العفة
العفة
يقول القدماء من علماء الأخلاق: الشهوة أول قوة يعرفها الإنسان في حياته، والغضب هو القوة الثانية، ويسمون الأولى قوة الجذب، والثانية قوة الدفع، وهم يؤسسون على هذا الترتب الوجودي بين القوتين نتيجة علمية لها أثرها في تهذيب الملكات وإصلاحها. يقولون ان الشهوة أول قوة يعرفها الإنسان، فيجب ان تكون هي أول قوة يباشر الإنسان في تهذيبها، ويقررون ان إصلاح الملكات على هذا الترتيب أسرع في الأثر وأسهل في الإنتاج.
ونحن نجد الإمام الصادق(ع) في بعض أخلاقياته يقدم ملكات قوة الشهوة على ملكات الغضب عند التعداد فقد سمعناه يصف لنا العدل فيقول: ” إذا غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المأثم وكفه عن المظالم ” ويقول: ” المؤمن من طاب مكسبه، وحسنت خليقته وصحت سريرته، وأنفق الفضل من ماله، وامسك الفضل من كلامه، وكفى الناس شره، وأنصف الناس من نفسه”[16] وسمعناه يقول ما يشبه هذا في كلمات أخرى، فهل يصح لنا ان نعد هذا تقريراً من الإمام لهذه النتيجة؟
ليس من الحق ذلك لأن التقديم في التعداد غير وجوب التقديم في التهذيب. على ان الإمام (ع) قد يقدم فروع الغضب في بعض أخلاقياته الأخرى.
الرذائل الخلقية جرائم فتاكة يجب دفعها عن النفس مهما أمكن الدفع وسموم قاتلة يلزم الحذر منها ما أمكن الحذر وجميع النقائص الخلقية في هذا الحكم على السواء، ولا فرق بين القوى منها والضعيف، والأول والآخر، والحكمة في تقديم بعضها على البعض مختلفة جداً.
من الناس من يكون قوي الإرادة حازم النفس، ومن الخير لهذا الصنف من الناس ان يبتدئ بإصلاح ملكاته القوية لأن تأخيرها مظنة للفساد الخلقي العام. هذا إذا لم يتمكن من إصلاح جميع ملكاته دفعة واحدة.
ومن الناس من يكون ضعيف الإرادة واهن النفس ومن الصواب له ان يبتدئ بإصلاح الضعيف من صفاته ليثمرِّن به على جهاد القوي. وهذا الرأي وان لم نجد فيه قولاً صريحاً للإمام الصادق(ع) إلا ان النظرة الفاحصة في أقوله تؤكد لنا ان هذا خلاصة مذهبه في تهذيب الأخلاق.
قد تستبد الشهوة وتشذ وتتمرد على حكم العقل، وتسيطر على قوة العمل فتسمي هذه الشهوة المتمردة شراهة، ويكون تمردها هذا انحرافاً في الخلق، ويتكون من إهمال الغريزة وإعطائها الحرية الكاملة فتصنع ما تريد، وللسعي وراء الملذات التافهة والشهوات الرذيلة أثر بالغ في تنمية هذا الشذوذ وتربيته، فإن حرية الشهوات تجعل الحر عبداً مملوكاً ” ومثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاًَ حتى يقتله”[17] والمراد من الدنيا في هذا الحديث هي شهواتها وملذاتها.
ومن البهائم قسم يشبه الإنسان في الصورة، ويلحق به في التعداد، وهو يناقضه في العمل ويباينه في السلوك، يرتكب مالاً ترتكبه البهيمة، ويعمل ما يخجل الإنسانية، ويعلل إعماله بأن الإنسان خلق ليكون حراً فليحطم كل قيد وليكسر كل غل، وليثر في وجه كل عادة ودين. الدين يقف في وجه الحريات فلينبذ، والعادات نجدد سلوك الإنسان فلتسقط، وأخيراً هي عادات غريبة يجب على المتمدين ان يسايرها وفقا للتطور ونبذاً للقديم.
مساكين هؤلاء قد سرى الاستعمار الغربي حتى إلى نزعاتهم، وأثر المستعمرون حتى في مجاري تفكيرهم، والمستعمرون دهاة مكرة يعرفون كيف يغزون عقول الضعفاء من طريق الشهوة ومظاهر الحرية ليأخذوا من قلوبهم كما أخذوا من رقابهم وأموالهم، وأنى لهؤلاء المساكين بأن ينقلوا عادات الغرب إلى الشرق، وأنى لهم أن يسايروا المتمدين في كل ما يعمل، وإذا كان في الغرب ساقطون يعملون مثل هذه الأعمال، فأن فيه عقلاء يترفعون عن الدنايا ويتنزهون عن الخسائس.
خلق الإنسان ليكون حراً في الفكر حراًَ في الحقوق، لا ليعبد الشهوات باسم الحرية، ويقلد البهيمة باسم نزع التقليد، ولا أقول أكثر من هذا لأنه لا يدخل في منطقة الباحث الخلقي.
وهنا لون من إفراط الشهوة، ولكنه لون أحمق ـ إذا صح ان نصف الألوان بالحماقة ـ أقول هو لون أحمق لأنه مشوه الغاية، مضطرب النتيجة، ولكنه رغم جميع ذلك شائع جداً، ولا سيما في الطبقة المترفة التي تدعي الرفعة، وتتولى رعاية الأمور، وهذا اللون هو تعاطي المسكرات.
أرأيت الإنسان بشحمه ولحمه يدخل الحانة ليهب عقله بلا ثمن، ويشتري الجنون منها بالمال؟ أرأيت من يساوم على مقدساته ومقدراته بهلة من الكأس ورشفة من العقار؟ أرأيت الإنسان يتمعك كما يتمعك الحمار، وينبح كما ينبح الكلب، ويعربد كما يعربد المجنون، ثم يدعي بعد ساعة أنه من رؤوس العقلاء ومن قادة المفكرين، وقد يتصدى لمهمات الأشياء ويتسلم مقاليد الأمور؟
هو في نشوة من سكره، ولذة من خياله، وماذا عليه إذا سلم ثمنها مضاعفاً من عقله، وماله وبدنه وراحته ودينه، فإنه يبيح جميع ذلك لنفسه، وماذا عليه إذا تمتم في كلماته، وتخاذل في حركاته، فإنها بعض نواحي اللذة، وأحد مظاهر الحرية التي ينشدها المتدينون من أمثاله، وليكن منزله جحيماً مستعراً للأسرة، فإن الحانة جنة له وارفة الضلال، وبعد فإنه يريد أن يتخلص من أرتاب الحياة فليتخلص من كل شيء يتصل بها.
ساعة شهية يستقبل فيها أحلامه وأوهامه ثم يفرغ ما في بطنه من خمر وما عقله من سكر، ثم يزاول أتعاب الحياة من جديد، وللعقلاء عليه أن ينظف ثيابه إذا علق بها شيء من أوساخ الطريق فماذا يريدون منه بعد ذلك. يتعلل المجانين بنظائر هذه العلل، وهل تكون علة الخيال إلا خيالاً، وهل يعتذر عن الجنون بغير الجنون؟
ومن هؤلاء من يترفع عن الحانات، ولكنه يتخذ من داره ماخوراً خاصاً لنفسه ولندمائه، فيشرب ويشربون بمنظر من فتاه وبمسمع من فتاته، ولعل فتاه هو الساقي ولعل فتاته هي المغنية، إنه فن… وإنه تسلية نفس… يا للسوء والجفاء… ويا للدناءة الخلقية، وإذا رضى الإنسان لنفسه بالنقيصة فكيف لا يقبل لعرضه بالدنية، وهل تبقي الخمرة فيه بقية من شعور ليميز بين الحسن والقبيح، والصحيح والفاسد…؟
عد على الفقراء من أمتك ببعض هذا الإسراف، وخصص شيئاً منه لمشاريع الخير، واحتفظ بالباقي ليومك العسير، وأفعل ما يفعله الرجل العظيم في نفسه القوي في إرادته، فستنال الذكر الجميل في الدنيا إذا كنت ممن لا يثق بالجزاء في الآخرة، كم رأيت من ثروة كبيرة دمرتها الخمرة، وجاه عريض لعبت فيه الكأس، وإذا كنت لم تشاهد شيئاً من هذا فإنك قد سمعت منه الشيء الكثير.
ومن هذه الألوان الحمقاء التي تغلب الغاية، وتعكس النتيجة تظاهر الشباب بمظاهر الأنوثة، وتصنع الفتى كما تتصنع الفتاة. هذا هو الداء الفاتك وهذا هو السم القاتل، ولو كان مختصاً بالشباب الفارغ الذي تعده الأمة كلاً ثقيلاً عليها لهان الأمر وسهل الخطب، لأن هذا النوع من الناس عار على المجتمع، ولكن … ولكن الداء استعضل، والنقص استفحل حتى عمّ الشباب المثقف الذي تعده البلاد ليومها الآتي، وتدخره الأمة لسعادتها المرجوة.
أقول ان الداء استفحل لأنه يهدد مستقبل النهضة، ويزعزع كيان الأمة، وهل تنهض الأمة بالمساحيق والمعاجين؟ وهل ينهض بالأمة شباب قتل الترف ما فيه من طموح وأمات السرف ما فيه من جد، وأخمد التأنث ما في دمه من جذوة؟
إيه أيها الشاب الناهض. إيه يا عدة اليوم القريب، وغرة وطرة، وخد وقد، وسحر وفتون، كل هذه الأشياء خلقت لغيرك أيها الناشئ العزيز، وإذا كانت الطبيعة قد منحتك شيئاً منها فهي تؤهلك لمقام أسمى، ومحل أرفع، لا لتجعلك متعة وفتنة.
خلقت لتكون محل إعجاب وثقة، لا لتكون مثار عاطفة وحب، ولتكون موضع غزل وتشبيب … وأخيراً فقد خلقت لتكون رجلاً.
هل تعلم كم في العيون التي ترنو إليك من نظرة خائنة، وكم في الابتسامات التي تستقبلك من ابتسامة مربية، وكم في الناس الذين يحومون حولك من قلب عابث. وأخيراً فهل تعلم أنك أنت الذي تجني بذلك على حاضرك الزاهي ومستقبلك الباسم. والشباب زهرة العمر ومستهل الحياة فهو أثمن من أن يقتل بتصفيف الطرة وصقل الغرة، وماذا يجنيه الشاب من تزجيج الحاجب وحلق الشارب غير إضاعة الوقت وتهديد المستقبل، فإلى السعي يا رجل الغد القريب، ويا أمل الأمة المنشود. إلى السعي فإن الرجل بثقافته وأعماله والرجل بسيرته وسريرته والرجل بجهاده في ميادين الحياة.
ولو أردنا ان نستعرض جميع الفروع التي تتصل بإفراط الشهوة لاحتجنا إلى مجلد ضخم، والإمام الصادق (ع) يذكر أكثر هذه الفروع في كلماته.
يشتد إفراط الشهوة فيتولد منه الحرص، ويقوى الحرص فيكون تهالكا في حب المال والجاه، وينتج منه التكبر، والرياء والتحاسد و. و. و…، والإمام الصادق (ع) يعرض جميع هذه الأدواء عرضاً إجمالياً حين يقول: (حب الدنيا رأس كل خطيئة )[18] أما الطمع الذي يثمر أكثر هذه النتائج فهو الذي يخرج الإنسان من الإيمان في رأي الإمام الصادق (ع)[19] وهي المذلة التي يقبح بالمؤمن ان تكون فيه[20] .
ويقول (ع) ( من كثر اشتباكه الدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها)[21] الشهوات مصادر الآلام، وهي أسباب تؤدي إلى التعب وفقد الراحة، فالشهوة سبب للألم قبل حصولها لأن تحصيل الرغبات يستدعي من الإنسان طويلاً من السعي وكثيراً من الجهد، وهي سبب للألم بعد وجودها لأن حصول الرغبة يثير الحرص في الإنسان على طلب نظائرها فيسلبه الراحة ويفقده الطمأنينة، والشهوة سبب للألم بعد فراقها لأن فراق المألوف يبعث الأذى ويسبب الألم، وكلما كانت الرغبة أكثر ملائمة للإنسان كان فراقها أشد ألماً في قلبه، وأكثر مضاضة في نفسه، وقد تعرض الإمام الصادق (ع) لهذه الناحية في حديثه المتقدم، أما الناحية الأخرى فإنه يقول فيها: (من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال: هم لا يفنى، وأمل لا يدرك، ورجاء لا ينال)[22] .
وإذا توازنت قوة الشهوة في ميولها، وخضعت للعقل فيما يحكم، وأتبعت إرشاده في كل ما يشير كانت عفة وحرية، والإمام الصادق (ع) يسميها عفة حين يقول: (أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج)[23] ويسميها حرية حين يصف صاحب الدين فيقول: ( ورفض الشهوات فصار حراً )[24] ثم هو يحدد بها معنى الزهد بقوله: (أزهد الناس من ترك الحرام )[25] ، وحين يسأله بعض أصحابه عن الزهد فيقول له: (ويحك حرامها فتنكبه) وهذه هي الدرجة الأولى من الزهد التي يشترك فيها عامة الناس، وللزهد درجات أخرى متفاوتة يختص بها قوم من المخلصين، أما الرهبانية وإرهاق النفس بالتعذيب المتواصل وحرمانها من الحقوق المحترمة فهي أمور ليست من الزهد. بل وليست من الدين في قليل ولا كثير.
الهوامش
[16] الكافي الحديث18 باب المؤمن وعلاماته.
[17] الكافي الحديث24 باب ذم الدنيا.
[18] كتاب الخصال للصدوق ص15.
[19] الكافي الحديث4 باب الطمع.
[20] الحديث1 من المصدر المتقدم.
[21] الكافي الحديث16 باب حب الدنيا.
[22] الحديث17 من المصدر المتقدم، ويقول المجلسي في كتاب مرآة العقول المراد بالأمل في الحديث هو الأمل في البقاء في الدنيا والرجاء هو الرجاء للذاتها.
[23] جامع السعادات ص311.
[24] مستدرك الوسائل ج2 ص379.
[25] الخصال للصدوق ص11
المصدر
http://www.anwar5.net