التـــوكّل

التـــوكّل

السيد محمد علي

( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق / 3)
التوكل : هو إيكال العبد جميع أموره إلى ربّه والاعتماد عليه فيها .
ومن متممات التوكّل تفويض الأمر إلى المولى والتسليم له والرضا بما يفعله ، ويعتمد التوكّل على قوّة الإيمان بالله والإيمان بأنّ كلّ شيء بيده ، وأنّه على كلّ شيء قدير، وأنّه لطيف بعبده ، فلا يفعل به إلاّ خيراً، وأنّه حكيم، فلا يختار لعبده إلاّ ما تقتضيه الحكمة وتقوم به المصلحة ، وهذا النحو من التوكّل يدلّ عليه الحديث المروي عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) حين سئل عن قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق / 3).
فقال: (التوكّل على درجات ، منها: أن تتوكّل على الله في أمورك كلها ، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنّه لا يألوك إلاّ خيراً وفضلاً، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له ، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه، وتثق به فيها وفي غيرها) (البحار، ج68، ص 129).
ولا يخفى أنّ هذا النحو من التوكّل هو ما يحرز به العبد حقيقة الإيمان ، ففي الحديث المروي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال: (الإيمان له أربعة أركان : التوكّل على الله ، وتفويض الأمر إلى الله ، والرضا بقضاء الله ، والتسليم لأمر الله) (البحار، ج68، ص 157). وما رواه البزنطي قال: سمعت الرضا (عليه السّلام) يقول: (الإيمان أربعة أركان : التوكّل على الله عزّ وجلّ ، والرضا بقضائه ، والتسليم لأمر الله ، والتفويض إلى الله) (البحار، ج68، ص 135) فيجب أن يتّصف به كلّ مؤمن وإلاّ لكان إيمانه ناقصاً.
كما أنّ من يتوكّل على الله تعالى في بعض أموره بهذا النحو من التوكّل ، وفي بعضها الآخر لا يتوكّل عليه يعدّ هذا ناقص الإيمان أيضاً ، وإلاّ فكيف أوكل بعض أموره إلى الله، وبعضها لم يوكله إليه ، مع أنّ جميع أموره بيد الله ، وإرادته فيها ماضية لا تردّ ، والإجراء على وفق ما تقتضيه الحكمة أمر ثابت فيها جميعاً ، ومن هنا نعلم أنّ التوكّل هو من أهمّ الصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها السالك لأنّ من مقومات السلوك : الانقطاع إلى الله والإعراض عما سواه ، ويلزم ذلك إيكال
جميع أموره إليه حتى يعلم علم اليقين أنّه قد حقق الانقطاع التام إلى الله.
وقد يتوهّم البعض أنّ الأخذ بالأسباب وإعدادها منافٍ لهذه الدرجة من التوكّل ، إلاّ أنّ هذا التوهّم لا يعتدّ به.

أوّلاً : إنّ الله تعالى شأنه قد جعل لكلّ شيء سبباً وربط المسببات بأسبابها ، فإذا اعتمدنا إعداد الأسباب ، فقد أخذنا بما أجراه الله تعالى بحكمته ، فهو لا ينافي التوكّل عليه فيها.

وثانياً : إنّ من يعتمد الأسباب تارّة يعتمدها وهو يعتقد أنّها هي المؤثرة في المسببات ، والموجبة لحدوثها ولا دخل لإرادة الله في ذلك لا في الوجود ولا في العدم ، فهذا كفر بالله ، وهو لا يصدر من المسلم ، وأخرى يأخذ بالسبب ويعتمده مع اعتقاده بأنّ السبب ليس إلاّ من قبيل المقتضي ، وأنّ الفيض والوجود كله بإرادة الله وأمره ، إن شاء أفاض الوجود فتحقق المسبب ، وإن شاء منع ، وهذا النحو من الأخذ بالسبب لا ينافي التوكّل ، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السّلام) قوله: (أوجب الله لعباده أن يطلبوا منه مقاصدهم بالأسباب التي سببها لذلك ، وأمرهم بذلك)، ومصداق ذلك ما ورد في القرآن الكريم ، قال تعالى: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ( النساء / 71) ، وقال تعالى: (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) ( النساء/102). وقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) ( الأنفال/ 60).
وقال تعالى: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً) ( الزخرف/ 23).
وكلّ هذه الآيات تأمر بإعداد السبب ، وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنّه رأى أعرابياً أهمل ناقته ولم يعقلها ، وقال: توكلت على الله ، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلّم): (أعقلها وتوكّل).
وقد ورد الأمر بالتوكّل على الله في الكتاب العزيز حيث قال تعالى: (وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (سورة المائدة/ 23).
وقال تعالى: (وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ( آل عمران/ 122).
وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفَى بِالله وَكِيلاً) ( الأحزاب/ 48).
وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ( الشعراء/ 217).

فوائد التوكّل على الله
وللتوكّل على الله فوائد وآثار مهمة ، وقد تعرّضت الآيات لبعضها ، قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) ( الطلاق/ 3).
ومنها : أنّه بالتوكّل على الله تكمل للعبد حقيقة الإيمان ، كما ذكرنا سابقاً.
ومنها : كفاية الأمور، ففي الحديث المروي عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال: (من وثق بالله أراه السرور، ومن توكّل عليه كفاه الأمور) (البحار، ج68، ص 151).
ومنها : حصول أعلى مراتب التقوى ، ففي الحديث المروي أيضاً النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) عنه قال: (من أحبّ أن يكون أتقى الناس فليتوكّل على الله) (البحار، ج68، ص 151).
ومنها : حصول أعلى مراتب القوّة ، ففي حديث النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) المروي عنه أيضاً أنّه قال: (من أحبّ أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله).
ومنها : حصول النصر والغلبة ، ففي الحديث المروي عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال: (من توكّل على الله لا يُغلب ، ومن اعتصم بالله لا يُهزم) (البحار، ج68، ص 151).
ومنها : حصول الرزق ، ففي الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال: (لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله ، لرُزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، وما روي أيضاً عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم)، قال: (من أحبّ أن يكون أتقى الناس فليتوكّل على الله ، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند الله عزّ وجلّ أوثق منه بما في يده).
ومن أهمّ الفوائد أيضاً راحة القلب والاطمئنان النفسي ، فإنّه ممّا يرى بالوجدان إنّ الإنسان إذا اعتمد على كافل له وكان ذلك الكافل قوياً قادراً على حمايته وغنياً قادراً على توفير حاجاته استراح قلبه من التفكير في تلك الأمور، ومن أقوى من الله ، ومن أعزّ منه ، ومن أغنى منه ، ومن أكرم منه وأدرى بمصلحة العبد ومضرّته منه ، ومن ألطف به منه ، ومن أرحم به منه ؟ فكيف لا يتوكّل العبد عليه ويعرض عن التفكّر في أموره ويكلها إليه.
وممّا ينسب إلى الشيخ أحمد بن زين الدّين عليه الرحمة أنّه تلقى هذه الأبيات في منامه من الإمام الحسن (عليه السّلام) حين سأله أن يخبره بشيء إذا قرأه رآهم (عليهم السلام)، فقال له شعراً:

وكِل الأمور إلى القضا كن عن أمورك معرضا
فـلربما اتسع المضيق وربـما ضـاق الفضا
ولـربّ أمـر مـتعب لـك في عواقبه رضا
الله يـفعل مـا يـشاء فـلا تـكن مـتعرّضا
الله عــوّدك الـجميل فقس على ما قد مضى


فكان يردّدها فلا يجد لها أثر فيما أراده ، ثمّ تنبّه إلى أنّ الإمام لا يريد منه قراءتها وإنّما يريد منه العمل بمضمونها ، وحين عمل بها وجد حاجته التي يريد.


المصدر : شبكة الامامين الحسنين

Loading