دعائم الحرية في النظرية الإسلامية

قال الله تعالى في القرآن الكريم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } صدق الله العلي العظيم.

نبارك للأمة الإسلامية جمعاء الميلاد الميمون للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله. هذا النبي الذي جسد كل معالم العدل والحرية للبشرية جمعاء، ويَحْسُنُ بنا في ذكرى ميلاده أن نتذكر درساً من الدروس التي أرسى صلى الله عليه وآله دعائمها، وهذا الدرس يرتبط بالحرية في حياته صلى الله عليه وآله والتي انعكست على الأمة الإسلامية أولاً ومن ثم البشرية جمعاء، ولكي يتضح لنا هذا الدرس الكبير في الحرية، لابد أن نُلم بما حصل على الإنسانية إلى يوم الناس هذا.

دور الظلم في طمس حقوق الإنسان:
إذا ألقى الإنسان نظرة عابرة على ما حصل في التاريخ الماضي إلى يومنا هذا سوف يجد أنّ الظلم الذي يتحمله الإنسان ويقع عليه من أخيه الإنسان هو أعظم بأضعاف متعددة من الظلم الذي تسببه الكوارث الطبيعية كالبراكين والزلازل. لأنّ هذا النوع من الظلم تسبب في جعل الملايين يموتون بالفقر والفاقة كما أن البعض الآخر الذين عاشوا لم يستطيعوا أن يتذوقوا طعم الحياة وأن يهنؤا بالعيش. أي أن الكثير من الشعوب التي عاشت في الماضي وتعيش في الحاضر لم تهنأ برغد العيش، وذلك يعود إلى الظلم الذي مارسه الإنسان تجاه أخيه الإنسان.

دور العبادة لله في تحقيق الحرية:
من هنا نجد أنّ الثقافة التي أرساها المصطفى صلى الله عليه وآله انعكست على عامة الناس بحيث أصبحت حديث الشارع في زمن النبي صلى الله عليه وآله وإلى هذا الزمن. فمن يطلع على الثقافة الإسلامية يجد أنها تمثل الجانب النظري في حياة المسلم،وأما في الجانب التطبيقي فنجد أن المسلمين – كغيرهم من الأمم – لم يُفعِّلوا تلك الثقافة في واقعهم، وأخذوا بالإسلام كنظرية وليس كتطبيق عملي على واقعهم المعاش، إذاً حديثنا يرتبط بالجانب النظري من الفترة الزاهرة للنبي صلى الله عليه وآله ، التي أشاد فيها دعائم تلك الحرية وأوضح الملامح العامة لها، فذلك الإنسان العربي الذي لم يعرف غير الظلم كان يدعو الشعوب والأمم الأخرى، إلى عبادة الله وترك عبادة الإنسان، أي أنّ الدين الإسلامي أوجز رسالته في إخراج البشرية من عبادة الأصنام والأوثان، وأيضاً في إخراجهم من عبادة الإنسان إلى عبادة الله، التي هي مقدمة لحرية الإنسان الداخلية،وبالتالي تنعكس على حريته في الخارج، وتوصله إلى رشده كفرد والأمة إلى كمالها كمجتمع.

أهمية احترام كرامة الإنسان:
إننا لا نجد لدى الفلاسفة والمفكرين ومنذ غابر التاريخ من العمق كما نجده في الثقافة الإسلامية، ويتجلى ذلك في آي القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله التي تشجب الظلم وتؤكد على إرساء دعائم العدل والكرامة للإنسان، فالله تعالى عندما يقول (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ))، فهو يشير إلى نقاط ذات أهمية بالغة هي:
الأولى : أنّ الفرد – الذي ينضوي تحت دائرة الإنسانية – مكرم من قِبَل الله، بغض النظر عن اللون أو العِرق أو الثقافة أو التفكير أو المعتقد .
الثانية : إنّ الإنسان كريم على الله، والذُّل الذي يصاب به إنما ينبثق من لدن الإنسان الآخر ومن ثقافته الاستبدادية التي لا تأخذ بمنهج الله، ولكنها تسير وفق مصالحها الشخصية. أما منطق النبي صلى الله عليه وآله الذي كان يؤكده في أحاديثه فهو احترام كرامة الإنسان، وهذا لم تدركه البشرية آنذاك، ولذا نجد الفارق الجوهري بين ما أوجده النبي صلى الله عليه وآله وما أوجده غيره.
الثالثة : إنّ كون كرامة الإنسان هي أساس دعامة الحرية قد أبانها القرآن من خلال الآية السابقة، بينما نجد القليل من المفكرين والفلاسفة في العالم ممن توجه إلى ذلك مؤخراً، بعد قرون وسنين متطاولة، أُثقِلَ كاهل البشرية بالظلم الفادح .ولذا، نجد في المقدمة الأولى لإعلان حقوق الإنسان: إنّ احترام كرامة الإنسان بغض النظر عن عرقه ولونه ومعتقده يُشكِّل أساساً لحريته .
الرابعة : إن هذا التكريم ربطه القرآن الكريم بالإيمان بالله تبارك وتعالى، أي أن تكون رِقاًّ وعبداً للواحد الأحد، يقول إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام: (( لا تكُن عَبدَ غَيرِكَ وقد جعلك الله حُراًّ ))، أي أنّ الله أوجد الإنسان وهو يتمتع بكافة حقوقه التي منحه الله إياها، وليس لأي إنسان حق في أن يسلبها منه أو يمنحه إياها،لأنه لا يملكها، ولذلك عندما يطالب الإنسان بالحرية والعدل فإنما يطالب بذلك الحق الإلهي الذي أوجده الله مقترناً معه ولا ينفصل عنه.

معوقات الحرية الإنسانية:
إنّ العمق الفكري والعقدي للإسلام استطاع أن يُقوض مبدأ رقية الإنسان للآخر. بينما الفلاسفة والمفكرون الذين رأوا أنّ حياة الإنسان لا يمكن أن يتحقق فيها العدل، وذلك لوجود تناقضات داخلية غير قابلة للحل وهي :
الأول : التناقض بين أفراد النوع الإنساني في أفكارهم وثقافتهم.
الثاني : اختلاف المصالح بين هذا الفرد وذلك الفرد، وبين الفرد والأمة، و بين الأمة والأمة. بينما نجد أنّ الإسلام لم يجعل تميزاً لأمة على أخرى ولا لفرد على آخر،قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ألغى الميزات التي يفتخر بها الإنسان لتقدمه مثلاً في جانب الفن أو الفكر أو غيرها من الامتيازات، وجعل تقوى الله والسير في صراط عبوديته هي المائز الأوحد.
الثالث : اختلاف الناس في تشخيص المنهج الموصل إلى الخير. بينما الإسلام ألغى ذلك، ولم يجعل هذا التشخيص بيد الإنسان، وإنما جعل تحديد ذلك كله بيد الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}.
الرابع : امتلاك الإنسان للقدرات الكبيرة التي يستطيع بها أن يقلب الحقائق، وأن يجعل الحق باطلاً والباطل حقاًّ كما نشاهده في العصر الحاضر، ودور وسائل الإعلام في قلب الحقائق. بينما نجد أنّ الإسلام قام بالمعالجة الجذرية للظلم والتأكيد على مبادئ العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، ليس في الجانب الاقتصادي فقط،بل في كل الجوانب والنواحي، فلا يحق لأمة أن تستخدم القدرات التي تتمتع بها في قِبَال أمة أخرى بحيث تجعل الباطل يغلب الحق حتى تصل إلى مصالحها، وتقدمها على المصالح العامة للمجتمع البشري ككل.
الخامس : عدم وجود حد لكمال الإنسان، أي إنّ الإنسان غير محدود في كماله، ولذلك تجدون البشرية على مستوى الأمم والأفراد تتطور وتترقى إلى الأمام من دون الوصول إلى حد تقف عليه. وهذه الأسباب الخمسة التي أوضحناها هي أسباب رئيسة في جعل مبادئ العدل غير سائدة، وجعل الظلم يتجذر في نفوس الأفراد والأمم.

منهج الوصول إلى الحرية:
القرآن الكريم أكد على أنّ الوصول إلى الحرية من خلال أمرين لابد أن ينظر إليهما الإنسان على حدٍ سواء :
الأول: الحرية مبدأ يجب على الإنسان أن يصل إليه وهو يرتبط بالله تبارك وتعالى، ولكنه مرتبط من جهة أخرى بوجود تضاد كما أشرنا، وهذا التضاد لا ينكره الإسلام ولكن ينبغي أن يتوازن في مسار الإنسان، وفي خطواته التي يريد أن يصل بها إلى أهدافه وغاياته المثلى التي تقوم على ركيزتين :
الأولى : الكفر بالطاغوت.قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ}، فالطاغوت في اللغة هو الطغيان، والإنسان الذي يحارب الطغيان من منطلق الإيمان بالله، فهو مستمسك با لعروة الوثقى التي هي المنهج الإلهي الذي أرسى دعائمه المصطفى صلى الله عليه وآله. والإنسان قد تحصل لديه مبادئ الإيمان بالخير، ولكنه يترهب، فلا يتواجد لديه مبادئ لمحاربة الظلم والطغيان، ولا يستطيع أن يصل إلى أخذ حقوقه كي يصل إلى الحرية .
الثانية : الإيمان بالله تعالى الذي يعتبر المبدأ العقدي الأول الذي طرحه المصطفى صلى الله عليه وآله عندما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، فوقف قائماً وقال ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا))، أي إنّ الفلاح يكمن في كلمة التوحيد التي تجعل الإنسان يعيش الحرية والعدل والمساواة بينه وبين أخيه الإنسان، والعدل بين الإنسان وسائر المفردات في الكون. فالتوحيد والعبادة هي لله وحده، ولا يستحقها غيره. ولذلك نجد هذا بشكل بَينٍ وواضح في فكر أهل البيت عليهم السلام كما روي عن الباقر عليه السلام: ((من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان ))، فهذا فكر ينطبق على كل معالم الحياة وعلى كل المفردات التي يريد الإنسان أن يتعامل معها.
الثاني : أكد الإسلام على الفارق الجوهري والكبير بين الحرية التي يمكن أن يصل إليها الإنسان والحرية التي تصل إليها الموجودات الأخرى. فالموجودات الأخرى لا تفكر ولا تدرك، فمثلاً لو وضعنا عائقاً أمام النمو الطبيعي للحيوان أو للنبات فسوف يختلف عن العائق أمام النمو والرشد الطبيعي للإنسان، لأنّ النبات لو وضعنا ثقلاً عليه، فعند ذلك لن ينمو، ولكن العائق في فكر الإنسان ليس مادياً، وإنما العائق هو معنوي، يمنع الإنسان من الوصول إلى الثقافة والقيم والمبادئ والعدل والمساواة، وأيضاً يمنعه من استرداد حقوقه، وكل هذه المبادئ أكد عليها الإسلام، ولا توجد بهذا النحو من الشمولية والوضوح في منهجٍ غير المنهج الذي أرسى دعائمه المصطفى صلى الله عليه وآله. ولذا فذكرى المصطفى والتأكيد على ما حققه للبشرية جمعاء هي ذكرى تمثل بلسم شافٍ للنفوس الظمآء إلى الحرية والمشتاقة إلى العدل والتي تريد أن تعمل للوصول إلى القيم والمثل المحققة لسعادة لكل الإنسانية جمعاء.

Loading