الفقه والاخلاق ( 4 )
الفقه والاخلاق ( 4 )
أ. ابراهيم الحسى
3 – وجود الملاكات الاخلاقية في الاحكام الفقهية
أ – ملاك النظافة : تحتل احكام الطهارة والنظافة موقعا بنيويافي الاسلام: «بني الاسلام على النظافة»((89)). بالاضافة الى ذلك، تستند الاحكام الفقهية الى مبادى ومرتكزات اخلاقية، وهذه المسالة تشمل، علاوة على احكام المياه واحكام التخلي واستحباب التسوك، احكام الاطعمة والاشربة وما الى ذلك، مما له آثار مهمة في تربية النفس.
ب – ملاك المصلحة ودفع المفسدة : تاخذ المصالح والمفاسد الفردية والاجتماعية موقعها، في دائرة ما ينبغي وما لاينبغي فعله اخلاقيا. بهذا قام مسلك الامامية (العدلية) على استناد الاحكام الفقهية على المصالح والمفاسد ايضا، بحيث اضحى نوع الحكم (فعلا او تركا)، وكذلك الالزام فيه (من وجوب او رجحان او اباحة) منوطا بوجود المصلحة والمفسدة وعدمهما. الى هذا المعنى ذهب وهبة الزحيلي في ما ذكره، من ان الفقه يستند الى رعاية مجموعة من الفضائل والقيم الرفيعة والاخلاق السامية. فتشريع العبادات مثلا يراد منه نقاء النفس وتزكيتها وابعادها عن القبائح. وحرمة الربا انما شرعت بباعث اشاعة روح التعاون والمحبة بين الناس. كما جاء تحريم الغش والخداع في المعاملة، لمنع اكل مال الاخرين بالباطل، كماجاءت الاحكام المماثلة على هذا الصعيد لبث المحبة بين الناس وتوثيق عرى المودة والثقة والحؤول دون حصول الاختلاف بينهم((90)).
تنتهي الحصيلة الاخيرة على صعيد هذه النقطة، الى ان الاتجاه العام للشريعة الاسلامية وخط الممارسة الفقهية، يتحرك من خلال الاهتمام بالفضائل بوصفها المبنى الذي ترتكز اليه هذه الممارسة في تشريع القوانين، واستنادا الى كونها هي الملاك والمحور. على هذا تجد ان حركة الفقه من كتاب «الطهارة» حتى كتاب «الديات»، تمارس سيرها بصيغة تسعى الى ايجادالفضائل وانبعاث القيم الكريمة في جميع العلاقات الفردية والاجتماعية. فالصيام مثلا ليس هو صرف النفس وكفها عن تناول الاطعمة والاشربة، بل يهدف ايضا الى ايجاد الارضية للانفاق والايثار وذكر القيامة والاخرة. ووجوب الخمس والزكاة، هما لازالة خصال البخل والأثرة والانانية والفردية،وما الى ذلك مما يدخل البحث فيه بدائرة «علل الشرائع».
4 – النية والدافع بين الفقه والاخلاق
للوهلة الاولى تقسم المسائل الفقهية الى العبادات والمعاملات(بالمعنى الاعم)، والنية وقصد القربة في العبادات لا تعد شرطاضروريا، وانما هي شرط الكمال، في حين ان قوام الافعال الاخلاقية بالنية: «انما الاعمال بالنيات». وبتعبير الفيض الكاشاني عن النية في العبادات: «النية في الحقيقة ما يبعث المكلف على الفعل ويحمله على الاتيان به… وذلك امر لايخلو منه فاعل ذو شعور يصدر عنه فعل، فلا يصح ان يتعلق به التكليف لخروجه عن الاختيار… وانما يتعلق التكليف بعوارضها [العبادات] وخصوصياتها من الاخلاص والرياء ونحوهما مما يبحث عنه في علم الاخلاق، وهو من وظيفة علماء الاخرة واطباء القلوب، وليس من وظيفة الفقيه من حيث هو فقيه، وان تعرض له الفقيه كان خارجا عن فنه»((91)).
فللنية في الاخلاق اذا سلسلة مراتب، وهذه المراتب هي التي تخضع لدائرة بحث العالم الاخلاقي. اما في الفقه فان ما يركزعليه الفقيه، هو وجود قصد القربة وعدمه.
بالاضافة الى استناد المعاملات الفقهية على النظام العام، فهي ترتكز على الاخلاق الحسنة ايضا. كما يلحظ ان استحباب النية الصالحة وقصد القربة في المعاملات وكراهة النية غيرالصالحة، ومسالة التجري والانقياد، وكذلك المراتب الطولية للنية، ولحاظ درجات الالزام بما يتناسب مع المصالح والمفاسد، ورعاية التكوينات الروحية المختلفة للافراد،تتحول باجمعها الى باعث للاشتراك بين مجالي الاخلاق والفقه.ينبغي ان يلحظ، ايضا، ان احد اداءات الفقه ومجالاته الاستعمالية، تنظيم السلوك الاجتماعي بغية حفظ النظام الحياتي للجماعة. لذا اذا ما افترضنا ان الله سبحانه اجاز الحيل الفقهية، فمعنى ذلك انه سبحانه اسقط التكليف عن المكلف في تلك الاجواء التي تحف المسالة، وفي نطاق الشروط التي تحيط بها.
ولذا فالانسان الذي يؤمن بالفقه ويتجه صوب الحيل الفقهية في الوقت نفسه، لن يكون مدينا في القيامة ايضا، لانه «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام» وهذا ضرب من التعبد، وان كانت فلسفة الاحكام الفقهية وروحها تكمن بالتوجه الكامل الى الله وقصد القربة اليه.
5 – الضمانة التنفيذية للقواعد الاخلاقية والفقهية
ليس للاخلاق اساسا ضمانة تنفيذية غير الايمان، الذي يعدامرا ذاتيا وشانا شخصيا. اما الاحكام الفقهية، فعلاوة على ماتملكه من ضمانة تنفيذية داخلية او ذاتية، فهي تستند في تنفيذها احيانا الى ضمان من الدولة والى سلطة من الخارج ايضا. على ان بعض التعاليم الاخلاقية كوجوب اداء الامانة مثلا، تحظى هي الاخرى احيانا بسند لها من الدولة، لكن هذا الدعم لا يمنح لها بوصفها مسالة اخلاقية، بل لان هذه المسالة الاخلاقية هي جزء من المقررات الحقيقية للمجتمع.
6 – منابع المقررات الفقهية والاخلاقية
منابع الفقه والاخلاق مشتركة بينهما، فالمسالة الاساسية في الفقه انه ليس لاي انسان ولاية على آخر، ولذا فان الحق في جعل الحكم ووضع القانون لا يكون لاحد قط سوى الله،مالكنا الحقيقي التكويني، ومن ثم فهو صاحب الولاية التشريعية علينا. لذا فان ما في القرآن والسنة وحكم العقل القطعي الذي يعد نبيا من الباطن، يعتبر كاشفا عن الارادة التشريعية الله، والثلاثة الى ذلك هي مصادر الاحكام الفقهية.
في المقررات والاداب الاخلاقية لا يستطيع العقل الانساني ان يشخص الكمال الحقيقي والسعادة الابدية، ولذا ابتنيت الاخلاق على الشريعة والعقيدة((92))، كما في قوله سبحانه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر/10].
وحدة المجال هذه بين الاخلاق والفقه في نطاق الموضوع،وعلى مستوى المصادر، تستلزم تعطي الطرفين بين هذين العلمين الشريفين.
7 – الغاية من الفقه والاخلاق
هدف علم الاخلاق بناء الانسان الكامل، لانه يبحث في حفظ الانسان وحراسته، ويركز على توجيهه في نطاق خاص، لكي تتطهر روحه وتسمو ويتحرر من مستنقع الطبيعة وعلائقها، ويبلغ الملكوت. هذا الهدف هو ما يحرص الفقه على العناية به وتحقيقه ايضا، ولكن انطلاقا من بعد آخر. فالعبادات قدشرعت لكي يقترب الانسان من الله، وهذا لا يتيسر الا بان تكون العبادات توقيفية، وهو ما ينهض به الفقه. كذلك الحال بالنسبة للمعاملات التي شرعت لسلامة الاخلاق وطهارة النفوس. ولهذا حرمت الشريعة الغش في المعاملة والرباوالغصب، ولم تكل الامر الى تشخيص الناس ورايهم((93)).
ببيان آخر، تكمن واحدة من المجهولات بالنسبة للنوع الانساني بطبيعة تحقق السعادة وكيفية ذلك، ولذلك يذهب كل انسان الى ان السعادة تكمن في شيء. واذ نعرف ان تحقق السعادة، هو عبارة عن فعلية بلوغ كل قوى الانسان واستعداداته المادية والمعنوية، فان المسار النهائي للفقه يتمثل في تنظيم العلاقات الانسانية في هذا الاتجاه ووفاقا لهذا المعنى.
يذكر وهبة الزحيلي بهذا الخصوص: عندما نسعى لكي يحل التوافق والانسجام بين الدين والاخلاق على مستوى الهدف، فعندئذ سنرى تحقق صلاح الفرد والمجتمع.وهذه المسالة تمثل الغاية المنشودة من الفقه، وتنتهي بنفع البشرية وخيرها، خيرها في الحاضر والمستقبل، وبلوغهاسعادة الدنيا وسعادة الاخرة.
ثم يشير بعد ذلك الى تاثر الفقه بالاخلاق والدين، ويؤكد: ان تاثير الفقه بالدين والاخلاق يتحول الى باعث لكي يكتسب الفقه فاعلية اكثر، ومن ثم تزداد العناية به والرغبة في اتباعه واطاعته((94)).
النتيجة
ما لا ريب فيه ان للبناء الداخلي للانسان، وتهذيبه نفسه، اثرافائقا في تحقق سعادته الفردية والاجتماعية، والدنيوية والاخروية. لكن هل يستطيع الانسان تربية نفسه وتهذيبها وبلوغ الكمال النفسي من دون معونة الوحي؟ أبدا. ولذلك لايتيسر للانسان التوفر على الفضائل الاخلاقية الا عن طريق العمل بالشريعة الاسلامية وبالفقه، وليس من خلال ما تنسجه الذهنية الصوفية وما الى ذلك.
على هذا الضوء، يتبين مغزى قول رسول الله(ص): «ما عبدالله بشيء افضل من فقه في دين، ولفقيه واحد اشد على الشيطان من الف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه»((95)).
كذلك قول الامام الصادق(ع): «تفقهوا في الدين، فان من لم يتفقه منكم في الدين((96)) فهو اعرابي».وكذلك: «لوددت ان اصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا». لكن ينبغى((97)) الالتفات في الوقت نفسه الى معنى التفقه، وان الامر فيه كما ذهب اليه الشهيد الثاني (زين الدين علي بن احمد الجبعي العاملي، المتوفى سنة 965هـ) بقوله: «ان مجرد تعلم هذه المسائل المدونة ليس هو الفقه عندالله تعالى، وانما الفقه عند الله بادراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة».
هنا يكمن رمز الصلة الوثيقة الجادة بين الفقه والاخلاق، على رغم ما بينهما من تمايز في الموضوع والمنهج، اذ هما يلتقيان في الغاية والمجال، وبينهما مسائل مشتركة كثيرة. فالفقه ضرورة من ضرورات الاخلاق الاسلامية الصحيحة، والاخلاق متممة للفقه مكملة له، ومن ثم فان الالتفات الى هذه الصلة يفتح المغاليق ويحل المشكلات في كثير من الامور.
المصدر : مجلة المنهاج العدد (31)