتزام بالإسلام وبالشرع في هذه المجلة، وسياسة هذه المجلة تختلف أهدافها مع أهداف الشهيد المطهري رحمه الله، ومع ذلك كتب مقالاته عن المرأة في هذه المجلة اسمها بالفارسي (زن روز) أي المرأة العصرية بالترجمة العربية نال الشيخ المطهري من قاصري النظر الذين لا يفقهون أهمية التبليغ. كيف يكتب هذا العالم في مجلة غير أخلاقية لا تتناسب مع شأنه، حتى قال له بعض الكتَّاب:
كيف يليق بك كعالم أن توضع صورتك بالعمامة في هذه المجلة إن هذا لا يليق بك؟
التفت إليه الشهيد مطهري رحمه الله قال له: أنا أكتب في مجلات ملتزمة ويصل صوتي وأفكاري إلى الآخرين، لكن هناك بعض الناس من غير الملتزمين لا يقرؤون المجلات الهادفة والملتزمة، وإنما يقرؤون هذه المجلات غير الملتزمة، فكتاباتي في هذه المجلة لإيصال صوت الحق وإبلاغ الأحكام الشرعية والفكر الإسلامي الأصيل إلى الناس الذين لم يطلعوا عليه. فلعل امرأة ضُللت فتسمع هذا الهدى أو شاب يافع يسمع أو يرى هذا القبس من النور الإلهي فيهتدي به إلى الصراط المستقيم.
ونحن حينما نتأمل كلام الشيخ المطهري (رضوان الله عليه)، نرى أنّ الكثير من الناس الذين كانوا يقرؤون في تلك المجلة غير الملتزمة عندما سمعوا صوت الحق يصدح، فمنهم من قلّ شرهم وبعض منهم بالفعل اهتدى وسار في طريق الحق ببركات هذه الكتابات الطيبة والجميلة. ولذلك نرى أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله يقول للإمام علي عليه السلام: «ولئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك مما طلعت عليه الشمس».
ونحن نقول عندما يقرر العالم أمراً معيناً ينبغي على المؤمن أن يُسنده ويؤيده في توجهه لا أن يشكل عليه، ولكي نفهم ذلك نذكر الحكمة التي قالها السيد شرف الدين رحمه الله وهي من روائع الحكم: إنّ الهدى لا ينتشر إلاّ من حيث انتشر الضلال، ولأنه ـ السيد شرف الدين ـ كان ينظر بهذه النظرة كانت له أفكار ورؤى قد تخالف البعض، وقد نالت منه المعارضة بشكل كبير إلا أنه كان ينظر بعين الله، ففي زمان السيد شرف الدين كان الفرنسيون بحملاتهم الاستعمارية يستخدمون بعض الوسائل الإعلامية كالمجلات والجرائد باللغة العربية، كان يكتب ويشارك فيها وكذا كان هو أول شخص أيضًا شجع على تأسيس المدارس النظامية وكانت المدارس النظامية عند بعض الفئات غير محمودة؛ لأنها من صنع الفرنسيين، وكل شيء يأتي من الفرنسيين غير جيد حتى إذا كان علمًا نافعًا أيضًا فهو غير جيد، ولكن السيد شرف الدين (رحمه الله) كان بعكس ذلك فقد كان يشجع على الانخراط في هذه المدارس وتأسيس مدارس في مقابلها إذا استطعنا، ويقول ويكرر هذه الحكمة الجميلة: (إنّ الهدى لا ينتشر إلاّ من حيث انتشر الضلال).
ولهذه الحكمة والطريقة منه (رضوان الله عليه) أثر في كثير من الناس، حيث غيّر رأي الكثير منهم سواء من المخالفين أو المنحرفين. وكان تأثيره كبيرا وعظيما على طبقات المجتمع، الواعي منهم وغير الواعي.
كيف نحدد الميزان للعمل؟
أن الميزان الذي يتحرك منه العالم ليس نظرة زيد، أو بكر، ولا ما يقوله المجتمع عنه، وماذا سيخلف من نظرة، بل المدار على التكليف الشرعي حتى لو كان تكليفه يلزم منه أن يظهر في مظهر لا يليق برجل الدين، أو أن يتواجد في مكان لا يليق بالعالم من وجهة نظر الناس. فمادام تشخيص التكليف يقتضي ذلك، فيجب على العالم أن يقوم بواجبه وتكليفه الذي يقتضي منه نشر الحق والهدى والعلم والمعرفة حتى يعم دين الله ولذلك جاء عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله أنه قال: «زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه» بحار الأنوار 2: 25، ويقول الصادق عليه السلام: «أنّ لكل شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلمه أهله» بحار الأنوار 2: 25.
وتعليم العلم لمن عنده استعداد. فيكون من يملك استعداداً هو أهل العلم، وزكاة العلم أن يعلمه أهله ويقول عليه السلام: «ما تصدق الناس بصدقة مثل علم ينشر» بحار الأنوار 2: 25.
قال النبي صلى الله عليه وآله: «يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام، أو كالجبال الرواسي، فيقول: يا ربي أنّا لي هذا ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته الناس يُعمل به من بعدك» بصائر الدرجات: 25. واختلاف تشخيص المواقف لا يعني سقوطها عن صاحبها وعن من يرى التكليف في فعل معين، عليه أن يقوم به، ويدعو إليه. وعند التعارض في المواقف يأخذ أحوطها وأسلمها في العمل، ويعمل به مع البذل في نشر العلم وتعليمه لمن يطلبه، ولا يبخل به لأن الله أمر الجهال أن يسألوا العلماء، وعلى العلماء أن يجيبوا على تساؤلات الجهال، ففي رواية عن الصادق عليه السلام ينقل عن جده علي عليه السلام: «إنّ الله لم يؤخذ على الجهال عهدًا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدًا ببذل العلم للجهال» التحفة السنية: 11. ومتى تعلم هذا العلم وجب عليه أن يبلغه بالأسلوب الأمثل والطريقة الحسنة حتى يقع لدى الآخرين موقع القبول ويتحقق المراد ولذلك قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل: 125.