أقسام القلوب ( الأخلاق مع الله )

أقسام القلوب ( الأخلاق مع الله )
عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام: “إن القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس1، وقلب مطبوع2، وقلب أزهر3أجرد4. فقلت: ما الأزهر؟ قال: فيه كهيئة السراج، فأما المطبوع فقلب المنافق، وأما الأزهر فقلب المؤمن، إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر، وأما المنكوس فقلب المشرك، ثم قرأ هذه الآية “أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”، فأما القلب الذي فيه إيمان ونفاق فهم قوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجا”.

الترغيب في إصلاح النفس‏
القلب بحسب الاصطلاح له معانٍ متعددة، وبيان حقيقة القلب والمعاني المختلفة غير مفيد بالنسبة لنا الآن بل قد يكون مضراً إذا صار الإنشداد إلى المصطلحات سبباً للغفلة عن القلب نهائياً والتأخر في إصلاحه، فالأولى صرف الكلام إلى ما هو هام وضروري والتعاطي مع القلب بمعناه الكلي الذي يتراءى من الروايات رغم غموض حقيقته.

إن العلوم بأسرها تكون للعمل، حتى المعارف الإلهية، حيث لها انعكاسات عملية أيضاً، وعلم أحوال القلوب وكيفية صحتها ومرضها وصلاحها وفسادها، من العلوم التي تعد مقدمة للعمل، وأداة لعلاج القلب وإصلاحه، وأما الإحاطة بهذه الأمور واستيعابها فلا يعتبر من الكمالات الإنسانية.

إذن لا بد للإنسان أن يركز انتباهه على إصلاح القلب، ويجعل مبتغاه إكماله، حتى ينال منتهى السعادة، ويصل إلى المراتب الروحانية العالية.

أقسام القلوب ومراتبها
إن للقلوب أقسام ومراتب كما هو واضح وكما ذكرت الروايةالسابقة عن الإمام الباقر عليه السلام، حيث قسمت القلوب إلى أربعة أقسام، ولكن ما هو منشأ هذه المراتب وسبب هذه الأقسام؟

ما السبب في اختلاف القلوب
يمكن إرجاع اختلاف القلوب إلى أمرين:

1- الفطرة: إن الروايات تؤكد أن القلوب تولد على فطرة التوحيد، فالإيمان والتوحيد فطري في الإنسان، والقلب المؤمن بما له من أقسام وكمالات استلهم من هذه الفطرة المولودة مع الإنسان، وكذلك بالنسبة للشرك والنفاق، فيمكن أن يقال أنها نتيجة ظروف تربوية واجتماعية ترتبط بالفطرة أيضاً – بدون أن يصل الأمر إلى القول بالجبر المستحيل – وعليه يمكن أن يقال: إن السبب والمنشأ في اختلاف القلوب هو الفطرة الموجودة في الإنسان.

2- تبلور القلب وحركته المعنوية: بمعنى أن السبب في اختلاف القلوب ليس الاستلهام والتأثر بالفطرة والسجية وإنما بسبب تحركها المعنوي بعد ذلك. وهذه الفرضية أكثر انسجاماً مع روايات الفطرة التي تعتبر التوحيد فطرة في الإنسان ولكنها تؤكد أن الشرك والنفاق طارئان وعرضيان.

وهذه الفرضية الثانية هي الأقرب والأصوب، والإنسان ما دام موجوداً في هذا العالم فهو قابل للتغير والانتقال من مرتبة إلى مرتبة، والارتقاء من مراتب النقص والشقاء والشرك والنفاق ليبلغ مراتب الكمالات والسعادة.

الشقي شقي في بطن أمه‏
كيف نفسر الرواية المعروفة “الشقي شقي في بطن أمه”، مع ما ذكرناه من كون القلوب قابلة للتغير والتبدل وهي تتبلور معنوياً من خلال حركتها المعنوية في الدنيا؟

الحقيقة أن هذا الحديث الشريف لا يدل على أن السعادة والشقاء ذاتيان للإنسان بل يدل على معنى آخر ينسجم مع الدليل والبرهان:

والظاهر من الرواية أن المقصود السعادة والشقاء الفعليان، ومن المعلوم أن السعادة التي تعد من الكمالات والفعليات لا تتوفر للنفوس الهيولائية على نحو الفعلية فعلاً، وإنما تكون على نحو الاستعداد والقابلية والأهلية والقوة، وعليه فالمقصود بالرواية نشأة أخرى للإنسان والتي تكون فيها سعادته وشقاؤه فعليين، ألا وهي وجوده في عالم الطبيعة المادية، ويكون المقصود من بطن الأم عالم الطبيعة الذي يعيش فيه الإنسان، كما عبرت بعض الروايات، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “الناس أبناء الدنيا ولا يلام الرجل على حب أمه”.

فعالم الطبيعة والمادة هذا هو أم لكل ما هو مادي ومشيمة لتربية ما هو من الطبيعة.

حصر أقسام القلوب في أربعة
قسم الحديث السابق القلوب إلى أقسامها الأربعة، وهناك من حاول بيان التقسيم بشكل منطقي بهذا الشكل:

إن القلوب إما أن تتحلى بالإيمان أو لا. وعلى الأول إما أن تتصف القلوب بالإيمان بكل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله، أو تتصف ببعض ما يعتبر في الإيمان دون بعض. فالأول قلب المؤمن، والثاني هو القلب المكنف بالإيمان والنفاق. وهو إما أن يعلن الإيمان ويظهره أو لا، فعلى الأول يكون القلب منافقاً وعلى الثاني مشركاً.

ولكن هذا التحليل لا ينسجم مع الحديث الشريف الذي يظهر منه أن القلب الواحد قد يؤمن في الحقيقة بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وقد ينافق. ويمكننا أن نبين انقسام القلوب إلى الأقسام الأربعة بشكل أفضل فنقول: إن القلب إما أن يؤمن بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله أو لا، وعلى الثاني إما يظهر إيمانه أو لا، وعلى الأول إما أن يستقر فيه الإيمان من دون تزلزل أو يؤمن حيناً ويتراجع حيناً آخر رغم إفصاحه عن الإيمان أيضاً، ويستفاد من ذيل هذا الحديث أن توبة من يتحول من الإيمان إلى الكفر والنفاق تكون مقبولة رغم نقضه للتوبة وتكرر مثل هذا التراجع والتحول.

قلب المؤمن أزهر
إن الإيمان بالله تعالى هو من الكمالات المطلقة وهو أصل الكمال وأصل النور الإلهي الذي يظهر ويتجلى في قلب الإنسان، وكل ما لم يكن من الإيمان وتوابعه فهو خارج عن نطاق الكمالات النفسية الإنسانية وملحق بظلمات النقص والأوهام. فيتبين إذن أن قلب المؤمن أزهر كما في الرواية، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: “تجد الرجل لا يخطأ بلام ولا واو، خطيباً مصقِعاً ولقلبه أشد ظلمة من الليل المظلم، وتجد الرجل لا يستطيع أن يعبّر عما في قلبه بلسانه وقلبه يزهر كما يزهر المصباح”.

وهو مع ذلك يسلك الصراط المستقيم وينتهج في سيره الروحاني الجادة السوية والصراط المستقيم، وذلك من خلال:

أولاً: لم يخرج قلب المؤمن من الفطرة التي فطره الله تعالى عليها، بل سار على ضوء فطرة التوحيد التي هي التوجه والإنشداد إلى الكمال المطلق والجمال التام. فينطلق بهذا السير الروحاني من مرتبة الفطرة إلى منتهى الكمال المطلق ضمن صراط مستقيم ليس فيه أدنى اعوجاج وانحراف. وقد نقل عن رسول الله‏ صلى الله عليه وآله أنه رسم على الأرض خطاً مستقيماً ثم رسم خطوطاً متقاطعة مع الخط المستقيم ثم قال: “إن الخط المستقيم هو صراطي ومنهجي”.

ثانياً: يستسلم الإنسان في المسير كلياً للإنسان الكامل ومقام الخاتمية، ويحافظ على صفاء قلبه من تصرف الشياطين والأنانية، ولما كان الإنسان الكامل مَظهراً لجميع الصفات والأسماء، ولم تطغى عنده صفة على أخرى، كما قال الشاعر في وصف أمير المؤمنين عليه السلام:

جمعت في صفاتك الأضداد فلهذا عزت لك الأنداد

زاهـــد حاكم حليــم شجــاع فاتك ناسك فقير جــواد

شيم ما جمعن في بشر قط ولا حاز مثلهن الـعبـاد

فاحتوى على مقام الوسطية وتم سيره على الصراط المستقيم الطريق الوسط الذي هو الاسم الجامع، وأما الكائنات الأخرى فيكون كل واحد منها مظهراً لاسم من الأسماء متأثراً به، فإما تنزع نحو جانب اللطف والجمال، أو نحو جانب القهر والجلال.

وأما المؤمنون فلما كانوا تابعين في مسيرتهم للإنسان الكامل واضعين خطاهم في موضع أقدامه وسائرين على ضوء نور هدايته ومعرفته غير معتمدين على أنفسهم خطوة واحدة في سيرهم الروحاني إلى الله، استطاعوا أن يكونوا على الصراط المستقيم أيضاً وكان حشرهم مع الإنسان الكامل، ووصولهم تبعاً لوصول الإنسان الكامل، شرط محافظتهم على صفاء قلوبهم من تصرف الشياطين والإنية والأنانية بل واستسلامهم في المسير كلياً للإنسان الكامل ومقام الخاتمية.

*الأخلاق من (الأربعون حديثاً)،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية،ط 2 ،2007م ،ص28-32

الهوامش

1- المنكوس: المقلوب، يقال نكست الشي‏ء أي قلبته على رأسه.
2- المطبوع: المختوم، والطبع بالسكون: الختم، وبالتحريك: الدنس والوسخ.
3- الأزهر: الأبيض المستنير، ورجل أزهر أي أبيض مشرق الوجه، والمرأة: الزهراء.
4- الأجرد: الذي ليس في بدنه شعر، كناية عن عدم تعلق قلبه بالدنيا أو عن خلوه من الغل والغش.

المصدر

www.almaaref.org

Loading