الفتنة : أخطارها الفردية والاجتماعية

الفتنة : أخطارها الفردية والاجتماعية

روي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قوله: “ليغشينّ من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل”1.

1 – معنى الفتنة:

الفتنة في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضّة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميّز الردي من الجيّد، ومن هذا قول الله عزّ وجلّ: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾2-أي يحرقون بالنار.

وقال ابن الأثير: الفتنة: الامتحان والاختبار… وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار من المكروه، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء3.

وقد تعدّدت معاني الفتنة فهي قد تأتي بمعنى: الاختبار، المحنة، المال، الأولاد، الكفر، اختلاف الناس بالآراء، الإحراق بالنار وغيرها…

2 – الفتنة في القرآن الكريم:

لله سنن كثيرة في خلقه، منها فتنه الناس؛ أي اختبارهم، ليعلم المؤمن من الكافر. وقد فتن الله سبحانه الذين ولدوا وعاشوا قبل نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم . والغاية – قديماً وحديثاً – هو تمييز وتحديد الصادقين في إيمانهم من الكاذبين، قال تعالى: ﴿الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾4، فلا يكفي أن يتلفّظ الإنسان بلسانه أنّه مؤمن بالله، وأنّه لا إله إلا الله. فالقول باللسان غير كاف، وقد كان إيمان بعض الناس بأفواههم دون قلوبهم يُحزن الرسول صلى الله عليه واله وسلم ، فجاء الرد من الله سبحانه وتعالى بأن لا يحزنك ذلك، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾5.

فلا بدّ أن يرافق القول والنطق صدق القلب، كما لا بدّ أن يؤكّده صدق العمل؛ لهذا دائماً ما يرد ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾. فمسألة الإيمان وقبوله لا تعتمد على القول أو كثرة السجود، بل صدق القلب والعمل ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾6. فهذه صفات صادقي الإيمان والمتقين؛ إذ يجب أن ينتفع المؤمن ويكسب خيراً من إيمانه في الدنيا والآخرة، فإذا لم ينتفع من إيمانه فهو إيمان وهمي، لم يصدقه ولم يؤكّده العمل، وبالتالي إيمانه هذا لن ينفعه ولن يكسبه خيراً، هذا إذا أحسنّا الظن ولم نحسبه من المنافقين.

3 – أهداف الفتنة:

أ – الاختبار: الله سبحانه وتعالى لا يريد لنا الكفر، بل يريد لنا الإيمان والحقّ، ولكن عن بيّنة وقوة، وإصرار وتميّز، ورد في القرآن الكريم الكثير من الفتن التي تعرّض لها الأنبياء والرسل عليه السلام ، بل وفي سيرة الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم صوّر القرآن كيف ألمّت به وبالمسلمين المحن والفتن، من قتل وتهجير ومقاطعة اقتصادية واجتماعية، وهزيمة في معركة أحد… والهدف منها جميعاً الاختبار، وتقوية إيمان المؤمن، وجعله أكثر صلابة وقوة، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾7. فهي عملية غربلة وتقوية للمسلمين؛ فالمؤمن ينجح في الاختبار، والمنافق ينهار ويفشل، فينكشف أمام الله سبحانه وتعالى وأمام نفسه وأمام المسلمين.

ب- الانصياع التام لله: الله سبحانه وتعالى يفتن المؤمن، لكي يجعله منصاعاً للمنهج الحقّ، حتى يصل إلى الانصياع التام، وحتى يغدو هوى نفسه متوافقاً ومتطابقاً لمنهج الله سبحانه وتعالى فلا يجد في نفسه حرجاً من اتباع الحقّ ودين الله عزّ وجلّ ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾8.

4 – الشيطان عمود الفتنة:

الشيطان الرجيم أحد أعمدة الكفر، والعمود الفقري لفتنة الإنسان، وقد ينسى الإنسان أنّ إبليس وحزبه هو عدوّه الأول، والشيطان يسعى جاهداً إلى تحقيق هدفه الأول والأساسي، وهو إضلال الإنسان وخداعه، ﴿ بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ﴾9.

قصّة الإنسان وإبليس والحياة الدنيا والآخرة، كلّها تتلخّص في كلمة واحدة وهي الاختبار، نحن هنا في الحياة الدنيا في مرحلة اختبار لفترة زمنية محدّدة، الناجحون لهم الجنة والراسبون لهم النار.

على بني آدم أن يلتفتوا جيّداً إلى أنّه لا جنة بلا اختبار ونجاح، حتى آدم وحواء مرّا باختبار، حيث نهيا عن الأكل من الشجرة؛ ولأنّ إبليس عدوّ لهما، بدأ يعمل عمله في فتنتهما وإغوائهما، فالذين في قلوبهم مرض، فما يلقيه الشيطان في نفوسهم ما هو إلا فتنة وتحويلاً لهم عن منهج الحق والصراط المستقيم،﴿يَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾10.

5 – الأوجه العديدة للفتن:

الفتنة هنا هي عملية صرف الإنسان عن الحقّ بالقوّة، يعني كأن يفرض نظام جائر على الناس شيئاً لا يريدونه ولا ينسجم مع ما يرونه أو يعتقدونه، وفي هذه الحالة إذا رفضوا يُعذّبهم ويفتنهم. هذا النوع من الفتنة الذي يُراد منه أن يحمل الناس على تغيير معتقداتهم وآرائهم وتصوّراتهم هي أشدّ من القتل، لأنّ الحرية هي جوهر إنسانية الإنسان، والإنسان الذي يُسلب حريته سواء أكان في الاعتقاد أو التعبير عن الرأي أو التصرّف المشروع، إنّما تسلب منه إنسانيته، فلا إنسانية بدون حرية، ولا حرية يمكن أن يتمتّع بها بشكل سليم ويضعها مواضعها إلا إنسان مستقيم يحترم إنسانيته ويقدّرها حقّ تقدير. من هنا تصبح عملية إكراه الناس على تغيير آرائهم ومعتقداتهم وتصوّراتهم بالقوّة وبالعنف أشدّ من قتلهم؛ لأنّها بالفعل قتل لإنسانيتهم وقتل لحريتهم. والمصداق الواضح للفتنة في أيامنا سياسة أمريكا وأذنابها في التعامل مع من لا يخضع لسياساتها.

ولقد عبّر الإمام علي عليه السلام عن كيفية نشوء الفتنة فقال: “إنّما بدء وقوع الفتن، أهواء تُتَّبع وأحكام تُبتدع، يُخالَفُ فيها كتاب الله، ويتولّى عليها رجال على غير دين الله. فلو أنّ الباطل خلُص من مزاج الحقّ، لم يخف على المرتادين، ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل، لانقطعت عنه ألسن المعاندين. ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث، فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى”11. ففي يوم الفتنة تتمكّن الفتنة من عقول الناس، وتغلب على نفوسهم وأفكارهم، وتسلب منهم الرؤية والبصيرة، فيلتبس عليهم الحقّ بالباطل، ويلتبس عليهم أهل الحقّ بأهل الباطل، فلا يميّزون هؤلاء عن أولئك، ولا هذا عن ذاك، ولكن الفتنة تفرز قلّة يعصمهم الله تعالى منها، ويرزقهم بصيرة نافذة، فيقفون إلى جانب الحقّ، وإن قلّ أهله وروّاده، ويقارعون الباطل، وإن كثر أهله. والفتن على مرّ التاريخ لها أوجه كثيرة، فقد كانت أيام “الجمل” و”صفين” و”النهروان” و”الطف” أيام فتن في تاريخ الإسلام. فعند وقوع الفتن يختلط الحقّ بالباطل.

6 – ما هو واجبنا عند وقوع الفتن؟

يقول أمير المؤمنين عليه السلام : “كن في الفتنة كابن اللبون؛ لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب”.

وابن اللبون عبارة عن جمل ذي سنتين، هذا الجمل لا يقوم بخدمة، لا ظهر فيركب، ليست له قوّة حمل الإنسان من بلد إلى بلد، وليس له ضرع فيحلب، إنّما الإنسان يستبقي عنده ابن اللبون ليكبر يومًا من الأيام، ويصبح ظهرًا يركبه، أو يصبح ذا ضرع يحلبه.

وليس معنى ذلك أن يعتزل الإنسان الساحة في الفتنة؛ فليس السلامة من الفتنة بالانسحاب من الساحة، وإنّما معنى ذلك أن لا يعطي الانسان من نفسه شيئاً للفتنة.

وهذا أحد وجهي القضية، والوجه الآخر العمل لمكافحة الفتنة ومقارعتها، والوقوف إلى جنب أولئك الذين يقفون في وجه الفتنة. ومن لا يكافح الفتنة يؤيّدها ويسندها لا محالة، وليس للإنسان بدّ من واحد من هذين: إمّا مكافحة الفتنة أو الاستسلام لها. ولا يصحّ ما كان يرى بعض الضعفاء من المسلمين عندما اندلعت الفتنة أنّ “الجالس فيها خير من القائم، والنائم فيها خير من الجالس”؛ فإنّ هؤلاء الجالسين لا محالة يقعون في شرك الفتنة، عن علم أو عن غير علم. وإذا أقبلت الفتن، انقلبت البصائر. فلم يعد يبصر الإنسان حوله شيئاً من الحقّ والباطل إلا من عصم الله، ويفقد الإنسان الرؤية.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو الخبير بالفتنة: “أيها الناس، أنا فقأت عين الفتنة، ولم يكن أحد ليجترئ عليها غيري”12.

فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، حدّثنا عن الفتن فقال عليه السلام : “إنّ الفتن إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت نبهت، يشبهن مقبلات، ويعرفن مدبرات”، وهذه أهمّ خصوصية في الفتنة. إذا أقبلت يفقد الإنسان الرؤية، ويلتبس عليه الحقّ والباطل (شبهت)، فلا يميّز أيّهما الحق وأيّهما الباطل، وإذا أدبرت انتبه الانسان، وعاد إليه ما فقده من رشده ووعيه (نبهت).

`وللسلامة من مضلّات الفتن، جعل الله تعالى للإنسان ملاذاً يلوذ به من الفتنة، ويمكّنه من التفريق بين الحق والباطل، يمكن جمعه في الآتي:

أ- الله تعالى: فإنّ الله عزّ وجلّ يعيذ عبده إذا استعاذ به من مضلاّت الفتن، وقد ورد في الدعاء: “وأعوذ بك من مضلّات الفتن”13، وروي عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : “… إِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّه شَافِعٌ مُشَفَّعٌ ومَاحِلٌ مُصَدَّقٌ. ومَنْ جَعَلَه أَمَامَه، قَادَه إِلَى الْجَنَّةِ، ومَنْ جَعَلَه خَلْفَه، سَاقَه إِلَى النَّارِ وهُوَ الدَّلِيلُ، يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ”14.

ب – التقوى: والتقوى معاذ وفرقان لمن يتحصّن به، فاذا حصّن الإنسان نفسه في حدود الله تعالى، ولم يتجاوز حدوده في قول أو فعل، عصمته التقوى من الضلال والفتنة، وطردت عنه الشيطان، وبصّره الله تعالى بكيد الشيطان ومكره، فلا يتمكّن منه، ولا يستطيع أن يكيد به، أو أن يمكر به؛ روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : “اعلموا أنّه من يتقّ الله، يجعل له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم”15. ومن التقوى مخالفة الهوى.

فاذا حلّت الفتنة بالإنسان ووقع في شركها، فخالف هواه، كلما تردّد بين أمرين يميل إلى أحدهما ويرغب عن الآخر، جعل الله تعالى له من تلك الفتنة فرجاً ومخرجاً، ورزقه بصيرة يهتدي بها؛ روي عن الإمام الكاظم عليه السلام “إذا حزّبك (مرّ بك) أمران، لا تدري أيهما خير وأصوب، فانظر أيّهما أقرب إلى هواك فخالفه؛ فإنّ كثير الصواب في مخالفة هواك”16.

ج- الإخلاص والخلوص للّه تعالى: فإنّ الشيطان لا سلطان له على عباد الله “المُخلصِين”، كما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾17.

وعن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : “طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلّ فتنة”18.

المصدر : كتاب قوا أنفسكم وأهليكم، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

المصدر : www.almaaref.org

Loading