الكبرياء والتواضع

الكبرياء والتواضع

يتقابل الهران المتنافسان، فينتفش كل واحد منهما وينتفخ ويتطاول ويرتفع ليثبت لخصمه أنه أعظم قدرة وأشد صولة فإذا وقعت المصادمة خفيت المظاهر الكاذبة وظهرت الحقائق وشغل الخصمان بالواقع عن الخيال، وكانت الغلبة للقوة، فجرثومة التكبر ثابتة في غريزة الحيوان والإنسان، وإذا كان بينهما فرق من جهة فهو ان الحيوان يتخذ الكبر سلاحاً عند لقاء العدو والإنسان العاقل ينتفش وينتفخ لغير سبب يوجب ذلك، فالحيوان أعرف من أخيه بمواضع التكبر.

” ما من أحدٍ يتيه إلا من ذلَّةٍ يجدها في نفسه “[6] لماذا يتكبر الإنسان إذا كان كبيراً في نفسه، ولماذا يتعاظم إذا كان عظيماً في صفاته، أنه ـ من دون ريب ـ يجد في نفسه نقصاً محسوساً وضعة بيّنة، وهو يريد ان يتم ذلك النقص ويسد ذلك الفراغ بهذه العظمة المكذوبة، ولكنه بعمله هذا يضيف إلى نقصه الأول نقصاً أكبر منه، ويضم إلى ضعته الأولى ضعة أشد منه وإذا كان حب الذات يحجب عينيه عن ان تبصر شيئاً من ذلك فإن للناس الآخرين عيوناً غير محجوبة. ولعل في المساكين الذين يترفع عن القرب منهم ويأنف من النظر إلى أسمالهم من هو أشرف منه نفساً وأزكى عملاً وأطيب ذكراً.

ويتحدث الإمام الصادق عن المتكبر أيضاً فيقول: ” لا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس “[7] يعيش المتكبر ثقيل الظل على الناس جميعاً حتى على المتكبرين من نظرائه وإذا شك في ذلك فلينظر مقت الناس للمتكبرين الآخرين، وليتأمل في نفسه فإنه يجدها في عداد الماقتين لهم أيضاً، وليجعل ذلك مقياساً له ان كان ممن يعقل أو ممن يحب أن يكون عاقلاً، وإلا فليفقد العزة من حيث أنه يريد العزة، ومن نازع الله في ردائه فهو جدير بهذه العاقبة.

ليثق ان الناس لا يهمهم من أمره قليل ولا كثير، أما هؤلاء المتملقون الذين يظهرون له الانقياد والخضوع فهم دهاة مكرة، يقتنصون من ماله بهذا الخضوع ثم يسخرون من عقله ومن كبريائه، ولو تعاهد المسكين نفسه بغير طريق التكبر لبلغ العظمة النفسية الصحيحة ببعض هذا العناء.

الكبر مبدأ سلسلة من الجرائم، وفاتحة سجل من الآثام، وأية جريمة خلقية أو قانونية يتوقف المتكبر عن اقترافها إذا هي وافقت أمنيته، وأية فضيلة يسعى إلى اكتسابها إذا كانت تصادم رغبته أو تزاحم سلوكه، وبذرة الكبر ليست محدودة النتائج، ولا مأمونة العاقبة، فقد تثمر أشد أنواع الكبر وتوصل إلى أبعد مراحله إذا صادفت نفساً مرنة وجهلاً محفزاً.

يتكبر الإنسان على أخيه الإنسان لأنه فقير فيجره ذلك إلى التكبر على الله وقد يجره إلى الجحود والكفر وهي المرحلة الأخيرة من الكبر، ويقول فيها الإمام الصادق (ع) ” لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر”[8] والكبر هو الخلق النفساني الذي يتصف به المتكبر، والتكبر هو الأعمال التي تنشأ عن هذه الصفة النفسانية، وكما ان الكبر سبب لسقوط الفرد في الأخلاق فإنه سبب لانحطاط الأمة في الحضارة، لأن المتكبر يجد نفسه فوق كل أحد، ويرى ان مصلحته الخاصة مقدمة على كل شيء، وهو يحقد على الغير إذا أنكر عليه ذلك. فإذا شاع التكبر في الأمة نشأت الضغائن بين الأفراد، ودبَ الخلاف بين الجنود، وبعدت الشقة بين القادة، وأصبحت الأمة أمما متعددة بتعدد المتكبرين من أبنائها، وتفرقت كلمتها إلى غير اجتماع.

يغالط المتكبر إذا ادعى انه يحترم القانون، لأنه يعتقد ان ارادته أسمى من جميع مواده وفصوله، ولعه يحترم النظام حين يكون وسيلة لحفظ حقوقه الخاصة، ولعله يرى ان واجب النظام ذلك لا غير.

والفضيلة التي تقابل الكبر هي التواضع، وهي ان يحترم للناس حقوقهم ويعرف لهم منازلهم ومراتبهم، وأن يحتفظ لنفسه بمنزلتها الخاصة، فلا يجحد فضيلة لفاضل، ولا يحتقر شرفاً لشريف ولا يدعي لنفسه صفة كاذبة، فإن في الحقيقة غنى عن الخيال،وليس عليه وراء هذا ان يتنازل عن شيء من حقوقه لأحد من الناس.

من التواضع الممدوح ان يتسامح الإنسان في بعض الحقوق التي لا يضر فواتها بشرفه، ولكنه ليس يواجب. أما الحقوق الواجبة للنفس والتي يكون فوتها قادحاً في الشرف ونقصاً في المروءة فإن التنازل عنها ذلة يجب على الإنسان ان يتنزه عنها، وهي الرذيلة الثانية التي تقابل التواضع من جانب التفريط.

(من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وان تسلم على من تلقى، وأن تترك المراء وان كنت محقاً، ولا تحب أن تحمد بالتقوى)[9] وهذا الحديث يعرض أمامنا نوعين من التواضع:

1ـ التواضع في السلوك والأعمال وهو علاج التكبر.

2ـ التواضع في النفس وهو يقابل صفة الكبر فيها، وعلامة هذا التواضع أن لا يحب أن يحمد بالتقوى. قد يستعظم الإنسان نفسه،، أو يستعظم صفة من صفاتها، فيسمى معجباً، ويتطور العجب فيقيس المعجب نفسه بغيره، ويحكم لنفسه بالتفضيل ويطمئن إلى هذا الحكم فيكون كبراً، فالكبر تطور في العجب، وقد ينشأ الكبر أو التكبر من أسباب نفسية أخرى، ولكن العجب أهم مصادره وأعظم ينابيعه، والعلاج الصحيح لهذا الداء أن تستأصل البذرة، وأن تقتل الجرثومة وعلامة ذلك: (أن لا تحب أن تحمد بالتقوى).

الهوامش

[6] الكافي الحديث17 باب الكبر.

[7] الحديث16 من المصدر نفسه.

[8] الكافي الحديث7 باب الكبر.

[9] الكافي الحديث6 باب التواضع.

المصدر

http://www.anwar5.net

Loading