السيرة الأخلاقيّة العلميّة لأهل البيت عليهم السلام (أمير المؤمنين عليه السلام)
السيرة الأخلاقيّة العلميّة لأهل البيت عليهم السلام (أمير المؤمنين عليه السلام)
هناك دروسٌ بليغة من النبيّ الأعظم وعترته الطاهرة عليهم السلام في سيرتهم المثاليّة ، وأخلاقهم الفذّة ، التي فيها كلّ العظة النافعة ، وبها الاُسوة الحسنة ، نذكر نبذة منها فيما يلي : ـ
أمير المؤمنين عليه السلام
كان قمّة وقدوةً في حُسن الأخلاق مع الصديق والعدوّ ، وعلى ذلك أدّب شيعته ، ودعى إلى الحقّ أعداءه ، حتّى هداهم بهداية الله تعالى بعمله قبل قوله.
وكان من أخلاقه عليه السلام أنّه يرافق في السفر ، ويشايع صاحبه إذا فارقه.
وفي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال : ـ
صاحَبَ عليٌّ رجلاً ذمّيّاً فقال له الذمّي : أين تريد يا عبد الله؟
قال عليه السلام : اُريد الكوفة.
فلمّا عَدَلَ الطريق بالذمّي عَدَل معه علي عليه السالم.
فقال له الذمّي : أليس زعمتَ تريد الكوفة؟
قال : بلى.
فقال له الذمّي : فقد تركت الطريق؟
فقال : قد علمتُ.
فقال له : فلِمَ عدلتَ معي وقد علمتَ ذلك؟
فقال له عليّ عليه السلام : هذا من تمام حُسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئةً إذا فارقَه ، وكذلك أمرَنا نبيّنا.
٤٥
فقال له : هكذا؟
قال : نعم.
فقال له الذمّي : لا جَرم إنّما تبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة.
وأنا اُشهدك أنّي على دينك ، فرجع الذمّي مع عليّ عليه السلام ، فلمّا عرفه أسلم (١).
ومن مكارم أخلاقه عليه السلام وحُسن سيرته ما جمع من أحاديث أحواله جاء فيها : ـ
كان عليٌّ عليه السلام يجلس جلسة العبد ، ويأكل أكل العبد ، ويشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما ، ثمّ يلبس الآخر في أشدّ التواضع.
وُلّي خمس سنين ما وضع آجرةً على آجرة ، ولا أورثَ بيضاء ولا حمراء.
وكان يُطعم الناس خُبزَ البُرّ واللّحم ، وينصرف إلى منزله يأكل خبر الشعير والملح أو الزيت أو الخلّ.
وما ورد أمران كلاهما لله تعالى رضاً إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه.
ولقد أعتق ألف مملوك من كدّ يده وعَرَق وجهه ، وتترّب يده من عمله.
وما كان لباسه إلّا الكرابيس التي هي أوضع الملابس.
دخل عليه عمرو بن العاص ليلةً وهو في بيت المال ، فأطفأ السراج ، ولم يستحلّ أن يجلس في ضوء بيت مال المسلمين بغير استحقاق.
واُتي بأحمال فاكهةٍ فأمر ببيعها ، وطرح ثمنها في بيت المال.
وبعث إليه دهقان (٢) بثوبٍ منسوج بالذهب ، فابتاعه منه عمرو بن حريث بأربعة آلاف درهم إلى العطاء.
وجاء إليه من همدان وحلوان عسل ، وتين ، فأمر أن يأتوا باليتامى ، فأمكنهم
__________________
(١) البحار / ج ٤١ / ص ٥٣.
(٢) الدهقان : يطلق على رئيس القرية ـ معرّب دهقان ـ ، ويطلق على التاجر ومن له مال وعقار كما في مجمع البحرين / ص ٤٣٠.
٤٦
من رؤوس الأزقاق يلعقونها ، وهو يقسّمها للناس قدحاً قدحاً ، ثمّ ألعقهم هو عليه السلام بيده المباركة.
فقيل له : يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟
فقال : إنّ الإمام أبو اليتامى ، وإنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء.
وكان عليه السلام بنفسه يستقي ، ويحتطب ، وينقّي العدس في البيت ، وفاطمة الزهراء عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز.
وما اُصيب بمصيبة إلّا صلّى في ذلك اليوم ألف ركعة ، وتصدّق على ستّين مسكيناّ ، وصام ثلاثة أيّام.
وكان إذا صلّى الفجر لم يزل معقّباً إلى أن تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس اجتمع إليه الناس فعلّمهم الفقه والقرآن.
قال عنه صعصعة بن صوحان العبدي وغيره من شيعته وأصحابه : ـ
(كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدّة تواضع ، وسهولة قياد. وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه) (١).
وقال عنه ابن أبي الحديد :
(وأمّا سماحة الأخلاق ، وطلاقة المحيّا والتبسّم فهو المضروب به المثل).
وقد شهد عدوّه اللدود معاوية بمكارم أخلاقه ومعالي صفاته التي بيّنها ضرار ابن ضمرة الليثي :
حيث دخل على معاوية فقال له : صِف لي عليّاً.
فقال ضرار : أوَ تعفيني عن ذلك.
__________________
(١) هذه هي الهيبة الإلهيّة التي كان يعظم بها عند أولياءه ويخاف منه خصومه ، حتّى ذكروا عنه أنّه كنّا نخوّف الأعداء بمجيء عليّ عليه السلام.
٤٧
فقال معاوية : لا أُعفيك.
فقال ضرار : ـ
كان والله بعيد المدى ـ أي عالي الهمّة ـ ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً.
يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه.
يستوحش من الدُّنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته.
كان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّه ، ويخاطب نفسه ، ويناجي ربّه.
يُعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشُب.
كان والله فينا كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه ، ويُجيبنا إذا سألناه ، وكنّا مع دنوّه منّا ، وقُربنا منه لا نكلّمه لهيبته ، ولا نرفع عيننا إليه لعظمته.
فإن تبسّم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم.
يعظّم أهل الدَّين ، ويحبّ المساكين.
لا يطمع القويّ في باطله ، ولا ييأس الفقير من عدله.
وأشهدُ بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وهو قائمٌ في محرابه ، قابضٌ على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأنّي أسمعه وهو يقول :
يا دُنيا دنيّة أبيَ تعرّضتِ؟ أم إليَّ تشوّقتِ؟ هيهات هيهات غُرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثاً ، لا رجعة لي فيها ، فعُمرك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير.
آهٍ آهٍ من قلّة الزاد ، وبُعد السفر ، ووحشة الطريق ، وعِظَم المورد.
فوكَفَت ـ أي سالت ـ دموع معاوية على لحيته ، فنشّفها بكمّه ، واختنق القوم بالبكاء.
ثمّ قال معاوية : كان والله أبو الحسن كذلك ، فكيف صبرك عنه يا ضرار؟
٤٨
قال : صبرُ مَن ذُبح واحدُها على صدرها ، فهي لا ترقأ عبرتها ، ولا تسكن حسرتها.
ثمّ قام ـ ضرار ـ وخرج وهو باكٍ.
فقال معاوية : أما إنّكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يُثني عليَّ هذا الثناء.
فقال بعض من حضر : الصاحب على قدر صاحبه (١).
__________________
(١) لاحظ بحار الأنوار / ج ٤١ / ص ١٢٠ / ب ١٠٧ / ح ٢٨.
المصدر : كتاب أخلاق أهل البيت عليهم السلام
السيّد علي الحسيني الميلاني
المصدر
http://books.rafed.net