عمومية التوبة ((العلاقة مع الله))
عمومية التوبة ((العلاقة مع الله))
لا تختص التّوبة بذنب من الذنوب، أو شخص من الأشخاص، ولا تتحدّد بزمان ولا مكان ولا عمر محدد.
وعليه فإنّ التّوبة تشمل جميع الذّنوب وتستوعب كلّ فرد في أي مكان أو زمان كان، وإذا ما احتوت على كلّ الشّروط، فستُقبل من قبل الباري تعالى، والإستثناء الوحيد الذي لا تُقبل فيه التّوبة، والذي أشار إلى القرآن الكريم، هو: التّوبة عند حضور الموت، أو نزول العذاب الإلهي، (كما تاب فرعون في آخر لَحَظات عمره)، فعندها لن تُقبل توبته، لأنّ التّوبة عندها ليست توبةً حقيقيّةً، ولا هي صادرةٌ من الشّخص من موقع الإختيار، فيقول الباري تعالى: ﴿وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الاْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾(النساء:18).
ونقرأ في قصّة فرعون: عندما إنفلق البحر لموسى عليه السلام، وتبعه فرعون وجنوده، واُغرِق فرعون، فقال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ﴾(يونس:90).
ولكنّه سمع الجواب مباشرةً، فقال تعالى: ﴿الاْنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِين﴾(يونس:91).
وأمّا بالنسبة للاُمم السّابقة، فقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾(غافر:84).
فأجابهم القرآن الكريم: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُون﴾(غافر:85).
وكذلك بالنّسبة للحدود الإلهيّة، عندما يقع المجرم في أيدي العدالة، فلن تقبل توبته، لأنّه لم يتب واقعاً بل خوفاً من العقاب لا غير.
فالتّوبة التي لا تقبل من الباري تعالى، هي التّوبة التي تخرج من شكلها الإختياري في مسيرة الإنسان.
وقال البعض توجد ثلاثة موارد اُخرى لا تقبل فيها التوبة:
الأول: “الشّرك”، حيث يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾(النساء:48).
ولكن هذا الأمر يبتعد عن الصّواب والصّحة، بل أنّ الآية لم تتكلم عن التّوبة، ولكنّها تحدثت عن العفو عن المشرك من دون توبة، وإلاّ فانّ كلّ الأشخاص قبل الإسلام، تابوا من شركهم وقبلت توبتهم، وكذلك كلّ من يدخل في الإسلام في عصرنا الحاضر، فتوبته مقبولةٌ عند جميع علماء المسلمين، ولكن إذا مات المُشرك وهو على شِركه، فلن يتوب الله تعالى عليه، أمّا في حالة أن يموت على التّوحيد، ولكنّه قد إرتكب ذنوباً في سالف حياته، فمن الممكن أن يعفو عنه الله تعالى، وهذا ما نستوحيه من مفهوم الآية الكريمة.
وخلاصة القول، إنّ المشركين لن يشملهم العفو الإلهي المنفتح على الخلق، بل هو للمؤمنين الموحّدين، والتّوبة تغفر كلّ الذنوب حتى الشّرك.
ثانياً وثالثاً: يجب أن تكون التّوبة مُباشرةً بعد الذنب، ولا تؤخّر إلى وقت بعيد، وكذلك يجب أن يكون إرتكاب الذنب عن جهالة لا عن عناد، ونقرأ في الآية (17) من سورة النساء: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾.
والجدير بالملاحظة، أنّ كثيراً من المفسّرين، حملوا هذه الآية على التّوبة الكاملة، لأنّه من الطّبيعي، عندما يُذنب الإنسان من موقع العناد والغي، ثم يتوجّه لحقيقة الحال، ويندم على أفعاله السّابقة، فإنّ الباري تعالى يتوب عليه، وقد حدّثنا التأريخ عن نماذج كثيرةً وأفراداً كانوا في صفوف المُعاندين والأعداء، ثم رجعوا عن غيّهم وتابوا، وعادوا إلى حضيرة الإيمان والصّلاح.
ومن المعلوم حتماً، لو أنّ الإنسان أمضى عمره بالذّنوب والعصيان، ولكن تاب بعدها توبةً نصوحاً، وتحول من دائرة المعصية والإثم، إلى دائرة الطّاعة والإيمان، فإنّ الله تعالى سيقبل توبته لا محالة.
ونقرأ في الحديث المشهور عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، أنّه قال:
“مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِسَنَة تابَ اللهُ عَليهِ، وَقَالَ: ألا وَسنَةٌ كَثِيرَ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِشَهْر تابَ اللهُ عَلَيهِ، وَقَالَ: شَهْرُ كَثِيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِجُمْعَة تابَ اللهُ عَلَيهِ، قَالَ: وَجُمْعَةٌ كَثيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِساعَة تابَ اللهُ عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَ ساعَةٌ كَثِيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ أنْ يُغَرغِرَ بِالمَوتِ تابَ اللهُ عَلَيهِ”1.
وطبعاً القصد منه، التّوبة بجميع شرائطها، فمثلاً إذا كان في عنقه حقوق الناس فعليه أن يوصي بها لمن هو بعده، ثم يتوب بعدها.
وتوجد آياتٌ كثيرةٌ، تدلّ على شمولية التوبة لجميع الذّنوب، ومنها:
1- نقرأ في الآية (53) من سورة الزمر: ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
2- نقرأ في الآية (39) من سورة المائدة: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
3- نقرأ في الآية (54) من سورة الأنعام: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَة ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
ففي هذه الآية نرى، أنّ سوء العمل مطلقٌ ويشمل كلّ الذّنوب، ومع ذلك فلا تُحجب عنه التّوبة وطريق العودة.
4- نقرأ في الآية (135) من سورة آل عمران: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
وهنا الظّلم أيضاً يشمل جميع الذنوب، لأنّ الظلم مرّة يقع على الغير واُخرى على النفس، ووعدت هذه الآية، جميع المذنبين بالتّوبة عن جميع ذنوبهم وآثامهم، في أطار الذّكر والاستغفار.
5- نقرأ في الآية (31) من سورة النّور، حيث خاطبت جميع المؤمنين: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
فكلمة”جميعاً” تدعو جميع المذنبين للتوبة، ولولا شموليّة وعموميّة التّوبة، لما صحّت هذه الدّعوة القرآنية.
والجدير بالملاحظة، أنّ الآيات المذكورة آنفاً، مرّةً تؤكّد على الإسراف، واُخرى على الظّلم، ومرّةً على سوء العمل، والوعد الإلهي بالمغفرة لجميع هذه العناوين، في حال إنضوائها تحت عنوان التّوبة، عن كل سوء وظلم وإسراف يقترفه الإنسان ويتوب منه، فإنّ الله تعالى سيتوب عليه.
ووردت رواياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، في مصادر الفريقين، السّنة والشّيعة، وأنّ باب التّوبة مفتوح حتى اللّحظات الأخيرة من العُمر، ما لم يرى الإنسان الموت بعينه. ويمكن الرجوع إلى الرّوايات في كتب، مثل: بحار الأنوار2، واُصول الكافي3، والدرّ المنثور4، وكنز العمّال5، وتفسير الفخر الرازي6، وتفسير القُرطبي7، وتفسير روح البيان8، وتفسير روح المعاني9. وكتب اُخرى، ويمكن القول أنّ هذا الحديث هو من الأحاديث المتواترة.
* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.
الهوامش
1- مستدرك الوسائل، ج12، ص145، (باب صحة التوبة في آخر العمر، ح5).
2- بحار الأنوار، ج6، ص19 وج2، ص440.
3- اُصول الكافي، ج2، ص440.
4- الدرّ المنثور، ج2، ص131.
5- كنز العمّال، ح10187 و10264.
6- تفسير الفخر الرازي, ج10,ص7, في ذيل الآية أعلاه.
7- تفسير القرطبي, ج3, ص166, في ذيل الآية أعلاه.
8- تفسير روح البيان, ج2, ص178, ذيل الآية أعلاه.
9- تفسير روح المعاني, ج4, ص233.
المصدر
www.almaaref.org