ذِكرُ اللَّه

ذِكرُ اللَّه

تمهيد

ذكرُ الله هو أحد الوسائل لتكميل النفس، ولسيرها نحو القرب من الله سبحانه، فإنَّ السير والسلوك إلى الله ينطلق من ذكره تعالى، وإنَّ أكثر ما يساعد السالك على طيّ المسافات، هو المداومة على ذكره تعالى، ولذلك أكَّد القرآن الكريم على حقيقة الذكر، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ 1.

وعن الإمام الصادق عليه السلام في رسالة لأصحابه: “وأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كلِّ ساعة من ساعات الليل والنهار، فإنَّ الله أمر بكثرة الذكر، والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين، واعلموا أنَّ الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلَّا ذكره بخير” 2.

ولهذه الأهميّة قمنا بجعل درسٍ مستقلّ للذكر، بعد أن كان أحد أهمّ العوامل المساعدة على الوصول.

1- ما المقصود من الذكر؟

لا بدّ أن نعرف ما هو الذكر، وما هي حقيقته؟ فهل هو مجرَّد الذكر اللفظيّ أم ماذا؟ كان فيما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام: “يا علي، ثلاث لا تطيقها هذه الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كلّ حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاَّ الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله عزَّ وجلّ‏ عنده وتركه” 3.

لم يُرِد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفي كون هذه العبارات من ذكر الله تعالى، بل المراد في هذا الحديث الإشارة إلى تلك المرتبة الكاملة من الذكر، التي تعني أن يرى العبد ربَّه حاضراً وناظراً إليه، وأن يرى نفسه في محضره، فيمتنع عن معصيته، ويقدم على طاعته، ومن هنا أكَّدت الروايات على الذكر بمعنى التوجّه القلبيّ والحضور الباطنيّ، باعتبار كونه الفرد الأكمل من الذكر، وهذا يقود إلى الحديث عن مراتب ذكر الله تعالى.

2- مراتب الذكر

للذكر مراتب كثيرة، تبدأ من الذكر اللسانيّ حتى تصل إلى الإنقطاع إلى الله تعالى وسنشير إلى بعضٍ منها:

المرتبة الأولى: أن يؤدّي الذاكر أوراداً خاصّة بقصد القربة دون الإلتفات إلى معانيها.

المرتبة الثانية: أن يردّد الإنسان الأذكار بقصد القربة مع الالتفات إلى المعاني.

المرتبة الثالثة: أن يكون القلب متوجّهاً إلى الله تعالى وهو يدرك معاني الأذكار ثمَّ يأمر اللسان بالقيام بالذكر.

المرتبة الرابعة: أن يكون السالك متوجّهاً توجّهاً كاملاً إلى الله تعالى، فيرى الله حاضراً وناظراً، ويشاهد نفسه أنَّه في محضره تعالى، ولا يلتفت إلى شي‏ء من ظواهر هذه الدنيا، لأنَّه وصل إلى مصدر الكمال فلا يرى غيره.يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “إلهي هبْ لي كمال الانقطاع إليك، وأنرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلَّقة بعزِّ قدسك” 4.

3- مراتب الكمال

تختلف أحوال السالكين في هذا المقام، فمنهم الكامل ومنهم الأكمل، ويكون الواحد منهم مأنوساً ومتعلّقاً بالله، بنفس المقدار الذي قطع علاقته بغيره تعالى.

فعندما يتوجّه السالك إلى عظمة الله وجماله وكماله، تحدث لديه مقامات وأحوال روحيّة راقية:

أ – الذكر الدائم لله تعالى.

ب – الإحساس بحضوره عزّ وجلّ .

ج – الأنس بالله.

د- الإنقطاع إلى الله وترك ما سواه في سبيله.

هـ – محبّة الله والإشتياق إليه.

و – الخوف من الله وحْدَه.

ز- الرضا بقضاء الله وقدره.

ج – المرحلة التي لا يرى فيها سوى الله عزّ وجلّ، ويغفل عن كلّ شي‏ء سواه، وهو ما يسمّيه العرفاء بالفناء في الله، وهذا ما نجد التعبير عنه في الآيات والروايات، ونجدها أيضاً في أدعية المعصومين عليهم السلام الغنيّة بتلك المعاني الثَّمينة، والجواهر النادرة، التي لا يلتفت لعظمتها إلَّا القليل من الناس: قال علي عليه السلام: “ما رأيت شيئاً إلَّا ورأيت الله قبله وبعده ومعه”5.

وسُئل عليه السلام: هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال عليه السلام: “ويلك ما كنت أعبد ربَّاً لم أره!”0قيل: وكيف رأيته؟ قال: “ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان”6 .وتلك المراتب والمقامات والدرجات هي أمور حقيقيّة تعبّر عن مستوى من مستويات الوجود، ولها آثار نشير إلى بعضها:

4- آثار الذكر

1- الإلتزام بطاعة الله: فإنَّ من وصل إلى مرحلة يشعر فيها بشكل دائم بوجود الله وحضوره عزّ وجلّ، ووجد نفسه في محضر الله، فسوف يدفعه ذلك إلى الالتزام بطاعة الله تعالى والعمل بأوامره.فعن الإمام الصادق عليه السلام: “من كان ذاكراً لله على الحقيقة فهو مطيع ومن كان غافلاً عنه فهو عاص” 7.

2- الخضوع والخشوع: إنَّ من شاهد عظمة الله تعالى سيكون خاضعاً له منكسراً أمامه، خاشعاً لديه، يقول الإمام الصادق عليه السلام: “ومعرفتك بذكره لك، يورثك الخضوع والاستحياء والإنكسار” 8.

3 – عشق العبادة: إنَّ من آثار الذكر الدائم لله والإحساس بحضوره، التعلّق الشديد بالعبادة والالتذاذ بها، لأنَّ مَن أدرك عظمة الله ورأى نفسه في محضره، رجَّح لذّة المناجاة والتضرّع والتوسّل على أيّة لذّة أخرى.

4 – السكينة والطمأنينة: إنَّ الدنيا مليئة بالبلاء والآلام والأمراض، وهذه الأمور والخوف منها يسلبان الإنسان راحته وطمأنينته، إذا كان بعيداً عن ذكر الله، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾9.أمّا عباد الله المخلصون، الذاكرون لله، الذين تعلّقت قلوبهم بمصدر الكمال والخير، فإنَّهم لا يجزعون ولا يضطربون لفقد شي‏ء من حطام هذه الدنيا، وهم في سكينة وطمأنينة عند نزول البلاءات الإلهيّة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ﴾10.

5- ذكر الله لعبده: إذا ذكر العبد ربَّه فإنَّ الله تعالى سيذكره ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم﴾ 11، ومعنى ذكره تعالى لعبده أنَّه يصبح محلّاً لعنايته ورعايته ولطفه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “قال الله تعالى: إذا علمت أنَّ الغالب على عبدي الإشتغال بي، نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو حلتُ بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائي حقّاً، أولئك الأبطال حقّاً، أولئك الذين إذا أردت أن أُهلك الأرض عقوبةً، زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال” 12.

6 – محبّة الله لعبده: من نتائج الذكر محبّة الله لعبده، عن الإمام الصادق عليه السلام: “من أكثرَ ذكر الله أحبّه الله” 13.

7 – المعرفة: قد يصل السالك الذاكر لله إلى حيث يرى الحقائق والمعارف من خلال قلبه وعين بصيرته.

المصدر : تزكية النفس,سلسلة المعارف الاسلامية,نشر جمعية المعارف,ط 2009م,ص:125-130.

الهوامش

1-الأحزاب: 41

2-الحرّ العاملي – محمّد بن الحسن – وسائل الشيعة – مؤسسة أهل البيت – الطبعة الثانية 1414 ه.ق.- ج4 ص 1183

3-المجلسيّ-محمّد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة -ج93 ص 151

4-مفاتيح الجنان – دعاء عرفة

5-التبريزي الانصاري- اللمعة البيضاء- ص169

6-المجلسي – بحار الانوار- مؤسسة الوفاد – بيروت لبنان – الطبعة الثانية المصححة- ج 4 ـص 27

7-المجلسيّ-محمّد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة -ج93 ص158

8-م . ن .

9-طه: 124

10-الرعد: 28

11-البقرة: 152

12-المجلسيّ-محمّد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة -ج93 ص 162

13-الحر العاملي – محمّد بن الحسن – وسائل الشيعة – مؤسسة أهل البيت – الطبعة الثانية 1414 ه.ق.- ج4 ص 1181

المصدر : www.almaaref.org

Loading