الزهد والرغبة

الزهد والرغبة

فضل الزهد
حثّت الروايات الكثيرة على الزهد وذكرت فضله عند الله تعالى وماله من الأثر في الدنيا والآخرة، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: “جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا”، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا” ثم قال: أبو عبد الله: “حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا”1.

وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إن من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا”2.

ما هو الزهد؟
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “الزهد بين كلمتين من القران، قال الله تعالى: ﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم﴾(الحديد:23) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتى فقد استكمل الزهد بطرفيه”3. وهذه الرواية تشرح أمرين:

أولاً: ليس الزهد أن لا تحصل على شي‏ء أو أن ترفض نعم الدنيا وتبتعد عنها وتعيش حياة الفقراء والمساكين، فالآية الكريمة تقول: ﴿وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم﴾(الحديد:23) فالله تعالى ينعم على الإنسان المؤمن وسيستفيد هذا المؤمن من النعمة “آتاكم” ولم يطلب الله تعالى من الزاهد أن يرفض النعم، وهذا واضح من شرح أمير المؤمنين عليه السلام فهو عليه السلام يؤكد أن النعم سيحصل عليها الزاهد أيضاً “لم يفرح بالآتي”. وهذا ما تشير له العديد من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام، فعن الإمام الصادق عليه السلام: “ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عز وجل”4.

ثانياً: الزهد هو صفة راسخة في نفس الإنسان تكون نتيجتها أمرين: لا يفرح بالدنيا المقبلة ولا يحزن على الدنيا المدبرة. ليصل إلى مرحلة لو أصاب فيها حظاً وافراً لم يفرح فرح المنتصرين، ولو أصيب بمصيبة لم يجزع جزع الحريصين. فالزاهد هو الذي يستفيد من الدنيا دون أن يكون أسيراً لها.

كيف يكتسب الزهد؟
يحصل الزهد في قلب الإنسان من خلال أمور منها:

1- ذكر الموت‏
فإن ذكر الموت، الذي هو عبارة عن تسخيف كل ما هو من متاع الدنيا لأن ما بها من نعم كالمال فإنه إما زائل أو منتقل للورثة، والأزواج إما أن تموت قبلنا أو نموت قبلها فتتزوج من غيرنا لتستمر الحياة، وهكذا كل متاع الدنيا فهو متروك من الإنسان عند الموت، والموت كما سماه أمير المؤمنين عليه السلام هادم اللذات من الأمور التي تجعل الدنيا حقيرة في نفس الإنسان وبالتالي يخرج حبها من القلب عند تذكره باستمرار، وفي الروايات الشريفة ما يدل على هذا المعنى، فقد قال أبو عبيدة للإمام الباقر عليه السلام: حدثني بما أنتفع به فقال: “يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا”5.

2- التفكر
فالتفكر في حال الدنيا والآخرة، وما فيهما من الباقي والفاني، وإجراء بعض الحسابات النفسية لما يدّعيه الإنسان من محبة الله تعالى، تجعله يصل إلى النتيجة المطلوبة وهي الزهد ففي الراوية عن جابر قال: دخلت على الإمام الباقر عليه السلام فقال: “يا جابر والله إني لمحزون، وإني لمشغول القلب، قلت: جعلت فداك وما شغلك؟ وما حزن قلبك؟ فقال: يا جابر إنه من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغل قلبه عما سواه، يا جابر ما الدنيا وما عسى أن تكون الدنيا هل هي إلا طعام أكلته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟!. يا جابر إن المؤمنين لم يطمئنوا إلى الدنيا ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار، والدنيا دار فناء وزوال ولكن أهل الدنيا أهل غفلة وكأن المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يصمّهم عن ذكر الله جل اسمه ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة بأعينهم ففازوا بثواب الآخرة، كما فازوا بذلك العلم. واعلم يا جابر أن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، تذكر فيعينونك وإن نسيت ذكروك، قوالون بأمر الله قوامون على أمر الله، قطعوا محبتهم بمحبة ربهم ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم ونظروا إلى الله عز وجل وإلى محبته بقلوبهم وعلموا أن ذلك هو المنظور إليه، لعظيم شأنه، فأنزل الدنيا كمنزل نزلته ثم ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شي‏ء، إني (إنما) ضربت لك هذا مثلا، لأنها عند أهل اللب والعلم بالله كفي‏ء الظلال، يا جابر فاحفظ ما استرعاك الله عزَّ وجلّ‏َ من دينه وحكمته ولا تسألن عما لك عنده إلا ما له عند نفسك…”6.

الحرص والرغبة في الدنيا
في مقابل الزهد هناك الرغبة في الدنيا التي تحدثت عنها الروايات الكثيرة، وقد عدت حبها رأس كل خطيئة ووصفتها روايات أخرى بالأفعى فعن الإمام الصادق عليه السلام إن في كتاب علي: “إنما مثل الدنيا كمثل الحية ما ألين مسها، وفي جوفها السم الناقع يحذرها الرجل العاقل ويهوى إليها الصبي الجاهل”7.

ولحب الدنيا والحرص عليها والرغبة بها آثار كثيرة منها:

1- الكآبة:
فالإنسان الحريص على الدنيا تراه كئيباً مشغولاً فكره من الصباح إلى المساء بها بحيث لا يجد لنفسه ساعة من الراحة إلا حين ينام بعد القلق الذي يتعبه في اليقظة، وتراه إذا فقد منها أمراً أو أصيب بضائقة سي‏ء الطباع تعيس الحال فمثله كما عبرت عنه الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: “مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلما ازدادت على نفسها لفاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً”8..

2- البعد عن الآخرة:
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: “إن في طلب الدنيا إضراراً بالآخرة وفي طلب الآخرة إضراراً بالدنيا، فأضروا بالدنيا فإنها أولى بالإضرار”9.

والطلب بمعنى جعلها الهدف الأساسي لحركة الإنسان، فيجب أن يكون للإنسان هدفاً أساسياً واحداً يسعى إليه، تكون له الأولوية عند تعارضه مع غيره.

ومثاله ما لو وقع الإنسان العاطل عن العمل مثلاً بين خيارين بين أن يعصي الله تعالى من خلال كسب فيه شبهات أو محرم واضح، وبين الانتظار إلى أن يجد عملاً حلالاً ولا شبهة فيه، فإن كان هدفه الأساسي هو الدنيا فسيعمل بهذا المكسب المحرم ويكون حبّ‏َ الدنيا قد استولى على قلبه، أما إن كان هدفه الآخرة فإنه سيستبعد الأمر ويصبر، ويصبر حتى يهيى‏ء الله تعالى له رزقاً حلالاً، وهذا هو الزاهد.

*جهاد النفس، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، حزيران 2005م ، ص53-63.

الهوامش

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص128.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص128.
3- وسائل الشيعة (آل البيت) الحر العاملي، ج61، ص19.
4- الكافي، ج5، ص70.
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص131.
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص132.
7- وسائل الشيعة (آل البيت) الحر العاملي، ج61، ص17.
8- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص134.
9- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص131.

المصدر

www.almaaref.org

Loading