الفقه والاخلاق ( 3 )

الفقه والاخلاق ( 3 )

أ. ابراهيم الحسى

لكن اذا استقام هذا الراي في احكام الجراحات والحدودوالغرامات وفصل الخصومات، فكيف يستقيم وضع احكام العبادات في زمرة المعارف الدنيوية؟ يجيب الغزالي عن هذا التساؤل بقوله : ان كل ما يتكلم به الفقيه ويتناوله من اسمى الاعمال الدينية واكثر الفعال معنوية، انما يتناوله من زاوية ظاهره وليس باطنه، ومن ثم فنظرته لا تتجاوز حدود الدنيا الى الاخرة.
ففي جميع ما يتناوله الفقيه لا تتخطى رؤيته الصحة والفساد الظاهري للعمل ولا يتوغل الى ما هو ابعد من ذلك، حتى الاسلام حين يتكلم فيه الفقيه ويبت في ما يصح منه وفي ما يفسد، انما يلتفت فيه الى فعل اللسان ويحكم بصحة الاسلام الظاهري، من دون ما يدخل في نطاق القلب هكذا تتركز عناية الفقهاء على ظاهر الاعمال في الاسلام وفي الصلاة والصوم، فالفقيه يحكم بالصحة اذا اتى الانسان بصورة الصلاة متطابقة مع ظاهر الشروط من حيث اسباغ الوضوء وان لا يكون اللباس مغصوبا واداء الحروف من مخارجها، وان كان المصلي غافلا في جميع صلاته من اولها الى آخرها مشغولا بالتفكير في حساب معاملاته في السوق، فان ذلك لا يؤثر في صحتها. وفي الحلال والحرام، يذكر الغزالي ان الورع عن الحرام من الدين، بيد انه يعود ليذكر بان للورع اربع مراتب:

الاولى – الورع العام المتمثل باحتراز الحرام الظاهر.
الثانية – ورع الصالحين المتمثل بالتوقي من الشبهات.
الثالثة – ورع المتقين المتمثل بترك الحلال المحض الذي يخاف منه اداؤه الى الحرام.
والرابعة – ورع الصديقين، وهو الاعراض عما سوى الله سبحانه والاقبال عليه بالكامل.
ما يسجله الغزالي، على هذا الصعيد، ان هذه الدرجات اوالمراتب جميعها خارجة عن نظر الفقيه، الا الدرجة او المرتبة الاولى المتمثلة بالورع العام((65)).

4 – الحيل الفقهية
العنصر الرابع الذي يدخل في التمييز بين الفقه والاخلاق،يتمثل بالحيل الفقهية المشهورة على لسان عامة الناس بوصف «الحيل الشرعية».
مثالها ان يضيق الزوج على زوجته، ويسيءمعاملتها الى الحد الذي تضطر فيه الى ان تهب له صداقها رغبة في الطلاق والتخلص منه، فهل ترضي هذه الممارسة اللهسبحانه، وهو القائل: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [النساء/4]؟
من هذه الحيل ايضا ان يتهرب الفقيه من دفع الزكاة بان يهب زوجته امواله جميعها آخر الحول، ثم يطلب منها ان تهبها له بعد ذلك، وبهذه الصيغة لا تتعلق الزكاة بامواله! يعقب الغزالي على هذه الممارسة بما مفاده ان مثل هذا الشخص يمكنه ان يهرب من مطالبة السلطان له بالزكاة عن هذا الطريق، ولكن هل بمقدوره ان يزعم في الاخرة بانه لم يكن مالكا للمال؟ ان الجهل بالدين وبسر الزكاة لا يمكن ان يتخطى هذه التخوم!فاعطاء الزكاة يراد لتطهير القلب من رذيلة البخل، فما هي الطهارة التي تحصل مع هذه الحيل التي لا غاية ترجى منهاسوى تعظيم الرذائل((66))؟ على ان الغزالي ينقل في كتاب العلم من ربع العبادات، ان الفقيه الذي كان يفعل ذلك ليتهرب من الزكاة هو القاضي ابو يوسف يعقوب بن ابراهيم بن حبيب الانصاري، تلميذ ابي حنيفة، واول قاض للقضاة في العالم الاسلامي، والفقيه السني المبرز في القرن الثاني الهجري، حيث قال في ذلك : «وحكي ان ابا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول، ويستوهب مالها اسقاطا للزكاة»، ثم اضاف: «فحكي ذلك لابي حنيفة، فقال: ذلك من فقهه»! يعقب الغزالي على كلام ابي حنيفة، بقوله: «وصدق، فان ذلك من فقه الدنيا، ولكن مضرته في الاخرة اعظم من كل جناية، ومثل هذا هو العلم الضار»((67)).

5 – تركيز الفقهاء على الطهارة والنجاسة الظاهريتين وعدم عنايتهم بالطهارة والنجاسة الحقيقيتين
هذا، ايضا، مما يؤاخذ به الغزالي الفقهاء، اذ يحصل هذا التركيز والوسواس الزائد منهم على الطهارة والنجاسة الظاهريتين في الوقت الذي كان فيه المسلمون في صدر الاسلام يتساهلون كثيرا في المسائل الفرعية ولا يتشددون فيها، بل كانوا يبذلون عنايتهم بدلا من ذلك بتهذيب النفس وصفاء الباطن((68))

الثاني : الاتجاه الايجابي.
وهو الذي يرى ان الفقه من اشرف العلوم الشرعية واكثرهاالحاحا وضرورة، وان لهذا العلم صلة وثيقة تربطه بالاخلاق.وبتعبير الفيض الكاشاني، في رده على ابي حامد الغزالي: «ليس معنى علم الفقه ما زعمه، بل هو علم شريف الهي نبوي مستفاد من الوحي، ليساق به العباد الى الله عز وجل، وبه يترقى العبد الى كل مقام سني، فان تحصيل الاخلاق المحمودة لا يتيسر الا باعمال الجوارح على وفق الشريعة الغراء من غير بدعة، وتحصيل علوم المكاشفة (المعرفة الحقيقية بالتوحيد والنبوة والمعاد وما الى ذلك) لا يتيسر الابتهذيب الاخلاق وتنوير القلب بنور الشرع وضوء العقل. وذلك لا يتيسر الا بالعلم بما يقرب الى الله عز وجل من الطاعات الماخوذة من الوحي ليتاتى بها العبد على وجهها، والعلم بما يبعد عن الله عز وجل من المعاصي ليجتنب عنها، والمتكفل بهذين العلمين انما هو علم الفقه، فهو اقدم العلوم واهمها، وقد ورد عن اهل البيت(ع) انه ثلث القرآن، فكيف لايكون من علم الاخرة ما هذا شانه؟». يعود منشا خطا الغزالي، الذي يدفعه لهذه المشكلة، الى خلطه الفقه الذي يعد حارسا للقلوب بالحقوق العرفية التي تتكفل تنظيم المعيشة المادية، وعد الاثنين واحدا.
يذكر الكاشاني، في سياق رده على الغزالي، ان فقه العامة لايصلح لان يعد من العلم حتى يصار الى تصنيفه وتنميطه،ليقال: انه من علوم الدنيا او الاخرة. ومرد ذلك اختلاطه بالبدع والجهالات والاهواء المخترعة، مما تنضح به عقول البشر،التي اكتسبت جزافا العنوان المقدس المتمثل ب«الفقه»((69)).
تتمثل رسالة الفقه بالمهمة التي ينهض بادائها، وهي بيان «وظيفة العباد» والتكليف الملقى عليهم في مقابل الله سبحانه،خالقهم ومالكهم وصاحب الربوبية التكوينية والتشريعية، لكي يحدد لهم السبيل الى تنظيم افعالهم وسلوكهم بما ينسجم مع اداء وظيفة العبودية. واداء هذه المهمة يستلزم العمل وفاقاللوحي والتجاوب مع متطلباته، وليس الخضوع الى ما تطفح به الاذهان، والانقياد وراء الاستحسانات والمصالح.
يسجل آية الله جوادي آملي، في هذا المضمار: «ياخذ علم الفقه موقعه كاحد العوامل التي تنهض ببيان زاد التقوى، فالفقه في معناه الاصطلاحي المتداول يدخل في الحكمة العملية، التي يتم من خلالها تحديد كيفية ارتباط الانسان بمولاه، كمايتم من خلال علم الفقه ايضا اضاءة طبيعة العلاقة التي تربط الانسان ببني جنسه. فاذا يتحتم على السالك تعلم علم الفقه،والا انزلق الى وادي الجهل والحيرة والضلالة، وسقط في هوة التعصب ونار الاهواء والاماني»((70)).
بهذا، ينبغي للطريقة ان تستند الى الشريعة. وهذا ما يكشف عن خطا الغزالي، فما ذكره ابو حامد باسم علم المكاشفة وطعن على اساسه وفي سبيله بعلم الفقه، لم يكن هو الاخلاق وانما الصوفية والتصوف، على ما نوه اليه الشيخ فكري ياسين في مجلة «الازهر» المصرية ((71)).
يقول الشهيد مرتضى مطهري في هذا المضمار: «واحدة من اخطاء الغزالي الكبيرة، بحسب ابن الجوزي، انه استغل الشرع في عدد كبير من الموارد وجعله لصالح التصوف. لقدافضى التطرف الصوفي عند الغزالي، الى ان ينحرف عن الفقه الاسلامي احيانا، كما في ما ذهب اليه من القول: صدق ابن سيرين (من العلماء المسلمين الفرس في القرن الثاني الهجري) في ما ذهب اليه من انه لا يصح لذلك الرجل استغابة الحجاج (السفاح المشهور بالظلم وسفك الدماء)، لان الحجاج كان مسلما! والسؤال : اذا لم تجز غيبة الحجاج، فغيبة من تجوز في هذه الدنيا((72))؟ ان مشكلة الغزالي نفسه تكمن في عدم عنايته بالفقه، لذلك كان يجنح الى التفريط بالفقه والتضحية به بحسب ابن الجوزي، حتى بلغ من تسامحه وتساهله، في هذا الشان، مبلغا رفضه اهل السنة انفسهم((73)).
فبعض ما ذكره من امور لا يتعارض مع فقه اهل البيت وحده، وانما لا يتوافق مع فقه اهل السنة نفسه.لذلك كله نجد ان ابن الجوزي الناقد المعروف للصوفية عمد، في كتابه «تلبيس ابليس»، الى نقل عدد كبير من حكايات الغزالي في «احياء العلوم»، ثم راح يطرح الاسئلة الاتية بمايرتبط بتلك الحكايات، ويقول: هل يحل سب مسلم بلاسبب؟ وهل يجوز للمسلم ان يستاجر على ذلك؟ وكيف يحل السؤال لمن يقدر ان يكتسب؟ فما ارخص ما باع ابوحامد الغزالي الفقه بالتصوف!».
لذلك كله يخلص الشهيد مرتضى مطهري الى ان كتاب «الاحياء» مملوء بالاحاديث الباطلة، وهو خارج عن قانون الفقه وضوابطه((74)).
أجل، يكمن منشا آراء الغزالي ومعتقداته في توجهه الصوفي.فبعد ان جرب مذاهب الفلاسفة والباطنية مال صوب التصوف، وبمطالعته كتاب «قوت القلوب» لابي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، واطلاعه على آثار الجنيد والشبلي وبايزيد والاخرين، قرب نفسه الى عالم المتصوفة، وبعد عشر سنوات من الخلوة والرياضة ومجاهدة النفس بطريقة الصوفية ومسلكهم، انتهى الى ان «الصوفية هم رادة الخلق نحو الله، والى ان سيرتهم احسن سيرة، وطريقهم اصح الطرق، واخلاقهم اطهر الاخلاق واسماها، وان كل حركاتهم وسكناتهم وظاهرهم وباطنهم مقتبس من نور سراج النبوة»((75)).
الغريب ان بعض السطحيين ممن يعد نفسه من اهل النظر، في هذا المضمار، يذهب الى ان هذا الامر ناشى من تضلع الغزالي في الفقه، وليس من قلة بضاعته وقصر باعه فيه((76)).

والسؤال : اي متضلع بالفقه هذا الذي يصدرامثال هذه الفتاوى، بحيث لا يحظ ى بموافقة حتى بني مذهبه من اهل السنة؟ الحقيقة ان نظر اهل السنة فيه لم يقتصر على تخطئته علميا، وانما تخطى ذلك الى نعته بانه قد «باع الفقه».والا من قال: ان الفقه يصحح الحج النفعي والصلاة التي لاروح فيها والصوم مع مل ء البطن من حرام، وان يكون الانسان ذواقا للنساء ومطلاقا، والتهرب من اداء الواجبات بالحيل الفقهية؟ ومن قال: ان الفقهاء يرتضون هذا النهج((77))؟ اجل، ثم وراء هذا الكلام دوافع اخرى وعقد تسعى الى ان تهيى الارضية للاعلان عن عجز الفقه، ومن ثم تمهيد الاجواء لاستبدال الادارة الفقهية باطروحة الادارة العلمية((78)).
ينهض الفقه بتحديد موارد الطاعة وموارد المعصية، وهذاالضرب من المعرفة ضروري لامتثال الواجبات والعمل بهاواجتناب المحرمات وتركها، الذي يعد بدوره شرطا لصفاء القلب، الذي يتحول بدوره الى شرط للتقرب الى الله وفتح ابواب الملكوت. لذلك ينبغي للفقه ان ياخذ موقعه في عدادالعلوم الاخروية، وان يكون من المقدمات الواجبة للسلوك والتخلق باخلاق الله، والا فهل يستقيم امر الطريقة ويكون ممكنا من دون الشريعة؟ ان الفقه هو المدخل الى الملكوت،وهو السلم الذي يرتقى به الى سطح المكاشفة، ومن دون الفقه والشريعة يبقى عمل السالك ناقصا متعثرا. وبتعبير آية اللهجوادي آملي: «هذه الدرجات (المعنوية) لا تحصل الابواسطة الفقه، وان كان الفقه لا يكفي وحده لبلوغ تلك الدرجات»((79)).
بحفظ اداءات الفقه والاخلاق والنطاق العملي لكل واحد منهما، ينبغي ان تكون الاخلاق مستندة الى الفقه، والفقه لايمثل بدوره الطريق كله، بل هو البداية وحسب. بديهي ينبغي لعملية السير والسلوك ان تقترن بالفقه، وتتحرك في نطاق ضوابطه حتى نهاية المسار وآخر الشوط. وحصيلة ذلك ان يكون الاخلاق والفقه متكاملين، يكمل احدهما الاخر. وفي هذه النقطة اساسا، يكمن الفرق بين الفقه والحقوق، حيث يتاثر الفقه بالاخلاق، اما القوانين الموضوعة والحقوق المدونة فهي لا تفكر الا بتحقيق المنفعة المتمثلة بالسعي الى حفظ النظام واستقرار المجتمع، وان انتهى ذلك احيانا الى هدربعض المبادى الدينية والاخلاقية((80)).
في الحصيلة الاخيرة، لا نعرف كيف يكون الفقه من علوم الدنيا؟ وكيف يكون الفقهاء من علماء الدنيا؟ ونحن نجد ان الفقه، من اية زاوية تمت الاطلالة عليه وتناوله، هو من العلوم الدينية والاخروية. فموضوعه هو «فعل المكلف»، والغاية منه «بلوغ سعادة الاخرة»، ومصدره «الكتاب والسنة» وهذه جميعاامور دينية وتقع في نطاق الغرض الديني((81)).

ب – الارتباط الوثيق بين الفقه والاخلاق
يبدو ان المنهج الصحيح، في المقارنة بين الفقه والاخلاق ، يتمثل في دراسة العناصر المشتركة بين الاثنين ونقاط التمايز بينهما، على اساس موضوع كل واحد منهما، والغايات التي يتوخاها، والمنابع والمصادر التي يستند اليها، ومنهجه الخاص في البحث، واداءاته ومجالات عمله وطبيعة مكوناته ومسائله.
انطلاقا من هذا المنهج في الدراسة، نعرض في ما ياتي الى رؤية اجمالية في طبيعة العلاقة الوثيقة بين الفقه والاخلاق، تنتظمها العناوين الاتية:

1 – موضوع علم الفقه والاخلاق
بالرغم من ان علم الفقه يتناول بالبحث مواضيع مختلفة، الا ان العنصر المشترك ومحور جميع هذه المواضيع الذي يسمح باندراجها تحت عنوان علم الفقه، يتمثل ب «فعل المكلف». فالفقه يتناول المسائل المختلفة التي يدرسها في مختلف الابواب من زاوية واحدة فقط، تتمثل بما وضعته الشريعة الاسلامية من مقررات واحكام لبني الانسان في جميع تلك المواضيع، وبما تحمله من موقف شرعي من طبيعة هذه الافعال، وما اذا كانت حسنة ام سيئة وصحيحة ام خاطئة.
وهذه الاحكام هي مما يمكن استنباطه من الكتاب والسنة اوالاجماع. فالفقيه لا يعبا بالاختلافات الماهوية الكائنة في تلك المواضيع، بحيث يكون بعضها عباديا او اقتصاديا او قضائيا وماالى ذلك، وانما يتعامل معها جميعا بصيغة واحدة، هي صيغة «فعل المكلف»((82)).

بعبارة اخرى : ان مبدا مولوية الله سبحانه وضرورة اقدامنالامتثال التكاليف ووظائف العبودية، هو اصل موضوعي يسري في جميع اجزاء الفقه وجوانبه، ومن ثم فان ما يشغل الفقيه هوسبيل الخروج من عهدة تلك التكاليف((83)).
لهذا السبب اذا عجز الفقيه عن ان يكشف عن «التكليف» من خلال الادلة اللفظية، تراه يلجا مضطرا الى الاصول العملية ويلوذ بها.
عندما ننتقل الى الاخلاق، نجد ان المحور في هذا العلم، هوالسلوك الانساني اللائق، ايضا، فالاخلاق تبحث هي الاخرى في الكيفية التي ينبغي ان يكون عليها الانسان من جهة كونه انسانا، وفي طبيعة الحياة التي ينبغي ان يحياها. وبهذا يتضح ان الافعال الاختيارية للانسان هي موضوع علمي الفقه والاخلاق،وانهما ينتميان معا الى الحكمة العملية (بديهي مع تامل في هذه النقطة). بيد ان الحيثيات التي تنتظم كل واحد منهماتختلف عن حيثيات الاخر، وعلى هذا الاساس جاء منهج البحث في كل واحد منهما ونوع المسائل التي يتناولها مختلفاالى حد ما عن الاخر.
فالبحث في السلوك الاختياري للانسان انما يتم في الفقه، من زاوية ان الانسان عبد الله وان عليه تكاليف بازاء مولاه يتحتم عليه امتثالها. لذا فان حد البحث في الفقه، هو حد التكليف من جانب المولى والامتثال من ناحية العبد.
في السياق نفسه، لما كان هناك ضرب من التوافق الواسع والتطابق الجدي بين الفقه والحقوق، فان الصيغة الحقوقية للفقه تقضي بان نحمل الاوامر على انها وصايا اخلاقية بدلا من ان نصدر فيها فتوى، وذلك عندما نعجز عن ان نكشف من الدليل التكليف والالزام المولوي.
وتوضيح ذلك، اننا ما دمنا بحاجة الى ان نعرف طبيعة الحياة المجللة بالقيم السامية، وان نبلغ السعادة والكمال، وما دامت هذه الغاية لا تتحقق الا في اطار افعالنا وسلوكنا في الحياة، فان علم الاخلاق هو الذي يبحث في طبيعة الافعال اللائقة في حياة الانسان، الباعثة لتحقيق كماله وسعادته. لذلك كله تكتسب النية ودافع الفاعل وبواعثه لفعله فاعلية اكبر وتتفوق على غيرها في مضمارالاخلاق، لان الفاعل الانساني لا يرى نفسه بازاء تكليف ما او اجبار.
اما في الفقه فان التركيز الاكبر يتجه الى اعمال الجوارح،وذلك في مقابل الاخلاق التي تركز على «الكيفية» وتحتل فيها العناية بالصفات النفسية والخصال المثالية خصوصية تفوق حد التكليف، كما هي الحال في الايثار وامثاله. على ان هذاالتمايز، هو مما يتضح من خلال نظرة عامة الى عناوين المسائل الفقهية والاخلاقية.
مع التسليم بضرورة تقسم العلوم لاسباب مختلفة، وان هذاالتقسيم يتم على اساس معايير عديدة منها الاسلوب ومنهجية البحث، والهدف والغاية او الموضوع، وان تقسيم العلوم وتصنيفها على اساس الموضوع هو افضل من تمييزها على اساس المعايير الاخرى((84))، بملاحظة ذلك كله يتضح التمايز الكائن بين علم الفقه وعلم الاخلاق. وما دام هناك اشتراك في الموضوع بين الاثنين في المرتبة العليا (على مستوى الافعال الاختيارية للانسان) وصلة وثيقة تربط احدهمابالاخر، فان هناك عناصر مشتركة كثيرة تجمع بينهما.

2 – منهجية البحث الفقهي والاخلاقي
البعد الذي يتركز عليه البحث في الفقه، يقتضي ان تتمركزاهتمامات الفقيه جميعها على عنصري «الامتثال» و«الاجزاء».فمع ان الفقيه يولي عناية بالاداب والمستحبات، الا ان اهتمامه الاساسي ينصرف الى الكيفية التي ينبغي ان نتصرف بها،وكيف ينبغي ان ننجز اعمالنا حتى نخرج من عهدة التكليف.من هذه الزاوية اذا لم تتم للفقيه الحجة فلن يبادر الى اصدارالفتوى، ولو كان الفعل حسنا وممتازا.
في نطاق بحثه عن «مشاركة المراة في المجتمع»، يدرس الشهيد مطهري الايات والروايات ذات الصلة، وفي هذه الاثناء يمر برواية عن النبي(ص)، لها دلالة على توقي النساءالاختلاط مع الرجال. وبهذه المناسبة يفتي الفقهاء بكراهة اختلاط الرجال والنساء. وعندئذ يضيف الشهيد مطهري: «ثم عدد آخر من الروايات يمكن عدها بمنزلة الوصايا الاخلاقية للرجال ازاء النساء، تحذر من مخاطر الاختلاط وتبعاته. لهذاحمل صاحب موسوعة الوسائل هذه الروايات، على الاستحباب». من بين الروايات التي يذكرها وصية الامام علي(ع)، الى ولده الامام الحسن المجتبى(ع)، بقوله:«واكفف عليهن من ابصارهن بحجابك اياهن، فان شدة الحجاب ابقى عليهن، وليس خروجهن باشد من ادخالك عليهن من لا يوثق به عليهن، وان استطعت ان لا يعرفن غيرك فافعل»((85)).
يعقب الشهيد مطهري على النص، بقوله : «هذه وصية اخلاقة»،فقد تعامل علماء الاسلام مع هذا النص بمنزلة كونه وصية اخلاقية وحسب. اما لو تركنا والنص، فلكان من المؤكد ان مايستنبط منه يتجاوز «الوصية الاخلاقية»، بل لتجاوز ايضا وجوب ستر الوجه والكفين. ما يستنبط من النص هو ما نطلق عليه حاضرا حبس المراة في البيت. ولكن السبب الذي منع الفقهاء من اصدار مثل هذه الفتوى، يتمثل بالادلة القطعية الاخرى من آيات وروايات وسيرة المعصومين(ع)، ودلالتها على خلاف ظاهر هذا النص، وبذلك صار هذا الظاهر هو من بين «المعرض عنه» عند الاصحاب. وبهذا حملوا النص على انه وصية اخلاقية، لتكون له قيمة اخلاقية دون القيمة الفقهية.
ما استنبطه الفقهاء، من امثال هذه النصوص، هو انها ترشد الى حقيقة روحية ونفسية في العلاقة بين الجنسين، ومن ثم فهي تبين حقيقة من دون ريب. فالعلاقة بين المراة والرجل الاجنبي هي علاقة خطيرة جدا، وهي بمنزلة المنزلق الكبير الذي قد يتورط به حتى الكبار، وبالتالي فان ما يوصي به الاسلام، ولو على نحو الامر الاخلاقي، هو ان يكون المجتمع المدني مجتمعا غير مختلط ما امكن ذلك.
في السياق نفسه، يشير الشهيد مطهري الى نص روائي آخرعن فاطمة الزهراء(س)، في جواب سؤال النبي(ص): «اي شيء خير للمراة؟» اذ قالت: «ان لا ترى رجلا ولا يراها رجل»((86))، ويعقب عليه بقوله: «هذا الحديث هو وصية اخلاقية ايضا، يبين ارجحية عدم اختلاط المراة والرجل.فالارجحية الاخلاقية للستر، وللانفصال بين المراة والرجل وعدم اختلاطهما، ووجود الحريم الذي يفصل بينهما حد الامكان، هي امور ثابتة في مجالها»((87)).
هذا بالنسبة الى الفقه ودائرة عمل الفقيه واهتماماته.
اما ما يركز عليه العالم الاخلاقي ويكون له هاجسا، فهو صفاءالنفس وتطهير الباطن. وهذه الغاية وان كان لا يمكن بلوغها الاعن طريق الشريعة، الا ان مدار اهتمام الاخلاقي ليس البحث في «الحجية» واثبات «التكليف»، وانما يسعى وراء تحقق «الكمال النفسي».
ولذلك لا يدقق الاخلاقي بسند الاحاديث بالطريقة نفسها التي ينهجها الفقهاء، ومن ثم يستفيد من الاحاديث الضعيفة ايضا في الوصايا الاخلاقية ((88)).

وهذا ما يفسر الطيف الواسع الذي تمتد فيه الاداب والوظائف الاخلاقية والمستحبات، في مجال البحوث الاخلاقية. ومن الواضح ان «التكليف» يتحرك في الدائرة التي توفي حدالنصاب وحسب، ولا يتحرى الحد الاعلى، ولكن ما دام الانسان ينشد الكمال ويطلبه، فهو لا يكتفي بحد النصاب ولايرضى به، بل ياخذ منه جسرا لبلوغ الغاية. بديهي ان هذا لايعني ان الفقه يقف في حدود هذه الدائرة، فمع عناية الفقه بتحقق حد النصاب وتوفره على بيان العبادات او المعاملات الصحيحة المجزئة التي تتوافق مع الشروط الظاهرية، تراه يشير ايضا الى المرتبة العليا على صعيد العبادات والمعاملات ويومى الى السلوك الاحسن في هذين المضمارين، فالاحكام التي يتداولها الفقه لا تقتصر على الوجوب والحرمة وحسب، بل تتعداهما الى بيان المستحبات والمكروهات. ومع ذلك كله يبقى الهاجس الاساسي الذي يهيمن على اهتمام الفقيه، هوالبحث عن التكليف، بما يتناسب مع الموضوع.

يتبع ..

Loading