ميزان التزكية على لسان رسول الله صلى الله عليه واله
ميزان التزكية على لسان رسول الله صلى الله عليه واله
من هنا حدّد النبيّ صلى الله عليه واله للأمّة جمعاء ميزاناً لسيرهم وسلوكهم ولتحقيق هدف وجودهم بقوله المتواتر بين المسلمين: “إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض”.
إذاً الميزان الذي رسمه خاتم الأنبياء صلى الله عليه واله هو: الكتاب + أهل البيت عليهم السلام.
والمتأمّل في هذا الحديث لا سيَّما لعطف أهل البيت عليهم السلام على كتاب الله تعالى، يُدرك أنّ المراد الأساس من أهل البيت عليهم السلام هنا هو المتن الدينيّ ليكون هو الميزان والمعيار والمرجع لتحديد الحقّ من الباطل، فالمتن الدينيّ الأوّل هو كتاب الله، وهو كما تبيَّن سابقاً بحاجة إلى متمِّم له، والمتمِّم وهو السُّنَّة النبويّة المطهَّرة، وهذه السُنَّة المباركة بتفاصيلها الكاملة حفظت في الوعاء المطهَّر لأهل بيت العصمة عليهم السلام فهم حفَظَتُها وخزَنَتُها ومبلِّغوها، لذا كان من نافلة القول عند بعض علمائنا أنّ ما نُقل من طرق بعض أهل السنّة أنّ النبيّ قال: “إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وسنتّي” بدل “وعترتي” لا يبدِّل مقصود النبيّ؛ لأنّ سنَّته المباركة لا توجد إلّا في عترته الطاهرة.
الثّقَلُ الأكبر والثّقَلُ الأصغر
إذاً المراد من هذا الحديث المتواتر هو تحديد المتن الدينيّ الذي يكون هو المعيار والميزان والمرجع. من هنا نفهم السرَّ في وصف كتاب الله بالثّقل الأكبر، والعترة بالثّقل الأصغر في بعض نصوص حديث الثَّقَلين كالنص الوارد: “إني مخلِّف فيكم الثَّقَلين، الثَّقَل الأكبر القرآن، والثَّقَل الأصغر عترتي وأهل بيتي، هما حبل الله الممدود بينكم وبين الله عزَّ وجلَّ ما إن تمسكتم به لن تضلُّوا”.
فإرادة المتن الديني تفسِّر الوصفين الآنفين، إذ الآيات القرآنيّة هما الثَّقَل الأكبر وأحاديث أهل البيت (إضافة إلى أفعالهم وتقريرهم) هما الثَّقَل الأصغر.
حبل الله
ومن لطيف هذا الحديث، التعبيرُ عن هذا الميزان (الكتاب والعترة) بحبل الله، فإنَّ من شؤون الحبل أنّ يُتَمَسَّك به للنجاة، وأيضاً أنّ يُصْعَدَ بوساطته نحو الأعلى. وهذا يتناسب مع ما تقدَّم من الاستعمال القرآنيّ المكثّف لكلمتي الصّراط والسّبيل؛ فالحبل هو سبيل وصراط لكنّه عاموديّ وليس أفقيّاً، ولعلّ هذا التعبير بالحبل يحمل المعنى الأدبيّ الراقي للسير والسلوك باتجاه الكمال؛ إذ هو سير صعوديّ، يشترك مع السير الأفقيّ بالحركة المنطلقة من السائر، ويمتاز منه بأنّ المتمسك بالحبل قد يُرفع مع حبله ليصل نحو المبتغى، فتكون سرعة الوصول أكبر وأرقى.
سلام الله على أهل بيت العصمة حينما كانوا يقولون: “والله نحن الصّراط”.
وعلى كلٍّ، فإنّ الميزان الذي حدَّده رسول الله هو القرآن وأهل البيت، أو فقُل هو كتاب الله تعالى وسنُّة رسوله الأكرم المتمثِّلة بشكل أساس بأحاديث أهل بيت العصمة.
وعليه فإنّ السؤال عن ميزان التمييز بين السير الحقّ والسير الباطل، التزكية الصحيحة والتزكية الخطأ، يأتي جوابه من أحكام الدين والشرع الحنيف، الموجودة في الكتاب والسُنَّة، في القرآن والعترة.
فالشريعة الإسلاميّة المنبثقة من هذين المصدرين هي الميزان.
وتستمرُّ الأسئلة
وعليه، إن كان الجواب بأنّ الميزان هو الشريعة، كما تقدّم، فإنّ السؤال الأساس الذي طرحه من أراد جدّاً السير والسلوك وتزكية النفس، لا ينقطع عند المقطع السابق من الإجابة؛ لأنه قد يسأل بإلحاح: كيف لي أنّ أتعرَّف على هذا الميزان وهذه الشريعة بشكل واضح؟ فأهل البيت الشهداء بقيَّتُهم الأعظم غائب، ندعو الله بتعجيل فرجه ليكفينا مؤونة السؤال بل الأسئلة الكثيرة.
وأحاديث أهل البيت التي تشكّل مع القرآن المتن الدينيّ الكامل ـ بصفتها الحاكية عن السُّنَّة النبويّة المطهّرة ـ منتشرة في مئات الكتب التي تزخر بها المكتبة الإسلاميّة، فكيف لي أنّ أتعرَّف، من خلال هذا التراث الضخم، على ما صحّ من الأحاديث الواردة عنهم وأن أقارن بينها، لأتعرّف على الشريعة الحقّة بموضوعيّة ومنهج سليم؟
الجواب
إنّ من الواضح أنّ هذا الأمر يتسنَّى ويتحقّق لمن تخصَّص في دراسة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، بعد أنّ حصَّل المقدِّمات العلميّة التي تحتاج هذه الدراسة إليها، فوصل إلى مرحلة تمكِّنه من فهم الشريعة برؤية واضحة، بعد ذلك الجهد العلميّ الكبير الذي خاضه للوصول إلى هذه النتيجة، وهذا الإنسان المتخصّص هو الذي يُسمَّى بالفقيه والمجتهد.
وقد أُسِّست الحوزات العلميّة الشريفة بهدفٍ أساسٍ هو التخصُّص في هذه الدراسات لفهم الإسلام، وبالتالي تخريج الفقهاء.فالفقيه المجتهد يحمد الله تعالى على توفيقه الكبير لوصوله، من خلال نتائج اجتهاده، إلى معرفة الميزان الذي من خلاله يميِّز السلوك الحقّ من السلوك الباطل.
معرفة الميزان عند غير المجتهد
ولكن يا ترى ماذا يفعل بقيّة الناس الذين لم يصلوا إلى مرحلة الاجتهاد ـ وهم الأكثر ـ ليتعرّفوا على هذا الميزان، لا سيَّما في الموارد التي لا يستطيعون فيها الاحتياط ـ؟
إنّ الجواب المنطقيّ والذي بنيت عليه السيرة الاجتماعيّة العقلائيّة هي أنّ من لم يتخصّص في تلك الدراسات التي يتوقّف عليها فهم الإسلام والشريعة المطهَّرة، عليه أنّ يرجع إلى المتخصّص فيها، ويعتمد عليه في نتائجه التي توصَّل إليها.
وكما يقول الشهيد السعيد محمّد باقر الصّدر: “كل مكلّف يريد التعرّف على الأحكام الشرعيّة يعتمد أوّلاً على بداهته الدينيّة العامّة، وما لا يعرفه بالبداهة من أحكام الدين يعتمد في معرفته على المجتهد المتخصّص، ولم يكلف الله تعالى كلّ إنسان بالاجتهاد، ومعاناة البحث العلميّ من أجل التعرّف على الحكم الشرعيّ توفيراً للوقت وتوزيعاً للجهد الإنسانيّ على كلّ حقول الحياة، كما لم يأذن الله سبحانه وتعالى لغير المتخصّص المجتهد بأنّ يحاول التعرّف المباشر على الحكم الشرعيّ من الكتاب والسُّنَّة، ويعتمد على محاولته، بل أوجب عليه أنّ يكون التعرُّف على الحكم عن طريق التقليد والاعتماد على العلماء المجتهدين”.
معرفة الميزان عبر التقليد
إذاً طريق الفقيه إلى معرفة الشريعة التي هي الميزان هو اجتهاده واستنباطه، وطريق غير الفقيه إلى معرفة هذا الميزان هو تقليده الفقيه في نتائجه التي توصَّل إليها.
من هنا كان توجيه أهل البيت نحو تقليد الفقهاء.
فعن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: “فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامِّ أنّ يقلِّدوه”.
ومن هنا ـ أيضاً ـ نفهم سرّ تأكيد أهل البيت على مكانة العلماء والفقهاء ودورهم.
فعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: “من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا، فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبَوْناه به، جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يضيء لأهل تلك العرصات وحُلّةٌ لا يقوم لأقلِّ سلكٍ منها الدنيا بحذافيرها، ثمّ ينادي منادٍ: هذا عالم من بعض تلامذة آل محمّد، ألا فمن أخرجه في الدنيا من حَيْرة جهله، فليتشبَّث بنوره ليخرجه من حَيْرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان”.
ومن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ﴾.
إلى قوله: ﴿وَالْيَتَامَى﴾.
قال الإمام عليه السلام: “أما قوله عزَّ وجلَّ: وَالْيَتَامَى فإنّ رسول الله قال: حثَّ الله تعالى على بِرِّ اليتامى لانقطاعهم عن آبائهم، فمن صانهم صانه الله ومن أكرمهم أكرمه الله ومن مسح يده برأس يتيم رفقاً به جعل الله تعالى له في الجنّة بكلّ شعره مرّت تحت يده قصراً أوسع من الدنيا بما فيها، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلَذّ الأعين، وهم فيها خالدون”.
قال الإمام عليه السلام: “أشدُّ من يتم هذا اليتيم يتيمٌ انقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يُبتلَى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا فهدى الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا، كان كمن أخذ يتيماً في حِجْره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى، حدّثني بذلك أبي عن أبيه عن آبائه عن رسول الله”.
خلاصة ما تقدّم
إنّ الميزان والمعيار لتحديد السير الحقّ من السير الباطل، ولمعرفة الطريق الحقّ لتزكية النفس يتمثّل بالشريعة المنبثقة من القرآن الكريم والسُّنَّة الطاهرة والتي ظهرت في أحاديث أهل البيت الحاكية عن سُّنّة جدِّهم الأعظم وأنّ طريق الوصول إلى هذه الشريعة لعامّة الناس هو اتّباع الفقهاء المتخصّصين في دراسة هذه الشريعة، وذلك بالالتزام بالأحكام الشرعيّة، وهي ما يُطلق عليها وتُسمَّى بـ”ظاهر الشريعة”.
الميزان = ظاهر الشريعة
إنَّ أيّ انحراف عن الأحكام الشرعيّة هو انحراف في السير والسلوك، وإنَّ أيَّ مخالفة لظاهر الشريعة في بداية السير والسلوك أو أثنائه هو انحراف عن سبيل الله وعن صراطه المستقيم.
ميزان السير والسلوك على لسان الإمام الخمينيّ
وهذا ما أكَّده العارف الكبير والفقيه المتألِّه الإمام الخمينيّ حنيما قال: “واعلم… أنّ طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهيّة لا يمكن إلّا بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدّب الإنسان بآداب الشريعة الحقّة لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أنّ يتجلّى في قلبه نور المعرفة، وتتكشف العلوم الباطنية، وأسرار الشريعة، وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه، سيستمرّ أيضاً في تأدبه بالآداب الشرعيّة الظاهريّة”.
ويتابع الإمام الخمينيّ ما رسمه من ميزان فيقول: “ومن هنا نعرف بطلان دعوى من يقول: (إنّ الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك العلم الظاهر)، أو (إنّه وبعد الوصول إلى العلم الباطن ينتفي الاحتياج إلى الآداب الظاهريّة).
وهذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانيّة”.
ويطبِّق الإمام هذا الميزان على العبادات التي دعا الله تعالى إليها فيقول في عبادة الحجّ العظيمة: “هي رأسمال من أُفق التوحيد والتنزيه، وسوف لن نحصل على النتيجة ما لم ننفّذ أحكام وقوانين الحجّ العباديّة بشكل صحيح ولائق وشعرة بشعرة”1.
الهوامش
1-كتاب السير والسلوك/ الشيخ أكرم بركات.
المصدر
www.almaaref.org