العدل الاجتماعي
العدل الاجتماعي
يولد الإنسان وينمو، ويترعرع ويشب، ويتقلب في أدواره، ويتنقل في أطواره، وهو في جميع هذه الأحوال جزء من المجتمع الذي أحاط به، والإنسان مدين للمجتمع في أكثر صفاته وشيمه، فهو الذي حدب عليه وليداً،و غذاه طفلاً وتعاهده بالتوجيه يافعاً، وهو الذي لقنه اللغة في طفولته ومهد له طريق التعلم في صباه، وهيئة أسباب المعيشة في شبابه، وهو الذي علمه كيف يفكر وكيف يعمل، وكيف يأخذ، وكيف يعطي.
أكثر خصال الإنسان عادات يكتسيها من بيئته، وأكثر غاياته ميول يرثها عن أسلافه، وأكثر علومه نتائج يقتبسها من مرشديه، والاجتماع هو الصلة المتينة التي تجعل المجتمع كالجسم الواحد الحي، وتجعل الأفراد كالأعضاء لذلك الجسم، يقوم كل عضو منها بما يخصه من الأعمال التي تصلح المجتمع، ولذلك فالأفراد مشتركون في الغاية ومتماثلون في الحقوق والواجبات، ورقي الفرد في شخصيته الاجتماعية بمقدار ما ينتج لهذا المجتمع من خير، وما يؤدي إليه من ثمرة طيبة، وسقوطه فيها بمقدار ما يأتيه من شر وعمل فاسد، وقد يتمادى عمل السوء ببعض الأفراد فيكون كالأعضاء الموبوءة التي يجب فصلها عني الجسم وقاية له من شرها.
المجتمع جسم حي مدرك، له حياته الخاصة، ولحياته نظامها الخاص، وهو يتصف بالتوازن والانحراف في سلوكه كما يتصف الفرد الواحد من الناس، والنظام الاجتماعي العادل هو الذي يكفل للمجتمع ولإفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات من غير تعد ولا تقصير، فإذا سار المجتمع على ذلك النظام العادل، وطبقه على سلوكه وسلوك أفراده سمي ذلك التوازن منه عدلاً اجتماعياً.
العدل الاجتماعي ان تسير الأمة إلى المثل الأعلى في الحياة وفي الأخلاق، وان تسعي ما أمكنها السعي إلى السعادة العامة والكمال المطلوب، وان تعد للإفراد طرق الوصول إلى الخير، فتنشئ المؤسسات الكافلة لخير البلاد والحافظة لخيراتها وتؤسس المعاهد الصالحة لأعداد الرجال وتثقيفهم بالثقافة الصحيحة، وان تتمسك بالأنظمة الشرعية الموجبة لحفظ الحقوق وسلامة النفوس، على أن تسير في جميع ذلك وفق النظام الصحيح، والحكمة الرشيدة التي يأمر بها العقل، ويقرها الشرع.
وتعاون أفراد الأمة وتضامنهم أعظم موجب لتحقيق هذا العدل وأبلغ مؤثر فيه، ويقول المتأخرون من الخلقيين إن المسؤول عن تحقيق هذه الغاية هي الحكومة التي تسيطر على الأمة وتتحكم في مقدراتها. أما أفراد الأمة فيقعون في الدرجة الثانية من هذه المسؤولية، ووظيفة الفرد هي مساعدة الحكومة في تحقيق الغاية بما يمكنه من الوسائل.
وهذا الرأي بين النقص لأن العدل الاجتماعي هو التوازن التام في سلوك المجتمع وسلوك أفراده، وتعاون الجميع على العمل في سبيل الخير واكتساب الصفات الخلقية المثلى، ونيل السعادة العامة، وهذا كله من مختصات المجتمع نفسه ومختصات أفراده، أما ما تقوم به الحكومة من إنشاء المؤسسات والمعاهد الصالحة فهم أحد مقدمات العدل الاجتماعي.
والإمام الصادق(ع) يرى ان الوسيلة الوحيدة لإنشاء هذا المجتمع المثالي هو إصلاح الأفراد وأعدادهم لأن يكونوا أعضاء صالحين، وتزويد كل فرد منهم بما يجب عليه للأسرة وللمجتمع، فإذا صلح الفرد وتهذبت الأسرة صلحت الأمة، وتوجهت إلى سبيل الخير والسعادة، وإذا أحتاج المجتمع بعد ذلك إلى شيء كان العدل الثابت للإفراد دافعاً لهم إلى التعاون والتضامن، وهذا هو المنهج الذي سلكه القرآن لإصلاح البشر وتهذيهم.
يقول الإمام(ع): (يحق للمسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمساواة لأهل الحاجة، وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله رحماء بينكم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم)[9] ويقول: (ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويها غير متعتع)[10] .
وقد سمعنا الكثير من إرشاداته للفرد، وسيأتي ما هو أكثر، وقد قال في ذلك أيضاً: (ان استطعت ان تخالط أحداً من الناس إلا كانت يدك العليا عليه فافعل)[11] والبلد العليا هي التي تبتدئ بالمعروف وتسدي الإحسان، وتؤدي حقوق الغير إليه كاملة، وقد سمعنا قوله: (سيد الأعمال ثلاثة: إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى بشيء لنفسك إلا رضيت لهم بمثله)[12] .
ويقول في تهذيب الأسرة: (إذا لم تجتمع القرابة على ثلاثة أشياء تعرضوا لدخول الوهن عليهم وشماتة الأعداء بهم وهي ترك الحسد فيما بينهم لئلا يتحزبوا فيتشتت أمرهم، والتواصل ليكون ذلك حادياً لهم على الألفة، والتعاون لتشملهم العزة)[13] وهو يتدرج في حديثة عن تآلف الأسرة تدرجاً طبيعياً، فأول مراحله هو نبذ التحزب والتفرق، وأهم أسباب التحزب هو الحسد، ولاسيما إذا كان الأقوياء فيجب نبذه لأنه يشتت الأمر ويفل الحد، والمرحلة الثانية هي التواصل والبر لأن التواصل يسبب الألفة والمحبة، وهذه هي المرحلة الثالثة وهي الأخيرة وواجب الأسرة فيها هو التعاون بين الأفراد في كل مهمة ليعيشوا أعزاء في جماعتهم وأفرادهم.
أما الحكومة وممثلها التام في عصر الإمام الصادق(ع) هو السلطان فإن الإمام يفرض عليه في إدارته: (حفظ الثغور وتفقد المظالم واختيار الصالحين لا عمالهم)[14] ويلزمه لرعيته: (بمكافأة المحسن ليزداد رغبة في الإحسان، وتغمد ذنب المسيء ليتوب ويرجع عن غيه وتألفهم جميعاً بالإحسان والإنصاف)[15] وللإمام فيما يشبه هذا كلمات كثيرة تحدد واجبات السلطان، ووظائف الأمراء وفروض الرعية.
وكل ما نستطيع ان نقوله عن هذه الكلمات وأمثالها إنها نصائح من الإمام(ع) يرشد بها خلفاء عصره ومن يشابههم في الحكم، ولا يسعنا ان نعتبرها رأياً للإمام في الحكومة المثالية التي ينشدها للمجتمع المثالي.
أما الحكومة المثالية في رأي الإمام فهي فكرة كبيرة ضعف قلب الزمان عن تحقيقها، وصغر الزمان عن احتمالها فطواها في مهدها يوم لف النبي (ص) في أكفانه، وبقيت أمنية مكبوتة في قلب الإمام الصادق(ع) وفي قلوب زعماء الإنسانية من آبائه وأبنائه، هي حكومة أسسها الله يوم أسس الدين، وشرع نظامها يوم أنزل القرآن، وسمى خلفاءها يوم بعث محمداً بالرسالة، وهي حكومة غرس النبي بذرتها يوم غرس التوحيد، وتعاهدها يوم تعاهد الأمة بالوصايا، ولست أقول إنه أثم العهد للخليفة الأول يوم الغدير، فهذا شيء قد لا يسيغه بعض القراء فقد تجاهله التأريخ من قبل هذا، وتجاهلته الأمة من قبل التأريخ، فقلبت النظام يوم انقلابها، وأسقطت من القائمة أسماء لتثبت مكانها أسماء.
نحن لا نتنكر للتأريخ حين يثبت ما كان وحين ينفي ما لم يمكن، ولكننا ننكر عليه حين يمده المؤرخ من وراء العقيدة وحين يمده من وراء السياسة، وكم لعبت السياسة في التأريخ أدواراً في عصوره الأولى، وتبعتها العقيدة على الأثر تمحو ما تمحو وتثبت ما تثبت، ولو قدر البقاء للدعاية الأموية الأولى بعد يوم الحسين(ع) ويوم الحرة لعفيِّ أثرهما في التأريخ.
لتبق هذه الحكومة المثالية أمنية مكبوتة في قلب الإمام الصادق(ع) وليسدل ستار الكتمان على عهد النبي الأخير، ولتتحول الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً بعد عهد الخلفاء الراشدين فإن هذا لا يقلل من سعي الإمام في تهذيب الأمة، ولا يضعف من دعوته إلى إنشاء المجتمع العادل.
الهوامش
[8] الحديث14 من مصدر المتقدم.
[9] الكافي الحديث15 باب حق المؤمن.
[10] الوسائل الحديث9 باب وجوب الأمر بالمعروف.
[11] الكافي الحديث14 باب حسن الخلق.
[12] أشرنا إلى مصدر الحديث فيما سبق.
[13] كتاب تحف العقول ص78.
[14] كتاب تحف العقول ص78.
[15] كتاب تحف العقول ص78.
المصدر
http://www.anwar5.net