العدل الفردي
العدل الفردي
للعدل الذي يوصف به الفرد مرتبتان تظهر أحدا هما في سلوك الشخص مع الناس الآخرين ومعاملاته معهم، فإذا أخذ الإنسان حقه كاملاًً وأعطى الغير حقه موفوراً سمي عند الخلقيين عادلاً ومنصفاً، وفي هذه الصفة يقول الإمام الصادق(ع): (سيد الإعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضي بشيء لنفسك إلا رضيت لهم بمثله)[1] .
ومن الناس من يتشاءم إلى حد بعيد من التشاؤم فيعد العدل في الإنسان مستحيلاً أو هو شيء يشبه المستحيل، فالإنسان وحش متمدين.
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة، فلعلة لا يظلم
ويذهب بعض هؤلاء المتشائمين إلى أكثر من هذا، فيقولون: (الظلم سر كامن في الطبيعة، فالنبات يعدو قويه على ضعيفه والحيوان يفتك كبيرة بصغيره والإنسان يستبد حاكمه بمحكومة) وهذه الفكرة وليدة عن القول بأن الإنسان شرير بالطبع والفلاسفة منقسمون حول هذا الرأي، والشرع يؤيد المذهب المعتدل في ذلك، ويجد الباحث المتتع شواهد كثيرة على ذلك من أقوال الإمام الصادق(ع).
لا ينكر المتشرعون شيوع الظلم بين أفراد الإنسان، ولكنهم يقولون: مصدر ذلك هو إهمال الغرائز النفسانية حتى تستبد بالحكم، وإعطاء النفس قيادها لتسير مع الأهواء بلا رقيب ولا حسيب، أما نفس الإنسان وغرائزه فهي مهيأة للمسير في طرق الخير وطرق الشر حسب ما يرتضيه له سلوكه وترسمه له أرادته واختياره، ولو تعاهد الإنسان غرائزه بالتهذيب والإصلاح لسارت نفسه على الهدى، وحقيقت له العدل بجميع معانيه، ولعل الحكيم العربي لا يريد أكثر من ذلك في بيته المتقدم.
والمرتبة الثانية من العدل الفردي تظهر في الفصل بين المتخاصمين بإعطاء الحق لصاحب الحق من غير حيف ولا تحيز, وعدالة القاضي هذه عند الإمام الصادق(ع) مظهر من مظاهر العدل النفساني لأنه يقول: ” من أنصف الناس من نفسه رضي به حكما لغيره “[2] وهذا أفضل ما يوصف به الحاكم العادل والقاضي المصلح، وهل يتصور التحيز في الحاكم إذا أنصف الناس من نفسه، وهل ينسب إليه الحيف إذا كان أحب الناس إليه وأبغضهم عليه أمام عدله بمنزلة واحدة؟ وإذا علمنا ان العدل في المعاملة يلازم العدل الخلقي العام وجدنا أن العدل في رأي الإمام(ع) سلسلة واحدة يتصل بعضها ببعض اتصالاً وثيقاً لا تفكك بين أجزائه.
أقول: ان العدل في رأي الإمام سلسلة واحدة، لأنه يشترط في الحاكم ان ينصف من نفسه قبل أن ينتصف أمن غيره، ثم يقول ان الإنصاف من النفس أشد الأعمال أو هو من أشدها، ويحدثنا عن أبيه النبي(ص): ” من واسي الفقير وأنصف الناس من نفسه فذلك هو المؤمن حقاً “[3] وقد عرفنا فيما تقدم أن المؤمن حقاً هو الإنسان الكامل الذي توازنت ملكاته واعتدلت أخلاقه، على أن اشتراط العدالة الشرعية في القاضي من المقررات الواضحة في المذهب الجعفري.
ثم هو يوضح ذلك إيضاحاً لا يقبل التشكيك حين يقول: ” اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين “[4] الحكومة حق خاص للولي العام، العالم بالقضاء والعادل الأول في المسلمين، فلا تجوز لغير العالم بالقضاء، ولا لغير العادل من المسلمين، هكذا يقول الإمام الصادق(ع) في صفة الحاكم، وهكذا يجب ان يكون.
الحاكم هو المثل للعدل الديني أو المدني في الحقوق والدماء، ومن الممتنع أن يمثل العدل جائر، والحاكم أمين الأمة على مقدراتها وأمين السلطة على رعاياها، ومن القبيح أن يؤتمن خائن، وإذا عجز الإنسان أن ينتصف لنفسه من نفسه، فهو عن إنصاف من غيره أعجز، وإذا كانت نفسه أول رافض لحكمه فإن غيره أولى برفضه وأحق برده، ولأمر ما حذرت الشريعة الإسلامية ان يصدر القاضي حكمه وهو غاضب.
ويقول الإمام الصادق(ع) ” لسان القاضي وراء قلبه، فإن كان له قال وان كان عليه أمسك “[5] أجل ان لسان القاضي من وراء قلبه، والله من وراء قلبه ولسانه، وكم يهدم القاضي من صرح، وكم يقوض من دعامة بكلمة يقولها غافلاً أو يصدرها غاضباً، وفي هذا الحديث تحذير شديد من التسرع والاستعجال، فإن الحكم الجائر يكون على الحاكم قبل ان يكون على المحكوم. والحكم العادل يكمون له قبل ان يكون للمنتصر.
أما الرشوة على الحكم …، أما بيع الضمير… والدين…، والقانون، واحترام النفس… ومقدرات الأمة… واعتماد السلطة، أما سحق جميع المقدسات بالقدم بازاء ثمن حقير يسمى بالرشوة فهو الدناءة في الهمة، والحقارة في النفس، والحياة للمجتمع، وهو السحت المحرم في كل نظام وعلى لسان كل مشرع، وهو الكفر بالله العظيم في قول الإمام الصادق(ع)[6] .
وللعدل عدو جائر قد يلبس ثوب الصديق، وهو التحيز والممالاة، فقد يجور المحاكم من حيث أنه يظن العدل، ويظلم من حيث أنه يعتقد الرحمة، وللحب القلبي والمظاهر الخارجية في ذلك أعظم الأثر.
من السهل على النفس إذا أجبت ان ترتكب ثم تعتذر، وان تفعل ثم تتعلل، لترضي الوجدان المكبوت، وتسلي العدل المرغم، وقد يخادع الضمير بتلك المعاذير فيقبل، ولكن العدل يسجلها صحيفة سوداء في ديوان الخائنين، والحاكم مسؤول عنها أمام الله، وأمام القانون الأدبي.
ومن هذه الناحية نجد فرقاً كبيراً بين عدل القضاء وعدل المعاملة، فإن الحب والميل القلبي قد ينافيان عدل القضاء لأنهما يثمران التحيز والمحاباة. أما العدل في المعاملة فإنه يزكو على الحب, ويتكامل على الود لأن المحب لا يجور على حبيبه، والصديق لا يظلم صديقه، وكثيراً ما بعث الحب على إيثار، ولعل هذا هو السر الأول في الحث على الحب الذي بالغت فيه الشريعة الإسلامية، وندب إليه أمناء الوحي، والذي يقول فيه الإمام الصادق(ع): ” هل الإيمان إلا الحب”[7] ، ويقول: ” ان المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشد هما حباًَ لصاحبه”[8] وللحب والصداقة بحث سيأتي.
الهوامش
[1] أصول الكافي الحديث الثالث من باب الأنصاف والعدل.
[2] الكافي الحديث12 الأنصاف والعدل.
[3] الوسائل كتاب الجهاد الحديث13 باب وجوب إنصاف الناس.
[4] الكافي الحديث الأول كتاب القضاء.
[5] الوسائل الحديث2 باب كراهة القضاء في حال الغضب.
[6] الوسائل كتاب القضاء الحديث8 باب تحريم الرشوة.
[7] الكافي الحديث5 باب الحب في الله.
[8] الحديث14 من مصدر المتقدم.
المصدر
http://www.anwar5.net