اجتناب الشبهات

اجتناب الشبهات

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّ من صرّحت له العِبَرُ عمّا بين يديه من المَثُلات، حجزته التّقوى عن تَقحُّم الشّبهات”. نهج البلاغة، الخطبة: 16.

صرّحت: كشفت.

العبر: بكسر ففتح جمع عبرة: الموعظة.

المثلات: العقوبات.

الشبهات: جمع شبهة: الالتباس، ما يلتبس فيه الحقّ بالباطل والحلال بالحرام.

إنّ قول الإمام عليّ عليه السلام فيه إشارة إلى أمرين لا بدّ من مراعاتهما لمن يريد السّلوك إلى الله تعالى، وهما:

1ـ الاعتبار

“إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات”.

يعتبر الإسلام ربط الماضي بالحاضر والحاضر بالماضي أمراً ضرورياً لفهم الحقائق، لأنّ الارتباط بين هذين الزمانين (الماضي والحاضر) يكشف عن مسؤولية الأجيال القادمة، ويوقفها على واجبها.

وهذا يعني أنّ لله في الأُمم سنناً لا تختصّ بهم، بل هي سنن وقوانين عامّة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدّم والبقاء وسنن للتدهور والاندحار، التقدّم للمؤمنين المتّقين المجاهدين المتّحدين الواعين، والتدهور والاندحار للأُمم المتفرّقة المتشتّتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.

إنّ للتاريخ أهمّية حيوية لكلّ أمّة من الأُمم، لأنّ التاريخ يعكس الخصوصيات الأخلاقية والأعمال الصالحة وغير الصالحة، والأفكار التي كانت سائدة في الأجيال السابقة، كما يكشف عن علل سقوط المجتمعات أو سعادتها، ونجاحها وفشلها في العصور الغابرة المختلفة.

وبكلمة واحدة: إنّ التاريخ مرآة الحياة الروحية والمعنوية للمجتمعات البشرية وهو لذلك خير مرشد محذّر للأجيال القادمة.

إنّ آثار الماضين خير عِبرة للقادمين، وبالنظر فيها والاعتبار بها يمكن للناس أن يعرفوا المسير الصحيح للسلوك والحياة.

ولهذا نجد القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى السير في الأرض والنظر بإمعان وتدبّر في آثار الأُمم والشعوب التي سادت ثمّ بادت إذ يقول: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾1، ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار﴾2.

وقد أشار الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذه الحقيقة في كلمات وخطب عديدة منها قوله: “فاعتبروا بما أصاب الأُمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومُثُلاته واتّعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر…

واحذروا ما نزل بالأُمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير والشرّ أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم، ومدّت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة واللزوم للألفة والتحاضّ عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي…”3.

ولذلك نرى القرآن الكريم عامراً بقصص الماضين، يقول سبحانه: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾4،﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين﴾5. ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا﴾6.﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾7. ويقول أيضاً: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾8.

2ـ التقوى

“حجزه التّقوى عن التّقحّم فى الشّبهات”.

والوجه فيه هو أنّ الإنسان العاقل إذا اعتبر بما وقع من الحوادث على الأمم الماضية في القرون السّالفة وعلم أنّ العلّة و السّبب فيها لم تكن إلّا العصيان والمخالفة لأوامر الله تعالى وارتكاب المنهيات وعدم الانقياد للنّواميس الشّرعية التي بعث الله تعالى الأنبياء لأجلها فلا جرم يكون هذا الاعتبار مانعاً له عن الدخول في الشّبهات فضلاً عن المحرّمات.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “… للورع مراتب كثيرة: فورع العوام: الاجتناب عن الكبائر، وورع الخواصّ: الابتعاد عن الشبهات خشية الوقوع في المحرّمات. وورع أهل الزهد: الاجتناب عن المباحات للابتعاد عن وزرها. وورع أهل السلوك: ترك النظر إلى الدنيا لأجل الوصول إلى المقامات. وورع المجذوبين: ترك المقامات لأجل الوصول إلى باب الله، ومشاهدة جمال الله. وورع الأولياء: الاجتناب عن التوجّه إلى الغايات”9.

وقد أشير إلى ورع الخواصّ في روايات عديدة منها:عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : “حلال بيّن و حرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات و من أخذ بالشّبهات ارتكب المحرّمات و هلك من حيث لا يعلم”10 و ذلك لأنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

وعن النّعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: “إنّ لكلّ ملك حمى وإنّ حمى الله حلاله و حرامه و المشتبهات بين ذلك كما لو أنّ راعياً رعى الى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه فدعوا المشتبهات”11.

وعن فضيل بن عياض عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: مَن الورعِ من النّاس؟ قال عليه السلام: “الذي يتورّع من محارم الله و يجتنب هؤلاء فإذا لم يتّق الشّبهات وقع في الحرام و هو لا يعرفه”12.

وعن أبي عبد الله عليه السلام: “أورع النّاس من وقف عند الشّبهة…”13.

ازدواج الشخصية

إنّ هناك أناساً يملكون شخصية مزدوجة، فهم أتقياء ورعون محتاطون في أمور وغير مبالين في أمور أخرى.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “نجد الكثير من ذوي الوسوسة التي لا مبرّر لها والجهلة المتنسّكين، لا يحتاطون في مواضع يجب الاحتياط فيها أو يستحب. هل سمعت أحداً يعيش حالة الوسوسة في الشبهات المالية؟ مَن من [الوسواسيين] دفع الزكاة والخمس مرات عديدة؟ وذهب إلى الحجّ لأداء الواجب مرات متكرّرة؟ وأعرض عن الطعام المشتبه؟ لماذا كانت أصالة الحلّية في الأطعمة المشتبهة جارية وأصالة الطهارة في مشكوك النجاسة غير جارية؟…

كان أحد الأئمّة المعصومين [الإمام الكاظم] سلام الله عليه وعليهم السلام إذا ذهب لقضاء حاجته رشّ الماء على فخذيه، حتّى إذا ترشّحت لدى الاستبراء أو الاستنجاء قطرات من الماء لم يحسّ بذلك ـ فهو لم يحتط ولم يتوسوس ـ. وهذا المسكين الذي يرى نفسه محتذياً حذو الإمام المعصوم عليه السلام وآخذاً دينه منه، لا يتّقي لدى التصرّف في الأموال، ولا يحتاط تجاه الطعام بل يتّكل على قاعدة أصالة الطهارة ويأكل، ثم يقوم ويغسل فمه ويديه. إنّه حين الأكل يتمسّك بأصالة الطهارة وبعد أن يشبع يقول: كل شيء نجس”14.

مثال لاجتناب الشبهات

“إنّ تعويد النفس على الغيبة في الأحوال الجائزة، يضرّ بحالها أيضاً. لأن النفس تميل نحو الشرور والقبائح، فمن المحتمل أن ينجرّ [الإنسان] رويداً رويداً من الموارد الجائزة إلى مرحلة أخرى وهي الموارد المحرّمة ، كما أنّ الدخول في الشبهات غير محمود، رغم جوازه، لأنّها حمى المحرّمات ومن الممكن أنّ الاقتحام في الحمى يفضي إلى الدخول في المحرّمات. يجب على الإنسان مهما أمكن أن يبعد النفس عن الغيبة في الأحوال المسموحة، ويحترز عن الأمور التي يحتمل أن يكون فيها طغيان للنفس”15.

قصص لاجتناب الشبهات

دعا أبو عبد الله عليه السلام مولى له يقال له: مصادف، فأعطاه ألف دينار وقال: له تجهّز حتّى تخرج إلى مصر فإنّ عيالي قد كثروا، قال: فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار إلى مصر فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة وكان متاع العامّة 16 فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً فلمّا قبضوا أموالهم وانصرفوا إلى المدينة فدخل مصادف على أبي عبد الله عليه السلام ومعه كيسان في كلّ واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال: إنّ هذا الربح كثير ولكن ما صنعته في المتاع؟ فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا،: فقال: سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين ألّا تبيعوهم إلّا ربح الدينار ديناراً، ثمّ أخذ الكيسين 17 فقال: هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح، ثمّ قال: يا مصادف مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال18.

قصّة أخرى

إنّ المراجع لسيرة علمائنا الأبرار يلاحظ مدى احتياطهم وبعدهم عن الشبهات، وهذه بعض قبساتهم المعبّرة.

يروى عن آية الله السيّد محمّد باقر الدرجه أي ما يلي:

دعاه أحد التجّار الأثرياء مع عدد من العلماء والطلّاب، ومدّ سفرة وسيعة أنيقة مكلفة، عليها أنواع الأطعمة، وكعادته رحمه الله اكتفى بتناول مقدار قليل من الطعام، وبعد الانتهاء من تناول الطعام وغسل الأيدي، قدّم صاحب الدعوى للسيّد سنداً يتضمّن أمراً حراماً بحسب فتواه، وطلب منه أن يوقّع عليه.

أدرك (رضوان الله عليه) أنّ هذه الوليمة كانت مقدّمة لإمضاء هذا السند.

إنّ فيها إذن شبهة الرشوة، فتغيّر لونه وارتعدت فرائصه وقال: أيّة إساءة أسأتها إليك حتّى وضعت في حلقي هذا الزقّوم؟..

لماذا لم تأتِ بهذا السند قبل الغداء حتّى لا ألوّث يدي بهذا الطعام؟..

ثمّ نهض مضطرباً ومضى مسرعاً إلى المدرسة وجلس بجوار الحديقة المقابلة لحجرته، ووضع إصبعه في فمه حتّى استفرغ، ثمّ تنفس الصعداء19.

المصدر : مواعظ من نهج البلاغة ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

الهوامش

1-آل عمران: 137.

2-الحشر: 2.

3-نهج البلاغة، الخطبة:192.

4-الأعراف: 101.

5-هود: 120.

6-طه: 99.

7-الأعراف: 176.

8-يوسف: 111.

9-انظر:الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 29، ص 425- 426.

10-الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص68.

11-بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج2،ص259.

12-مستدرك الوسائل،الميرزا النوري،ج12،ص177.

13-م. ن، ج11، ص 278.

14-الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ، الحديث 25، ص 367- 368.

15-الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 19، ص 292- 293.

16-(متاع العامة) أي الذي يحتاج إليه عامة الناس.

17-وفي مستدرك الوسائل: “أحد الكيسين”.

18-الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص162.

19-سيماء الصالحين، ص47.

المصدر

www.almaaref.org

Loading