المبادئ الإنسانية ثوابت إسلامية في الحرب والسِّلْم
قال الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}، صدق الله العلي العظيم.
من الأمور الهامة التي أكد عليها الإسلام غرس نوازع الخير والإنسانية والسلام في أعماق نفس الإنسان المسلم، فالنفس البشرية لها انطلاقتان، انطلاقة ذاتية تدعو إلى تأكيد الذات في قبال المبادئ والقيم وفي قبال السماء، وقد استعرضت أكثر من مرة أن ثقافة الأرض وثقافة الجاهلية تنطلق من مبدأ توكيد الذات وعلوها في قبال العلو والكبرياء والهيمنة لله تبارك وتعالى.
أثر الدوافع الذاتية في هتك حقوق الإنسان.
الدوافع الذاتية وهي التي تدعو إلى توكيد الذات، هذه الدوافع تدعو الإنسان إلى الانتقام، وسحق إنسانية الطرف الآخر.
دور الدوافع الإلهية في احترام كرامة الإنسان.
بينما الدوافع الإلهية دوافع تدعو إلى القيم واحترام إنسانية الإنسان, والطرف الآخر بغض النظر عن انتمائه العقدي, ونجد من خلال النصوص الإسلامية توكيداً على مسألة الجانب الإنساني في شخصية الطرف الآخر، وأنه لا ينبغي للإنسان حتى الداعي إلى الخير أن يخلط بين النزعتين في الوصول إلى مآربه، بل عليه أن يجعل المنطلق والوسائل التي من خلالها يصل إلى الهدف، من المنطلقات والوسائل التي تدعو إلى توكيد الجانب القيمي السماوي والإلهي في قبال سحق ما يمكن أن يدعو إلى الاستعلاء والكبرياء، ومن هنا نجد نصوصاً متعددة في مدرسة أهل البيت (التي تمثل بصدقٍ وحق ما يرتئيه الإسلام في الجانب القيمي) هذه النصوص كلها تؤكد الجانب الانساني في المنطلقات الدعوية، بل وحتى في الجانب الجهادي، وهو من الجوانب التي إذا حمي الوطيس ودخل الإنسان في سوح الوغى والحرب، يريد أن يتغلب على خصمه بأي مبرر من المبررات، بينما نجد النصوص الإسلامية تمنع التغلب على الخصم بمبررات غير إنسانية، وتجعل الخصم دائماً وأبداً تُحْتَرم إنسانيته، ويُتحاور معه من خلال التأكيد على الجانب الإنساني، ففي إحدى النصوص الواردة عن علي عليه السلام, يقول في أحدها: (( بعثني رسول الله إلى اليمن فقال: يا علي, لا تُقاتِلنّ أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وإيمُ الله لإن يهدي بك الله رجلاً خير لك مماطلعت عليه الشمس )) إذا نلاحظ هاهنا.
أولاً: أن المبدأ في الدعوة إلى الإسلام يتمركز ليس من خلال منطق القوة، أي إذا كنت تمتلك موازين القوة فتحاول أن تحكم تلك الموازين لإذعان الخصم بإتباع المنهج الذي تؤمن به، بل من خلال مبدأ السّلم والدعوة إلى الخير وإغفال النوازع الذاتية بتغليب نوازع السلام والمحبة والإنسانية، ونجد في هذا النص ((لاتقاتلن ياعلي)) أي لا تستخدم منطق القوة في دعوة الغير إلى الآراء والمعتقدات التي تؤمن بها وإن كانت حقاًّ، بل حاول أولاً أن تدعوه إلى الخير، وذلك أن الدعوة تتمركز في إيصال الإنسان إلى الخير, والذي سيعود إلى الداعي بالخير.
ثانياً: يبلور النبي صلى الله عليه وآله في كلماته لعلي عليه السلام هذا المعنى بإيضاح في غاية العمق، وهو أن تلك الدعوة أفضل بكثير مما يتصوره الإنسان في تحقيقه لمبدأ الغلبة بامتلاك الجانب المادي، ولذا يقول صلى الله عليه وآله مقسماً: ((وإيمُ الله لإن يهدي بك الله رجلاً خير لك مماطلعت عليه الشمس))، أفضل لك يا علي من أن تكون لك الدنيا ومافيها تحت إمرتك، حيث أن الإمرة تسيطر بها على جوانب مادية، ولكن الجانب المعنوي بما يمثله من قيمة يريد الله تبارك وتعالى إيصال الإنسانية إليها هو أعظم وأكبر.
أهداف تشريع الجهاد في الإسلام.
الأول: إزالة الظلم وتحكيم العدل.
الثاني: وهو الأسمى والأعظم, إيصال الإنسان إلى الخير و الهُدى.
هذان الهدفان ساميان وعظيمان، ولكن لا ينبغي أن يكون المجاهد في سبيل الله الموصل للغير إلى الهدى والخير, يجعل نفسه تقع – والعياذ بالله – في مستنقع الرذيلة والشر, لتحكيم النوازع الذاتية على نوازع الهدى والخير، هذا ما تقوله مدرسة الإسلام من خلال النصوص الواردة والشارحة لهذه المدرسة عن أهل البيت عليهم السلام0
كيفية الدعوة إلى الإسلام:
ويبين إمامنا السجاد عليه السلام معنى وكيفية دعوة الطرف الآخر في حالة الحرب إلى السلم والهدي والأخذ بالإسلام، يقول إمامنا زين العابدين عندما تدعو الطرف الآخر إلى الإسلام:
أولاً: بيان حقيقة التوحيد.
عليك أولاً أن تشرح له حقائق التوحيد، أي تبين له أن الله تبارك وتعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً.
ثانياً: بيان حقانية رسالة النبي صلى الله عليه وآله.
ثم تبين له حقانية الرسالة التي صدع بها النبي صلى الله عليه وآله, وأنها الرسالة الحقة, وأن ما عداها ليس بمستواها، بل إذا عارضها يكون هو الباطل وما قاله الله تبارك وتعالى وماقاله النبي صلى الله عليه وآله هو الحق، فإذا آمن الطرف الآخر بما دعوته إليه, فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، هذه مبادئ الدعوة الإسلامية، وليست مبادئ تنطلق من النوازع الذاتية التي تدعو إلى الغلبة بغض النظر عن مبدأ الهداية إلى الله تبارك وتعالى, ومبدأ احترام الجانب الإنساني، ولذلك لاحظنا في النص الذي استهللنا به حديثنا, وهو قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}, توكيداً على مبدأ الأمان، إذ أنه عندما تدعو المشرك ليستمع إلى كلام الله تبارك وتعالى، فلو أن المشرك كان من رؤوس الكفر والمعارضين للدعوة, ثم أوصلته إلى مأمنه, فإنك ستحتمل الضرر الكبير، إلا أن الإسلام لا يجيز لك الاعتداء عليه تحكيماً لمبدأ المواثيق والعهود واحترام الجانب الإنساني، ثم يبين الإسلام بأن إتباع هؤلاء الذين لا يؤمنون بالإسلام للباطل ناتج عن عدم العلم والمعرفة، ولو توصل هؤلاء إلى قيم الإنسانية الموجودة في الشريعة الإسلامية, لاتبعوا هدي الإسلام وإنسانيته، ولذلك الله تبارك وتعالى يقول : {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} إذ أن علم الإنسان بما في الإسلام من الخير يدعوه لإتباعه, لقوة الجذب لمنطلقات الإنسانية والخير والعدالة في الإسلام.
الأمن واحترام الإنسان في الإسلام.
ثم تؤكد النصوص على مسألة الأمن واحترام الإنسان، حتى إذا كان الإنسان في حالة الحرب, من خلال المبادئ والنصوص التي جاءت في والروايات.
الأول: في حالة الحرب إذا طلب الجيش المحارب للمسلمين الأمان، فلم يصدر الأمان من القائد العسكري، وإنما صدر من أحد الجند وفي تعبير الرواية من أدنى شخص في الرتبة العسكرية للجيش الإسلامي، فعلى الجيش أن ينصاع بأكمله لهذا الأمان, الذي قدمه أحد جند المسلمين, لاحظوا! هذا جانب يحترم مسألة المواثيق والعهود والسلام والجانب الإنساني، مع أن المسلمين في حالة القوة ويستطيعون أن يحسموا المعركة ويكسبوا النصر, ولكن تقديم الأمان من أحد المسلمين لطلب المحاربين ، وإن كان من أقل المراتب العسكرية في الجيش الإسلامي، على الجميع أن ينصاع وأن يسلم لهذا الأمان.
الثاني: إذا حاصر المسلمون مدينة من المدن حالة الحرب, فطلب أولائك المحاصَرون من المسلمين الأمان ، فقال المسلمون لا أمان لابد أن تنصاعوا، فظن أولائك المحاصرون أن المسلمين أعطوهم الأمان، تصوروا أن الموقف الإسلامي في هذه الحالة! أن على المسلمين أن يراعوا ذلك الاشتباه الصادر في سماع المحاربين للمسلمين في أنهم ظنوا أنهم سمعوا الأمان فألقوا السلاح، فجعلوا المسلمين يدخلون بلدهم، عليهم أن لا يحاربوا ولا يهدروا دماً, وذلك احتراماً للأحاسيس والمشاعر, والجانب الإنساني للطرف الذي ظن أنه تلقى أماناً فلم يقاوم بالسلاح، فعلى الجيش الإسلامي وعلى المسلمين بالرغم من أنهم في حالة حرب أن يحترموا مشاعر الغير, وأن يجعلوا الأمن والأمان, والمنطلق في تحكيم النوازع القيمية والسماوية والإنسانية هي المحكمة.
الثالث: نجد في النصوص الاسلامية أنه إذا ائتمن شخصٌ من المسلمين رجلاً من غير المسلمين, وكان هذا الشخص الذي اُئتُمِن من الأشخاص الذين لا يمتلكون الخير إذا صح التعبير, أي أنه من السيئين من الذين قد طلبوا في تحكيم العدالة في شخصيتهم, أو على حد تعبير الرواية الورادة كان من أهل النار، والمؤتِمن يعلم بأن المُؤْتَمن من أهل النار, لكنه أعطاه الأمان، ثم خاس بأمانه, أي نقض الأمان, فقتل ذلك الشخص ، فإن موقف النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل البيت من ذلك الشخص الذي أعطى أماناً لشخص يستحق العقاب الإلهي, وهو ليس من الأسوياء, بل من غيرهم من الذين يستحقون التعذيب بالنار، لكن الشخص الآخر السوي أعطاه أماناً, ثم نقض أمانه, فالنبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل البيت عليهم السلام يتبرؤون من هكذا شخص, في النصوص الشرعية الواردة عندنا: (( فأنا منه بريء وإن كان ذلك الشخص المعطى للأمان يستحق النار)).
إذاً الثقافة الإسلامية مبنية حتى في المنطلقات الداعوية والجهاد في سبيل الله على تحكيم منطق القوة، بل هذه الثقافة تدعو دائماً إلى قوة المنطق, أي أن الإسلام يؤمن أن ما يقوله من خير هو الأحق بالإتباع، وأن الطرف الآخر إذا استمع إلى هدي الإسلام وإلى مبادئه، التي هي مبادئ الخير والرفاه والعدالة, فإنه بشكل طبعي سينضوي تحت راية الإسلام، فالإسلام يمثل بصدق وحق وإنسانية احتراماً للعهود والمواثيق والقيم .