الحكمة
الحكمة
التوازن العادل في القوة الفكرية هو الحكمة، والرذيلة التي تقابل الحكمة من جانب التفريط هي الحمق والبلادة ويعنون بها تعطيل القوة الفكرية عن العمل، وكبت مالها من مواهب واستعداد، والخسيسة التي تضادها من جانب الإفراط هي المكر والدهاء ويريدون منه التجاوز بالفكر عن حدود البرهان الصحيح، واستخدام قوة العقل في ماوراء الحق فقد تثبت نتائج ينكرها الحس وقد تنفي أشياء تثبتها البداهة.
ولست أرى ان لفظ المكر والدهاء يدلان على هذا المعنى لأنهما بمعنى الاحتيال والخداع، وهو شيء آخر وراء الحكمة الباطلة التي يقصدها هؤلاء المفسرون، أما الدهاء بمعنى جودة الرأي فهو يقرب من معنى الحكمة، وإذن فلنسم هذه النقيصة الخلقية(بالحكمة الباطلة) كما يسميها علماء الأخلاق.
ونحن إذا فحصنا الفضيلة العقلية(الحكمة) وجدناها تتألف من عنصرين أساسيين لا غِنَّي لهما عن أحدهما:
قوة فكرية في طريقها إلى التوازن
وعلم يرشد هذه القوة إلى طريق الاعتدال.
ليس التوازن في القوة الفكرية من الأشياء التي تمنحها المصادفة، ويكونها الاتفاق، وليس بالأمر السهل الذي تكفي في حصوله للإنسان خبرة قليلة وتجربة نادرة، لأنه توازن في كل ما يعتقد، وتوازن في كل ما يقول، وتوازن في كل ما يعمل، وأنى للقوة الفكرية بهذه الاستقامة التامة إذا هي لم تستعن بإرشاد العلم الصحيح، وأنّى للعقل بمفرده ان يبصر هداه في الطريق الشائك والمسلك الملتوي.
كلنا نتمنى التوازن العادل في طبائعنا والاستقامة التامة في سلوكنا، وأي أفراد البشر لا يتمنى الكمال لنفسه ولكن الجهل يقف بنادون الحد، وميول النفس تبعدنا عن الغاية، والعقل هو القوة الوحيدة التي يشيع فيها جانب التفريط بين أفراد الإنسان، وذلك من تأثير الجهل، فالجهل أول شيء يحاربه علم الأخلاق، لأنه أول خطر يصطدم به الكمال الإنساني، وأول انحطاط تقع فيه النفس البشرية، وأول مجرّئ لها على ارتكاب الرذيلة، بل هو أول خطيئة وآخر جريمة.
يرتكب الجاهل إخطاء خلقية تعود بالضرر على نفسه وقد يعود ضررها على أمة وشعبة أيضاً، وعذره في ذلك أنه جاهل، وإذا كان الفقيه لا يعد الجهل عذراً في مخالفة النظام الشرعي، فإن الخلقي أجدر ان لا يقبل ذلك العذر لأن الفقه اسلس قياداً والفقيه أكثر تسامحاً أما العالم الخلقي فإنه يطبق نظامه بعنف، ويقرر نتائجه بدقة، ولا يجد في المخالفة عذراً لمعتذر، ولا سيما إذا كان ذلك العذر أحد المحظورات الخلقية كالجهل.
وإذن فمن الرشد أن يكون العلم أول شيء يفرضه علم الأخلاق، ومن الحكمة ان يقول النبي العربي(ص) (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وأن يقول وصيه الإمام الصادق(ع): (إِني لست أحب ان أرى الشاب منكم إِلا غادياً في حالين: أما عالماً أو متعلما، فإن لم يفعل فرًط، فإن فرَّط ضيّع،فإن ضيّع أثم، فإن أثم سكن النار والذي بعث محمداً بالحق).
الشباب دور القوة والعزيمة، وعهد الطموح والرغبة، وزمان الجد والعمل والشباب دور تكامل القوى، وتوثب النزعات، وبعد ذلك كله فالشباب هو الدور الأول الذي يتسلم فيه الإنسان قيادة نفسه، ويختص به تهذيب خلقه وتثقيف ملكاته، ولعل المربي قد أساء الصنع بتربيته فأنجد في الطريق وأتهمت الغاية، ولعل البيئة أعدت غرائزه لما لا يحمد فأضافت إلى النقص نقصا، وجمعت النار حطباً، وللنفس في ظل الشباب أماني وأحلام، وللشاب دافع من الشهوة ومحفز من الطموح وقائد من العزيمة، والقوة كما قيل مبدأ شرور أو مصدر خيرات.
القوة أداة عاملة تثمر الخير وتنتج السعادة إذا دبرتها الحكمة، وقادتها المعرفة، وهي على الضد من ذلك إذا قادها الجهل، وحركتها العاطفة واستخدمتها الميول، أما العقل الذي عهد إليه باتباعه فهو لا يزال في عهد فتوة جديدة، وفي ابتداء سياسة مستحدثة، وهو في هذه الحكومة الفتية قليل الأنصار والجند، قليل التجربة والحنكة، وضعف الحاكم عامل قوي يتخذ منه الطائش مبرراً لعلمه، وينتهزه القوي فرصة لتحكماته، فكيف تكون نتيجة هذا الشاب المسكين، وما الذي ينتهي إليه أمره.
سيقسط في أخلاقه ثم يسقط، وسيخسر أعز شيء عليه في الحياة من حيث لا يشعر بألم هذه الخسارة لأنه يجهل وبالأخرى لأنه لا يحس.
والحل الوحيد لهذه المشكلة أن يجعل لعقل ذلك الشاب من العلم الصحيح مسعداً؛ ومن الحكمة الصالحة معيناً ليصبح قوياً بعد ضعف، وكثيراً بعد قلة، وعاملاً بعد خمود، على ان التجربة والوجدان ومقررات علم النفس تشهد بأن التعلم في السن الباكر أبلغ في التأثير وأعظم في الاستفادة.
ويقول الإمام الصادق(ع) أيضاً: ( لا يفلح من لا يعقل ولا يعقل من لا يعلم وبين المرء والحكمة نعمة العالم والجاهل شقي بينهما)[6] وهذه الكلمة على قصرها تتضمن نتيجة البحث وصفوة القول في المورد، ويقول أيضاً: (لوددت ان أصحابنا ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا) [7] أرأيت كيف يفرض العلم على أصحابه فرضاً، ثم يتمنى ان يستعمل القوة في تطبيق ذلك الفرض، ولكن العلم الذي يفرضه على أصحابه هو العلم الذي يأخذ بيد الإنسان إلى السعادة، ويرقى به إلى الكمال النفساني، ويقول في حديث آخر: ( كثرة النظر في الحكمة تلقح العقل)[8] .
شجرة كريمة المنبت؛ طيبة الإنتاج، نمت جذورها وزكت تربتها, ولكنها لا تأتي بالثمر الطيب إذا لم تسعف باللقاح المناسب؛ تلك الشجرة هي العقل؛ وثمارها هي الأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن، أما لقاحها فهو كثرة النظر في الحكمة؛ هكذا يقول الإمام الصادق(ع) في هذا الحديث، وهكذا يكون العلم هو اليد الأولى في تأسيس الفضيلة الأولى والساعد القوي الذي يمهد قاعدة الخلق الكامل.
ومن الجهل ما يسمونه بالجهل المركب وهو جهل يشبه العلم في الصورة وشؤمه على الإنسان أشد من الجهل البسيط، لأنه مؤلف من جهلين والجهل رذيلة كبرى إذا كان مفرداً فكيف إذا كان مكرراً والجاهل المركب عالم في اعتقاده وعمله صحيح في رأيه ولذلك فهو يرتكب الأخطاء ويعمل القبائح ولا يسمع نصح ناصح ولا يصده عذل عاذل.
ليقل القائلون ما شاؤوا وليخطئوه في عمله إذا أرادوا، وماذا عليه من نصح الناصحين وعذل العاذلين إذا هو أرضى عقيدته، وأقنع ضميره، أنهم هم المخطئون فيما يقولون.
بهذا يعلل الجاهل المركب أعماله وأخطاءه من حيث لا يعلم ان على عينيه منظاراً يلون له الحقائق وعدسة تقلب له الصورة ،من أين له بالمرشد الخبير الذي يعرفه ان هذا اللون الذي يراه هو للمنظار لا للحقيقة، وان الانقلاب إنما هو في العدسة لا في الصورة، لينكشف له الحق على صورته أوـ على الأقل ـ ليعلم أنه لا يعلم.
ويحدثون عن أحد الخبثاء أنه أشترى حماراً متأنقاً لا يأكل غير النبات الطري وان يبلغ به الجهد وأمض به الجوع، فأعيى صاحبه منه ذلك لأنه لا يجد النبات الطري في كل وقت فاحتال على الحمار وألبسه منظاراً كبيراً أخضر ثم قدم له مقداراً من التبن المبلول، فشرع الحمار يأكل واخذ صاحبه يضحك.
ليأكل الحمار من النبات الأخضر الطري في عقيدته وماذا عليه إذا رآه الآخرون تبناً أصفر مادام هولا يرى ذلك. أنهم واهمون وأنهم مخطئون.
لا يلام الإنسان إذا ارتكب عملاً فاسداً وهو يعتقد بأنه عمل صالح إذا هو لم يقصر في البحث، ولكن هذا لا يكفي لتثقيف نفسه وتهذيب ملكاته، وإذن فالعلم الذي يكون مصدراً للأخلاق الفاضلة هو الذي يوافق الواقع المعلوم، هو اليقين واليقين فقط.
نعم هو اليقين (الذي يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب) كما يقول الإمام الصادق(ع) وهو النور الذي قال فيه: (فإن كان تأييد عقله من النور كان عالماً وحافظاً) وهو الحكمة التي يقول فيها: (كثرة النظر في الحكمة تلقح العقل)[9] .
ومن آثار هذا اليقين اطمئنان نفس الإنسان وخلوده إلى السكون، والرضا في كل ما يعطى وفي كل ما يمنع، فإن: (من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي الناس بسخط الله ولا يلومهم بما لم يؤته الله)[10] .
الهوامش
[7] الكافي الحديث8 باب وجوب طلب العلم.
[8] تخف العقول ص89.
[9] أشرنا إلي مصادر هذه الأحاديث في الأبحاث السابقة.
[10] الكافي الحديث الثاني باب فضل اليقين.
المصدر
http://www.anwar5.net