مراتب الطهارة

مراتب الطهارة

كما أن للصلاة ظاهراً وباطناً، كذلك للطهارات “الوضوء، التيمم، الغسل”، وكما أنه لايكفي ظاهر الصلاة للقرب من الله تعالى، كذلك لا تكفي الطهارة الظاهرية، وللطهارة مراتب:

المرتبة الأولى: تطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث.

المرتبة الثانية: تطهير الجوارح من المعاصي، وما دام الإنسان مبتلى بالمعاصي فلا يمكن أن يقترب إلى الله تعالى، ويترقّى إلى المراتب الاخرى من مراتب الطهارة.

لذلك يقول تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(المطففين:14) والمعاصي تطهّر بماء التوبة النصوح.

وهنا عقبة خطيرة حيث يدخل الشيطان وتزييناته والنفس وهواها لكي يأمّلا الإنسان بالتوبة الى آخر العمر، مع أن التوبة في آخر العمر وعند تراكم ظلمات المعاصي أمر صعب.

وهنا عقبة أخرى أيضاً حيث يمنِّي الإنسان نفسه بشفاعة الشافعين عليهم السلام في حين أنه لم يعرف حقيقة الشفاعة.

ألا تعرف أنه قد لا تشملك شفاعتهم لأن الانغمار في المعاصي يجعل القلب بالتدريج مظلماً ومنكوساً وربما يصل الإنسان إلى الكفر، والكافر لا شفاعة له.

ثم ألا تعلم أنه إذا كانت أثقال الذنوب كثيرة يمكن ألا يشفع الشافعون لك في البرزخ والقبر، ويمكن أن لا تصل شفاعتهم في يوم القيامة إلا بعد مدّة طويلة، كما ورد في بعض الأحاديث.

وهنا عقبة أخرى كذلك، حيث يعد الشيطان والنفس الإنسان بالرحمة الواسعة لأرحم الراحمين، فيتهاون وينزلق في المعاصي، في حين أن الله رحيم في موضع الرحمة وشديد العقاب في موضع الشدّة، فليس صحيحاً أن ترجو رحمة الله فحسب دون أن تخافه وتخشى عقابه.

المرتبة الثالثة: تخلية الباطن من أرجاس الأخلاق الفاسدة، وهذه المرتبة والمرتبة الثانية مترابطتان، فتطهير إحداهما يساعد على تطهير الأخرى، فهما متوقفتان على بعضهما البعض.

المرتبة الرابعة: تطهير القلب، وبصلاحه يصلح الإنسان وبفساده يفسد، وقذارة القلب ونجاسته عبارة عن تعلّقه بغير الله تعالى وتوجهه إلى نفسه وإلى العالم، ومنشأ هذه القذارة حب الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة وحبّ النفس الذي هو أمّ الأمراض.

وهناك مراتب أخرى للطهارة ومقامات خارجة عن بيان القلم، ولا ينبغي انكاره، فإن أعظم النجاسات المعنوية انكار مقامات أهل الله، وما دام الإنسان ملوّثا بهذه القذارة (إي إنكار مقامات العارفين) لا يتقدّم في طريقه إلى الله تعالى.

فلذا عليك ألا تقنع بالحدّ الذي أنت فيه، فإن الوقوف على الحدود والقناعة في المعارف من العقبات المانعة من التقدّم.

واعلم أنك لن ترى المراتب العالية دون تخطي المراتب الأدنى.

الآداب القلبية حين التوجّه إلى الماء او التراب للطهارة
ينبغي للسالك إلى الله أن يراعي آداباً عديدة عند التوجه إلى الماء أو التراب:

1- إذا أردت الطهارة والوضوء فتقدّم إلى الماء تقدمك إلى رحمة الله تعالى، وكما أن رحمة الله تطهر ذنوب العباد كذلك النجاسات الظاهرة يطهرها الماء.

ولتعلم أن الماء هو أحد المظاهر العظيمة لرحمة الحق حيث جعله الله سبباً لحياة الموجودات، وحيث أن ظهور الرحمة الواسعة الإلهية في الماء أكثر من سائر الموجودات جعله لتطهير النجاسات الظاهرية.

2- تفكّر في صفاء الماء ورقته وطهره وبركته واجعل تعاملك مع الله تعالى خالصاً صافياً من جميع الشرك، وكما أن الماء في وقت نزوله من السماء طاهر كذلك قلبك في بداية خلقه كان صافيا لولا تصرف الشيطان والأهواء فيه، فلا تلوّثه بالشرك وبالمعاصي.

3- عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالأشياء يؤدي كل شيء حقه ولا يتغيّر عن معناه معتبراً بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مثل المؤمن المخلص كمثل الماء”.

فعليك أن تبقى على صفائك وفطرتك وإن اضطررت لمعاشرة الناس، ولا تتأثر بعاداتهم السيئة.

4- وما دامت الاستفادة من الماء ميسورة، فلا بد أن يقوم بالطهارة المائية وإذا قصرت يده عن الماء، فليتوجه بذلّه ومسكنته وفقره وفاقته، وليخرج من التعزز والغرور وحب النفس ينفتح له باب آخر من الرحمة التي كان يمثلها الماء، ويصير التراب أحد الطهورين ويصير مورداً لترحم الحق تعالى ولطفه، وكلما قوي في الإنسان هذا النظر إلى ذلّة نفسه يكون موردا للرحمة أكثر.

فليخرج الإنسان من حالة الاعتماد على نفسه وليعلم أنه مضطر عاجز، وليلجىء إلى خالقه وليكون حاله: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ…﴾(النمل:62).

إذا لم يتمكن المصلي من الماء لتطهيره فقد جعل الله سبحانه التراب أحد الطهورين؛ لأن التراب أول الأشياء على وجه الأرض يطؤه الناس بأقدامهم فلا بد للعبد أن يتصف بصفته في جناب الحق فيمسح جبينه ويسمه بسمة الذّلة والافتقار والعبودية ويرمز بهذا أيضاً إلى أن ناحية الخلق بيد قدرته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، كما قال سبحانه: ﴿ما ّ مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾(هود:56).

فلعلّه بإظهاره الخضوع والمسكنة يجلب رحمة الله… ثم يمسح يديه بالتراب، وهما مظهر قدرته فيذلّله في حضرة القادر المطلق ويقف بعد ذلك في صف الحاضرين في المحضر.

آداب الوضوء القلبية
ينبغي على السالك إلى الله تعالى أن يراعي آداب الوضوء كما قال الصادق عليه السلام: “وآت بآدابها في فرائضه وسننه”.

الآدب الأول: أن يتوجّه إلى القبلة ومركز العبادة ونقطة التوحيد، وقد أشير إلى هذا الأدب في الرواية: “وإن توضأ حيال القبلة كان له ثواب صلاة ركعتين “.

الثاني: ينبغي أن يكون وقوفه الوقوف في مقام الحمد حيث أذن له ربّ العزة والسلطان بالحضور وهو الآن في مقام تحصيل مقدمات التشرف لينال هذا الشرف.

الثالث: إذا أخذ غرفة من الماء ليتوضأ فليتفطّن أنه كما يغسل بالماء الظاهر الذي هو سبب الحياة لكل حي ظاهره، كذلك ليغسل باطنه بالعلم وهو الموجب لحياة القلوب والأرواح فينوّر به قلبه وروحه.

ليغسل يديه من العيوب ومن حوله وقوته، وليعلم أنه لا حول له ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.

كما ويرمز غسل اليد إلى غسل يده عما نهى عنه الشارع وبالخصوص المنهيّات التي تتحقق باليد كالسرقة والتعدّي والغصب وأمثالها.

ويعني صب الماء باليمنى على اليسرى أنه لا بد له من بسط اليد في البذل والاعطاء والايثار في سبيل رضا الله تعالى، ولا يمسك يده.

قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ…﴾(آل عمران: 92).

الرابع: إذا تمضمض فليقل “اللهم لقنّي حجتّي يوم ألقاك وأطلق لساني بذكرك “ومعنى تلك المضمضة التي يطهر بها فمه من فضول الطعام أنه يطهر فمه ولسانه من الذكر القبيح ومن فضول الكلام “وفضول الكلام يميت القلب”.

ومما يجري على لسانه ويخرج من فمه ممّا يمقته الله ويدخله النار كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: “وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم “.

فليزّين لسانه بذكر الله وتلاوة القرآن.

الخامس: ثم يستنشق، وحقيقته اخراج الكبد والتعالي من دماغه كما يخرج بالاستنشاق فضولات الدماغ من طريق أنفه وينقي مجراه ويستعد لشم الروائح العطرة المعنوية، ويقول بلسانه رمزا لذلك المعنى: “اللهم لا تحرمني ريح الجنّة واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيّبها”.

السادس: ثم يغسل وجهه ويتوجه إلى أن ذلك يرمز إلى بياض الوجه وتحصيل ماء الوجه عند الله سبحانه فيتذكر قصوره وتقصيره وخجلته وسواد وجهه ويستجير بالله من أن يلقى الله سبحانه بهذه الحالة، كما يحكيها الله سبحانه: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ…﴾(الزمر:60).

وقال تعالى: ﴿َوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَة﴾(عبس:40-41).

وليستحي من الله تعالى لما رآه حيث نهاه ولما توجّه إلى غير مولاه، وقد ورد في الحديث أنه يقول عند غسل وجهه “اللهم بيّض وجهي يوم تسود الوجوه ولا تسوّد وجهي يوم تبيض الوجوه”.

السابع: ليتذكر عندما يغسل اليدين أن باطنه غسل الأيدي من مرافق رؤية الأسباب، وأيضا هو غسل اليد عن الخلق وتفويض الامر إلى الله والاستعداد للتمسك بذيل المحبوب (الله تعالى) وقرع بابه كما قال الإمام علي عليه السلام: “لكل باب رغبة إلى الله منهم يد قارعة “في وصفه لأهل الذكر وعباد الله.

وليتذكر أيضاً موقف القيامة وتطاير الكتب وأحوال الناس في ذاك الوقت كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ِ… وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ…﴾(الحاقة:19-25).

ويقول عند غسله اليمنى: “اللهم أعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان بيساري وحاسبني حساباً يسيراً “.

ويقول عند غسله اليسرى: “اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي وأعوذ بك من مقطعات النيران”.

الثامن: ليمسح رأسه من الخضوع لغير الله ومن الكبرياء العارضة له إذ عدّ نفسه شيئاً، وليقل: “الله غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك ومغفرتك”.

التاسع: ويمسح رجليه من المشيء إلى دار الغربة وأرض المذلّة (الدنيا)، ويطهرها أيضاً عن المشي بالكبر، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا﴾(الاسراء:37).

ويمشي بقدم العبودية والهوان ليصدق عبوديته للرب الرحمن.

قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾(الفرقان:63).

وعليه التصميم على الثبات في طريق الجهاد وميدان الجهاد الأصغر والأكبر والمشي على الصراط المستقيم، ويقول بلسانه: “اللهم ثبّت قدمي على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام واجعل سعيي فيما يرضيك عني “.

*دروس من الآداب المعنوية للصلاة، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، آذار 2004م، ص33-42.

المصدر

www.almaaref.org

Loading