الفقه والاخلاق ( 1 )
الفقه والاخلاق ( 1 )
أ. ابراهيم الحسى
أولا – الفقه
1 – مفهوم الفقه والتفقه
وردت مفردة «الفقه» ومشتقاتها، وبخاصة «التفقه»، عشرين مرة في القرآن، وتم استعمالها كثيرا في احاديث المعصومين(ع).
يبدو ان جماعة من اهل اللغة حملوا المفردة على معنى الفهم،كما جاء في «المصباح»: «الفقه: فهم الشيء»، مستدلين على ذلك بقوله سبحانه: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)[هود/91]، وقوله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)[الاعراف/179]، وقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة/122] ((26)). كما سجل الطريحي، في «مجمع البحرين»، ما يقارب هذاالمضمون، بقوله: «فلان لا يفقه، اي لا يفهم»((27)).
لكن معنى الفقه ليس مطلق الفهم، بل هو الفهم العميق.توضيح ذلك، ان معلوماتنا عن الامور والحركات التي ينبض بها العالم هي على ضربين، فتارة تكون معلومات سطحية واخرى تتجاوز معلوماتنا السطح وتتخطاه لتنفذ الى اعماق الاشياء، والى تلافيف الحركات وتضاعيف المسارات، لتسبر أغوارها وتتقصى جذورها ومناشئها. والواقع ان مفردة الفقه تقترن في كل موضع بالفهم العميق وسبر الاغوار((28)).
لقد جاء الامر، في القرآن والروايات الماثورة، ب «التفقه» في الدين. وما تفيده الرؤية الكلية، الناشئة عن مجموع النصوص الامرة، ان الاسلام حث المسلمين على ادراك جميع الشؤون الدينية، سواء ارتبطت باصول المعتقدات ام بالاخلاقيات ام بالتربية الاسلامية ام بحقل العبادات ام بحقل النظام الاجتماعي، ودفع لوعيها واستيعابها بعمق بابلغ ما تكون البصيرة وانفذها. بيد ان ما تبلور بين المسلمين، منذ القرن الثاني الهجري، كاستجابة للامر بالتفقه والتدليل على معنى المصطلح، هو اقتصاره على «فقه الاحكام» او «فقه الاستنباط»، بمعنى الفهم الدقيق والاستنباط العميق للاحكام العملية الاسلامية من مصادرها الخاصة بها.
والباعث الى هذا التراجع، في معنى التفقه، يعود الى عدم بيان الاحكام الاسلامية ازاء المسائل والوقائع والحوادث على نحوتفصيلي، وبما يرتبط بكل واقعة على حدة. على ان انجاز مثل هذه المهمة لم يكن امرا ممكنا بلحاظ ما يتصف به الاسلام من شمول وعالمية، وبحكم ان هذا الدين هو خاتم الاديان.على ضوء هذا كله يتحتم على الفقيه ان يتجه الى المصادر المعتبرة لاستنباط احكام الوقائع والحوادث، ومن ثم صارت الفقاهة تواما للفهم العميق المستبصر الدقيق الشامل، كما أو ماوا الى ذلك في تعريف علم الفقه: «الفقه، هو العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن ادلتها التفصيلية». ويلحظ، في التعريف،عدم تخطي منطقة الفقه الى المسائل ذات الصلة بالاصول العقيدية او بالحقل التربوي، واقتصاره على الاحكام العملية وحدها.
تاسيسا على ما مر، صار علم الفقه اوسع العلوم الاسلامية مدى واشملها افقا، وهو من الوجهة التاريخية اكثرها قدما((29)).
للقول: ان مفردتي «الفقه» و«التفقه» تدلان، في نعود القرآن، وفي جزء اساسي من الروايات، على معنى التوفرعلى البصيرة بالدين كله، وسبر اغواره وفهمه بتمام اصوله وفروعه وبجميع ما ينطوي عليه من معارف دينية، ولا دلالة لهما على الاقتصار على جزء من الاحكام العملية، وهو ما يعنيه مصطلح الفقه بمعناه المتداول.
ممن استدل بذلك العلامة الطباطبائي، في خاتمة آية «النفر»، حيث ذكر((30)): «ان المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية من اصول وفروع، لا خصوص الاحكام العملية، وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، والدليل عليه قوله: (لينذروا قومهم)، فان ذلك امر انما يتم بالتفقه في جميع الدين»((31)). من الواضح ان هذا الاستنباط لمعنى التفقه هو عام وشامل، يضم بين ثناياه فهم الدين كله.
سلك هذا المنحى نفسه الشيخ البهائي، فعند مكوثه مع الحديث المشهور: «من حفظ من امتي اربعين حديثا ممايحتاجون اليه في امر دينهم، بعثه الله عز وجل يوم القيامة فقيها عالما»((32))، ذكر انه ليس المراد من الفقه في الحديث «الفهم» ولا «العلم بالاحكام الشرعية العملية»، فهذا معنى مستحدث، بل المراد به البصيرة في امر الدين، حيث يقول نصا: «والفقه اكثر ما ياتي في الحديث بهذا المعنى، والفقيه هوصاحب هذه البصيرة… ثم هذه البصيرة اما موهبية، وهي التي دعا بها النبي(ص) لامير المؤمنين علي(ع)، حين ارسله الى اليمن بقوله(ص): (اللهم فقهه في الدين)، او مكتسبة، وهي التي اشار اليها امير المؤمنين(ع)، حيث قال لولده الحسن(ع): (وتفقه يا بني في الدين)»((33)).
بيد ان معنى المصطلح ما لبث ان ضاق عن سعته، فاكتسب معناه المتداول حاضرا، من انه «العلم بالاحكام الشرعية العملية عن ادلتها التفصيلية»((34)).
2 – تحولات المصطلح على مر العصور
لقد اكتسبت مفردة الفقه معاني واصطلاحات مختلفة على مرالتاريخ، وخضعت لمراحل متعددة كما اسلفنا. سنمر في ماياتي بهذه التحولات والمراحل باختصار:
أ – فقه مكة (الفقه الاكبر): بدات هذه المرحلة على عهدرسول الله(ص)، واستغرقت مدة وجوده في مكة منذ البعثة الى ثلاث عشرة سنة من بعدها. والمقصود من الفقه في هذه المرحلة معناه العام الذي يضم المعارف الدينية التي تشمل المعتقدات (الحكمة النظرية) والابعاد الاخلاقية، والامورالتربوية وكذلك الاحكام والمسائل العملية (الحكمة العملية). والفقه بهذا المعنى هو الشريعة نفسها.
ب – فقه المدينة : وهو ينتمي الى عهد رسول الله(ص)، ايضا،ويشمل المدة التي وافى فيها النبي المدينة المنورة قادما اليهامهاجرا من مكة المكرمة، واستغرقت عشر سنوات هي مدة مكوثه فيها. المقصود من الفقه، في هذه المرحلة، معناه الخاص الذي لا يزال ساريا حتى اللحظة، ما يعني ان يكون الفقه في هذه المرحلة شاملا للاحكام الشرعية الفرعية العملية، من عبادات ومعاملات ومسائل حقوقية وجزائية وماالى ذلك.
على ان المراد من هذا المعنى الخاص للفقه في المدينة، مايشمل في مداه نزول خمسمئة آية من آيات الاحكام في تلك المدة، وبهذا المنظور يكون الفقه جزءا من الشريعة ويكون له معنى اخص منها.
ج – الفقه الاجتهادي وانبثاق الرسائل العملية: بدات هذه المرحلة في الوقت الذي بادر فيه الفقهاء الى ممارسة الاجتهاد وعملية الاستنباط عمليا من المصادر الاساسية، بغية معرفة احكام الحوادث الواقعة، وبغية بيان حصيلة استنباطاتهم وماتتمخض عنه اجتهاداتهم الى الناس بخاصة. يبدو ان هذه المرحلة بدات مع الشيخ الطوسي (المتوفى سنة 460هـ) اواخر منتصف القرن الخامس الهجري. على ان تنظيم الفتاوى وتقديمها في صيغة الرسائل العملية الموجودة حاضرا، يعودالى اوائل القرن الثاني عشر الهجري، وقد تم على يد الشيخ البهائي (المتوفى سنة 1130هـ).
على هذا، يمكن ترسم العلاقة بين الفقه بمعناه الاخص الذي يعني احكام المجتهدين وما يستظهرونه من فتاوى يذكرونها في رسائلهم العملية، عبر ممارسة اصول الاستنباط ومصادره، وبين الشريعة، بانها عموم وخصوص من وجه، لان العنصر المشترك بين الطرفين يتمثل بالاحكام المتطابقة مع الكتاب والسنة. اما مادة افتراق الشريعة او عنصرها، فيرجع الى تلك الاحكام ذات الصلة باصول العقيدة او بالامور الاخلاقية التي تعد جزءا من الشريعة، لكن من دون ان يطلق عليها عنوان الفقه بمعناه الاخص. اما مادة افتراق الفقه بالمعنى الاخص،فتتمثل في تلك الاحكام التي يتوفر المجتهد على استنباطهامن خلال ممارسة الاجتهاد بمعرفة الادلة التفصيلية، وهي لاتتطابق مع الاحكام الواقعية.
وبحسب منهج المخطئة الذي يؤمن به فقهاء الامامية وعدد من فقهاء اهل السنة، ويقع في القطب المعاكس لمذهب المصوبة،بحسب هذا المنهج يطلق على الحصيلة التي يتمخض عنهاعمل الفقهاء عنوان الفقه، وهو حجة على الناس، اذ تكمن الوظيفة العملية لهم بانجاز تلك التكاليف والعمل بها، لكن من دون ان يعبر عن تلك الحصيلة الفقهية عنوان الشريعة((35)).
3 – منطقة الفقه ودائرة الفقاهة
بملاحظة البنية الداخلية التي ينطوي عليها الدين الالهي،يتطابق هذا الدين مع الفطرة ويتوافق معها توافقا كاملا، ويتسق مع احتياجات الانسان ومتطلباته، ومن ثم ليست هناك مسالة تتحرك في مضمار العلاقات الانسانية قد اهملها الفقه، ذلك ان وظيفة الفقه هي الكشف عن تكليف الانسان الفردوالمجتمع عن علم ومعرفة، كما جاء ذلك في تعريف الفقه،من قولهم: « الفقه : هو مجموعة الاحكام والقواعد المشروعة في الاسلام، التي تنظم علاقة المسلم بربه وبافراد المجتمع الذي يعيش فيه، وكذا علاقة مجتمعه بالمجتمعات والدول الاخرى» ((36)).
على هذا الاساس يمتد المجال الفقهي في نطاق دائرة واسعة،ويشمل منطقة ممتدة مترامية الاطراف، وهو ينطوي على اقسام مختلفة، هي:
1 – الاحكام العبادية، كالصلاة والصوم والحج وامثالها.
2 – دائرة الاحوال الشخصية، التي تشمل احكام الاسرة،كاحكام النكاح والطلاق والتفقه والحضانة والوصية والارشاد وامثالها.
3 – احكام المعاملات والتعامل مع الناس في الحقوق والاموال وامثالها، نظير عقود البيع والشراء والاجارة والهبة والشراكة والمضاربة.
4 – احكام العقوبات والقوانين الجزائية، مثل الحدودوالقصاص والديات.
5 – قوانين المرافعات والقضاء في الدعاوى، مثل الشهادات واليمين واضرابها.
6 – الاحكام الولائية (الاحكام السلطانية) ذات الصلة بمايصدره الحاكم من احكام الى الرعية، والحقوق والتكاليف المتبادلة بينهما وما الى ذلك.
7 – الاحكام التي تنظم العلاقات الدولية للاسلام، مثل الجهاد والسلم ((37)).
وقد نهض الفقهاء بمهمة تصنيف المسائل الفقهية الواسعة في ابواب، باساليب ومناهج متعددة. على سبيل المثال مضى المحقق الحلي (المتوفى سنة 676) في كتابه النفيس: «شرائع الاسلام»، الى توزيع المسائل الفقهية الى اقسام اربعة، هي:
1 – العبادات.
2 – العقود.
3 – الايقاعات.
4 – الاحكام.
المرتكز الذي استند اليه هذا التصنيف هو الاعمال والتكاليف التي ينبغي للانسان ان ينهض بها وفاقا للميزان الشرعي، او مايكون قصد القربة داخلا شرطا فيه بنحو من الانحاء. وهذاالقسم يطلق عليه «العبادات».
اما الاعمال التي لا يكون قصدالقربة شرطا في صحتها، بحيث اذا ما وقعت بقصد آخر فهي صحيحة، فهي تقسم الى قسمين: فاما ان لا يكون وقوعها متوقفا على اجراء صيغة خاصة ومحددة، فيطلق عليها عندئذ«الاحكام».
واما ان وقوعها يتوقف على اجراء صيغة خاصة، وهذه الاخيرة تقسم الى قسمين:
الاول : ان يتوقف اجراء الصيغة فيها على طرفين، يمثل الطرف الاول جانب الايجاب والثاني جانب القبول، فيطلق عليها عندئذ «العقود».
الثاني : ان لا تحتاج الى طرف آخر، بل يكفي للطرف الواحد ان يجريها بنفسه، فيطلق عليها عندئذ «الايقاعات».
بعد هذه التصنيف الرباعي للمسائل الفقهية الى عبادات وعقود وايقاعات واحكام، بادر المحقق الحلي الى توزيع المنظومة الفقهية على (52) بابا، عشرة منها في العبادات كالصلاة والصوم والحج، وتسعة عشر بابا في العقود، مثل البيع والرهن والاجارة والشراكة والمضاربة، واحد عشر بابا في الايقاعات نظير الطلاق والعتق والبراء، واثني عشر بابا في الاحكام نظيرالارث والديات والحدود((38)).
4 – موضوع علم الفقه
موضوع علم الفقه هو «افعال المكلفين». فكل من بلغ سن التكليف تقع على عاتقه من الوجهة العملية والحكمية تكاليف وواجبات واوامر ونواه ينبغي له ان يمتثلها، وهذه الدائرة هي التي يطلق عليها افعال المكلفين. على هذا الضوء، فان ما يصدرعن المكلف، وما يطلب منه، هو عبارة عن اقواله وافعاله وعقوده وتصرفاته، وهو اعم من ان ينطوي على البعد الاثباتي(ان يكون فعلا) او السلبي، وكذلك اعم من ان يكون الحكم الزاميا (الوجوب والحرمة) او ترجيحيا (الاستحباب والكراهة) او تخييريا (الاباحة)((39)).
لقد بادر السيد محسن الكاظمي الى بيان هذه المسالة على نحو طريف في اول منظومته الفقهية، حيث يقول:
«الفقه علم بفروع ديننا
عن قطع او ظن لنا قد بينا
بالقطع حجيته والغاية
سعادة الاخرى بلا نهاية
موضوعه المبحوث عنه فعلنا
مكلفين نذكر البعض هنا»((40)).
5 – الهدف من تشريع الفقه
تفضي اية عملية تامل اجمالية في عالم التكوين ووضع الخليقة، الى انه ما من شيء الا وهو يخضع الى اساس وهدف وحكمة، ويستند في خلقه الى النظم والتدبير، تماما كما يومى القرآن الكريم الى ذلك، بقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون/115]. ابدا، ليس الامركذلك، اذ يسجل القرآن مستانفا: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ). على هذا لسنا نحن بني الانسان كالانعام والبهائم متروكين سدى او مخلوقين عبثا، بل تقع علينا وظائف وتكاليف، وما خلقنا الا لتحقيق الهدف المنشود، على ما يسجل القرآن الكريم، في قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)[القيامة/3]؟ أبدا، اذ من الثابت ان فعل الله الحكيم لا يكون عبثيا او جزافا لا غاية ترجى من ورائه. كما ان الثابت ايضا ان الهدف المرجو من افعاله، لا يرجع بالنفع اليه، فهو المطلق من كل جهة، الغني بالذات، ومن ثم فان الهدف المنشود من الخليقة هو سعادة العباد وفلاحهم.
عندما نرجع الى مفردة «سدى» نرى انها تعني، في الاصل،الحركة من دون فكر وتدبير ونظم صحيح((41)). فاذا، اذاما ترك الانسان لحاله ومصيره من دون ان يخضع لنظام خاص وينضبط في اطار برنامج محدد، مع ما يحمله من استعدادات وما يتوفر عليه من طاقات فكرية وقوى مادية وامكانات مختلفة،فسيتعارض ذلك وحكمة الله سبحانه.
والسؤال عندئذ: كيف تتامن السعادة والفلاح، وهماالهدف المنشود من الخلقة؟ السعادة هي مفهوم ينتزع من دوام اللذة وشمولها، ولذتها هي حالة نفسية يدركها الانسان بعد ان يبلغ مقصده وما يريده.والحقيقة ان السعادة والكمال، وان بديا متباينين مفهوما، الاانهما وجهان لعملة واحدة. فمعنى الكمال هو الحصول على المزايا الممكنة للنوع، وسعادته تتحقق في الوقت الذي يحصل فيه الانسان على المزايا الممكنة (المتمثلة بمتطلباته الواقعية واحتياجاته المادية والمعنوية)، ويبلغ اللذة من تحقيق مراده، وعندما تكتسب اللذة طابع الدوام والاستمرار والشمول، فهو عندئذ سعيد.
ما دامت متطلبات الانسان واحتياجاته متنوعة، وما دامت بعض الاحتياجات والمتطلبات تنبثق في سنين معينة، او لا تتيسر الافي ظل اوضاع خاصة، ولما كانت هناك عوامل اخرى لهاتاثيرها، مثل تشخيص الطريق الصحيح لتلبية الحاجات واشباع الاستعدادات المتفتحة وبخاصة في النوع الانساني الذي ينطوي على ابعاد وجودية متعددة، وله احتياجات مادية ومعنوية معا، وكذلك ما يكتنف عملية ترجيح اللذائذ الاكثر سموا ودواما وانتخاب الصحيح منها في مواقع التزاحم، ما دام ذلك كله يكتنف النوع الانساني ويحاصره فلا مناص لنا من وجوب تسليم الامر الى الله العليم الحكيم، ومن ان نلوذ بالجواد الفياض.
هكذا الحال بالنسبة الى الفقه، اذ تاتي مسيرته في تنظيم العلاقات الانسانية لتعبر، في نهاية المطاف، عن هذه الصيغة،صيغة تسليم الانسان امره للعليم الحكيم.
ثم نقطة اخرى تتمثل في اننا جميعا عباد مملوكون الله ملكية حقيقية وتكوينية، وما دمنا لسنا مهملين بل مكلفون، فينبغي لناان نفهم طبيعة تكليفنا في هذا العالم. السؤال اذا: ما هو تكليفنا؟ تكمن الفلسفة الوجودية للفقه في ادراك المكلفين لوظائفهم وتكاليفهم العملية وما يرتبط بهم من واجبات واوامر ونواه، والغاية منه بلوغ المراحل العالية للكمال. فعلى اثر التزام المسلمين بالحلال والحرام، وتحركهم في نطاق الواجبات والتكاليف العملية، يبلغون الكمال الروحي والمعنوي، ويكونون اكثر قربا من الله الذي يمثل الكمال المطلق.
6 – مصادر الفقه
المنبع او المصدر هو بمعنى المنبثق، وينقسم في الفقه الى نطاقين:
1 – المصادر الذاتية.
2- المصادر الكشفية.
1 – تمثل الارادة التشريعية الله، سبحانه، المصدر الذاتي للفقه، هذا المصدر الذي يبين منشا مشروعية حق الطاعة الواقع على عاتف المكلفين. والباعث الى ان تكون الارادة التشريعية الله هي المصدر الذاتي، يتمثل ب « إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ». فما دام الله، سبحانه، خالقنا وله ربوبيتنا التكوينية،فربوبيتنا التشريعية له سبحانه ايضا. على هذا الضوء ينهض الفقه بمسؤولية بيان ارادة الله لعباده المكلفين.
2 – اما المنافع الكشفية، فتعني المصادر التي يمكن بوساطتهاالكشف عن الارادة التشريعية الله. وهذه النقطة هي التي تفسرحصر مصادر الفقه بالقرآن والسنة والعقل، وما القياس والاستحسانات والمصالح المرسلة وغيرها سوى ضرب من الخيال وفرض ارادة البشر بدلا من ارادة الله سبحانه، ولا قيمة لها. اما الاجماع فلا يكون حجة الا اذا كان كاشفا عن راي المعصوم(ع)، وبقية الادلة تعد منبع فرعية تتم لها الحجية في حال رجوعها الى المصادر الاولية الاصيلة متمثلة بالقرآن والسنة والعقل((42)).
ثانيا – الاخلاق
1 – مفهوم الاخلاق
ذكر الباحثون للاخلاق العديد من التعريفات، منها:
1 – عدت بعض النصوص الاخلاق عبارة عن: «الخلق والطبع الراسخ في النفس». وهذا المعنى يعادل مفهوم م ث& – 129; آثتت ل الذي يعني عادة النفس وحقيقة طبعها في ردود الفعل العملية الصادرة عن الانسان، حيث يقال مثلا: ان فلانا حاد الطبع او له اخلاق حادة وخشنة.
ذكر الغزالي (المتوفى سنة 505هـ) والسيد عبدالله شبر(المتوفى سنة 1242هـ)، في تعريف الاخلاق، ما نصه: «عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الافعال بسهولة ويسرمن غير حاجة الى فكر وروية»((43)).
وذهب المحقق نصير الدين الطوسي (المتوفى سنة 672هـ)الى ان هدف علم الاخلاق ايجاد الطبع والطبيعة التي تقودارادة الانسان، على النحو الذي يرتضي ما يصدر عنه بارادة((44)).
2 – يقصد بالاخلاق، احيانا، النظريات التي تدورحيال السلوك الانساني: الحسن والسيى، المصيب والمخطى،والطيب والخبيث، وهو ما يعادل المفردة اللاتينية «ETHICS». وهذا المفهوم هو المتداول في نطاق «الحكمة العملية».
الواقع يرجع منشا هذا المفهوم الذي يرى ان الفصل، ازاء الفضيلة والرذيلة، موجود في جوهر الانسان، الى ارسطو. كماان النظرية الفلسفية التي تذهب الى ان هدف الاخلاق هوتنشئة الانسان على الفضيلة والتقى، تنهل من هذه الرؤية. فما يذهب اليه ارسطو هو ان العدالة فضيلة يعبر عنها بملكة تحث الانسان على التقوى، وتميز بين الفضيلة والرذيلة((45)).
ما يلحظ، على هذا الصعيد، ان المرتكز او المبنى الذي يستنداليه بحث كثير من علمائنا في الاخلاق كالنراقي (المتوفى سنة 1209هـ) من الالتزام بالعدالة وطرح بحث «نظرية الوسط والاطراف في الاخلاق»، انما يتمثل بهذه الرؤية((46)).
3 – ذكروا للاخلاق معنى يفيد بانها «مجموعة قواعد تفضي رعايتها الى الصلاح وبلوغ الكمال اللازم. وبهذه المثابة تعدقواعد الاخلاق هي معيار تشخيص الحسن والقبيح». ثم ان لاحترام هذه القواعد والالتزام بها منشا في ضمير الانسان وطبيعته، من دون ان تكون هناك حاجة لتدخل الدولة، فالانسان يحترم هذه القواعد وجدانيا، ويتعامل معها بوصفهاقواعد ملزمة له((47)).
على ضوء هذا التعطي مع الاخلاق عرف السناتور توماس داكن الاخلاق، بانها: «قاعدة السلوك الانساني». المقصود من السلوك الانساني هو الفعل الذي يقوم به الانسان العاقل بارادة حرة، بامر من العقل، لبلوغ هدف يتوخى العقل تحققه. وبذلك يمكن القول: ان الفعل الذي ينجز بارادة حرة، هوموضوع الاخلاق، اما الفعاليات غير الارادية والغريزية والاجبارية، فلا تشملها صفة «الفعل الاخلاقي» سواء اكانت حسنة ام قبيحة((48)).
يتبع …