تأثير العمل بما تقول على الناس
تأثير العمل بما تقول على الناس
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرينقال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) (1) .
من الأمور التي لها آثار مباشرة وفعّالة مسألة العمل بما تأمر الناس به فإن في ذلك تأثير على المخاطب من حيث لا تشعر فيستجيب ان لم يكن هناك مانع آخر من عدم الأجابة وقد أشار الله تبارك وتعالى في كتابه الى ذلك وأكدت الروايات الشريفة على مضمون هذا المعنى بشكل كبير وأيضا يأمر به العقل السليم وكل ذي لب يقول الشاعر :
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله **** عار عليك إذا فعلت عظيم
وينقل أن أحد العلماء جاءه شخص (وكان من الرق) وطلب منه أن يذكر فوائد وآثار عتق الرقبة حتى يعتقه مولاه ، فبقى هذا العالم مدة من الزمن ثم بعد ذلك تكلم في خطبة عن فضائل عتق الرقبة وتأثيرها على توازن المجتمع وما للذي يفعلها من الأجر عند الله تبارك وتعالى وما إلى ذلك من أمور وكان مولى الشخص حاضراً في هذه الجلسة وتأثر بكلام المتكلم، فأعتق عبده على أثر هذه الخطبة ، فأتى العبد إلى العالم لكي يشكره على ما فعله وسأله عن سبب التأخر عن إلقاء هذه الخطبة فقال العالم له: أنني في هذه الأشهر لم يكن لي عبد فبقيت إلى أن حصلت على بعض المال فاشتريت عبداً فأعتقته حتى يكون كلامي مؤثراً على الناس وله وقع على القلوب ، لأنه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ).
إن هذه المسألة ليست مسالة مجردة عن العلة والسبب,, لا بل أن هذا التأثير في الآخرين يكون تكوينيا عن طريق العمل والسير أولا ثم أمر الآخرين بما تريدهم أن يعملوا به ، وقد أشار الله تبارك وتعالى الى هذه المسألة بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ…) (2)، وكذلك قال تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ…) (3) ، فهنا إشارة إلى أن هداية الآخرين تتم بعد هداية النفس لكونها أكثر تأثيراً وأكثر وقعاً.
وفي الحديث القدسي (بما معناه) أن الله تعالى يأمر عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) بأنه إذا لم تكن تعمل شيء لا تقله للناس، وان كان الناس لا يطلعوا على سريرتك وباطنك ولكني أعلم. فلو كنت لا تخجل من الناس قط فاخجل مني.
وينقل عن الشيخ البهائي (رحمة الله عليه) أنه سافر يوماً إلى قرية وذهب إلى مسجدها وكان في هذا المسجد خطيب يتكلم بكلام رائع وحسن وبديع ولم يسمع بمثله قط ولكن الناس لم يكونوا متوجهين اليه ويتكلمون فيما بينهم ولا يعيرونه أي اهتمام فذكر الشيخ في نفسه أنه لابد أن يكون هناك سبباً في نفس هذا الشخص الخطيب فقرر مراقبته ليعلم الامر فمشى خلفه إلى أن وصل إلى بيته ، وفي اليوم التالي جاء الشيخ إلى بيت الخطيب ولم يكن الخطيب موجوداً في بيته فطرق الباب وخرجت له زوجته فسلم عليها من وراء الستر وسألها عن زوجها وإن كانت قد رأت منه شيئاً غير طبيعي ، فقالت المرأة : لا ولكنه يدخل إلى غرفته ويقفل الباب ويبقى فيها فترة ثم يخرج ، فقال لها : حاولي أن تدخلي الى الغرفة بغير علمه بحيث لا يراك وراقبيه ماذا يفعل في تلك الغرفة، وفي اليوم التالي جاء الشيخ إلى المرأة فأخبرته : أنها دخلت إلى الغرفة وبقيت إلى أن دخل زوجها وقفل الأبواب ثم أخرج بعد ذلك (خمراً) فقال: إن الله غفور رحيم وشرب الخمر ثم خرج ، قال لها الشيخ أفعلي اليوم ما فعلتي أمس وعندما يقول أن الله غفور رحيم قولي: ولكنه شديد العقاب، ففعلت المرأة ما طلبه منها الشيخ وعندما قالت هذه المقولة بقى زوجها هائماً كأنما يسمع هذه العبارة أول مرة كأنما لم يقرأ في القرآن تلك العبارة فبقى محزوناً ومكروباً.
ويقول الشيخ بعد فترة من الزمن أتيت إلى هذه القرية مرة أخرى وذهبت إلى مسجدها فوجدت الخطيب يتكلم بكلام عادي ولكن الناس كانوا منشدين وملتفتين إليه وذائبين في كلامه فهذا وأمثاله نتيجة لتهذيب النفس أولا ثم وعظ الآخرين.
فهذه القصة وأمثالها أمثلة حية عن أن ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب وما يخرج من اللسان فلا يتعدى الأذان.
فالإنسان المؤمن هو الذي يكون في صمته داعية إلى الله تعالى والى طريق الحق وفي كلامه أيضا يكون داعية ، ومنهنا الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم) (4) ، فالناس حين ترى شخصاً بأخلاقه وبصمته يغير الناس، فقطعاً تبعا للفطرة الموجودة في داخلهم تدفعهم إلى أتباع هذا الشخص والسير على منهجه وهذا هو الهدف الحقيقي من بعث الرسول (صلى الله وعليه وآله وسلم) : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (5) ، فالأخلاق ليست شيئاً نراه بمعزل عن الناس ولا هي شيء اعتباري بل هي شيء موجود في داخل كل إنسان ولكنه يختلف من شخص لآخر بحسب تخلقه بالأخلاق الحميدة .
هذا في الصمت ، أما في التكلم والذي أعطانا الله آلة لهذا الأمر وهو اللسان وهو الذي اشد ما يحاسب عليه الإنسان إن لم يكن متخلق بما يدعوا له والذي فيه يثاب المرء وفيه يعاقب فلا يعطي التأثير هذا تكويناً أي في الواقع لا يسمع أحد منه وفي الآخرة يكون مصداقاً لقوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ…).
وقد اهتم الشارع المقدس بهذا الموضوع حيث أكد على لسان نبيه ذلك فقد ورد في خبر الإسراء أن النبي (صلى الله وعليه وآله وسلم) قال: ( مررت ليلة اسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من أنتم قالوا: كنا نأمر بالخير ولا نأتيه وننهى عن الشر ونأتيه) (6).
وورد في الخبر عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه قال : (أن من أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً وخالفه إلى غيره) (7).
وكذلك في موعظة الرسول (صلى الله وعليه وآله وسلم) لأبن مسعود: (يا أبن مسعود لا تكن ممن يشدد على الناس ويخفف عن نفسه يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) (8).
وأيضاً قول الإمام الصادق (عليه السلام) : (إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه …) (9).
فهذه الأحاديث وغيرها تحاول أن ترشد الناس إلى فضيلة خلقية عالية الأهمية وهي مسألة هداية الناس والتي هي أحب إلى أولياء الله من حمر النعم ، وحتى لو لم تحصل الهداية فيكفي التمسك بهذه الفضيلة الخلقية لتهذيب النفس فلا يكون مصداقاً لمن يرى الشعرة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه .
طبعا ولا ننسى ان من شروط الهداية أن يكون للسامع قابلية التغير ولم يختم الشيطان على قلبه وإلا فمن هو أفضل خلقاً وخلقاً من الرسول وآل الرسول (صلوات الله عليهم) يعظون الناس ولكن دون جدوى فهذا الحسين (عليه السلام) وهو يخطب بالناس ويذكرهم بأنه أبن رسول الله (صلى الله وعليه وآله وسلم) ولكن مع ذلك فالقوم لم يرعوا ذلك فذبحوه بأبي هو وأمي عطشاناً وسبوا عياله وسلبوهم فأنا لله وأنا إليه راجعون.
اللهم حسن أخلاقنا كما حسنت خلقنا يا أرحم الراحمين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصف آية 2.
(2) البقرة آية 44.
(3) التحريم آية 6.
(4) الكافي ج2 ص77 ح9.
(5) بحار الأنوار ج16 ص210 .
(6) المحاسن ج1 ص121.
(7) كتاب الزهد ص17.
(8) مكارم الاخلاق ص457.
(9) الخصال ص109.
المصدر : مجلة الفرات العدد (51)