في خلقه وخلقه وسيرته مع جلسائه

في خلقه وخلقه وسيرته مع جلسائه

برواية الحسن والحسين عليهما السلام من كتاب محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني عن ثقاته، عن الحسن بن علي (عليه السلام) قال: سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي (1) وكان وصافا عن حلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخما مفخما يتلالا وجهه تلالؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب (2)، عظيم الهامة، رجل الشعر (3)، إذا انفرقت عقيصته قرن (4) وإلا فلا يجاوز شعره شحمه أذنيه إذا هو وفرة، أزهر اللون واسع الجبين، أزج الحواجب (5) سوابع في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب

ـــــــــــــــ

(1) هو أخو فاطمة عليها السلام من قبل أمه، وكان رجلا فصيحا، قتل مع علي (عليه السلام) يوم الجمل.

(2) المشذب كمعظم: الطويل

(3) أي ليس كثير الجعودة ولا شديد السبوطة، بين الجعودة والاسترسال.

(4) العقيصة: الفتيلة من الشعر وفي الشعر كثرته.

(5) ” وفرة ” كدفعة. و ” أزج الحواجب ” أي الدقيق الطويل. السوابع: الاتصال بين الحاجبين.

[ 11 ]

أقنى العرنين (1)، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم (2)، كث اللحية (3)، سهل الخدين، أدعج، ضليع الفم (4)، أشنب مفلج الاسنان (5)، دقيق المسربة كأن عنقه جيد دمية (6) في صفاء الفضة، معتدل الخلق بادنا متماسكا، سواء البطن والصدر عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس (7)، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط (8)، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين، أعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سبط القصب، شثن الكفين والقدمين (9)، سائل الاطراف، خمصان الاخمصين (10)، مسيح القدمين (11) ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، يخطو تكفئا ويمشي هونا، سريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب وإذا التفت إلتفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الارض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه ويبدر من لقي بالسلام.

قال: قلت له: صف لي منطقه ؟

قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متواصل الاحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة،

ـــــــــــــــ

(1) العرنين: الانف. أقنى العرنين أي محدب الانف.

(2) الشمم: ارتفاع في قصبة الانف مع استواء أعلاه.

(3) يعني كثيف الشعر في لحيته. رجل سهل الوجه: قليل لحمه.

(4) الدعج: سواد العين. وضليع الفم واسعه وعظيمه.

(5) شنب الرجل فهو أشنب: كان أبيض الاسنان، والمفلجة من الاسنان: المنفرجة.

(6) المسربة: الشعر وسط الصدر إلى البطن. والدمية بالضم: الصورة المزينة فيها حمرة كالدم.

(7) الكردس: الوثاق المفصل.

(8) اللبة: موضع القلادة من الصدر.

(9) ” رحب الراحة “: وسيع الكف كناية عن الرجل الكثير العطاء. القصب: كل عظم ذي مخ أي ممتد القصب. وشثن الاصابع غليظها.

(10) لم يصب باطن قدمه الارض.

(11) مقدم قدمه ومؤخره مساو.

[ 12 ]

ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه (1) ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا لا فضولا ولا قصيرا فيه، دمثا (2) ليس بالجافي ولا بالمهين يعظم النعمة وإن دقت ولا يذم منها شيئا، ولا يذم ذواقا ولا يمدحه ولا تغضبه الدنيا وما كان لها إذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شئ حتى ينتصر له ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها وإذا تعجب قلبها وإذا تحدث أشار بها، فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح (3)، وإذا فرح غض من طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام (4).

قال الحسن (عليه السلام): فكتمتها الحسين زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه، فسألته عمن سألته فوجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله فلم يدع منها شيئا.

قال الحسين بن علي: سألت أبي عن دخول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك وكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء، جزءا لله عزوجل، وجزءا لاهله، وجزءا لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة والخاصة ولا يدخر ـ أو قال لا يدخر ـ عنهم شيئا.

فكان من سيرته في جزء الامة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم وأصلح الامة من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ويقول ليبلغ الشاهد الغائب وأبلغوني في حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون زوارا، ولا يفرقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة فقهاء.

قال فسألته من مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟

ـــــــــــــــ

(1) الاشداق: جوانب الفم، والمراد أنه لا يفتح فاه كله، وفي بعض النسخ (بابتدائه).

(2) الدماثة: سهولة الخلق.

(3) أشاح: أظهر الغيرة، والشائح: الغيور.

(4) الغمام: السحاب، والمراد أنه تبسم ويكثر حتى تبدو أسنانه من غير قهقهة.

[ 13 ]

قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلفهم ولا يفرقهم ـ اوقال ولا ينفرهم ـ ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس الفتن، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس فيحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الاسر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.

قال: فسألته عن مجلسه ؟

فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله جل اسمه، ولا يوطن الاماكن وينهي عن إيطانها (1) وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، يعطي كلا من جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فكان لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الاصوات ولا يوهن فيه الحرم ولا تنثى فلتاته (2)، متعادلون متفاضلون فيه بالتقوى، متواضعون، يوقرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون ـ أو قال يحوطون الغريب.

قال: قلت: كيف كانت سيرته مع جلسائه ؟

قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب (3) ولا فحاش، ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، فلا يؤيس منه ولا يخيب فيه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والاكثار ومما

ـــــــــــــــ

(1) يعني لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به.

(2) نثوته نثوا من باب قتل: أظهرته. والفلتات: الهفوات أو الامر فجأة.

(3) الصخاب من الصخب وهو شدة الصوت.

[ 14 ]

لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا. ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوليهم، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه ويصير للغريب على الجفوة في منطقة ومسألته، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم (1)، ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه (2)، ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.

قال: قلت: كيف كان سكوته ؟ قال: كان سكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أربعة: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر، فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شئ ولا يستنفره، وجمع له الحذر في أربعة: أخذه بالحسن ليقتدي به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده فيما أصلح امته، والقيام فيما جمع لهم خير الدنيا والاخرة.

المصدر
www.najaf.org

Loading