الإنابة

قال الله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (1).

تمهيد

لا يبلغ الإنسان السالك غاية كماله ونهاية وصاله نحو الحق تبارك اسمه إلاّ بتزكية الأخلاق والوصول إلى معالي الأخلاق؛ لأن الأخلاق في الإسلام تقوم على عملية الموازنة بين غرائز الإنسان، اعتماداً على نظرة الإسلام للكون والحياة، والتي تعطينا نظاماً خاصاً وعطاء منسجماً مع طريقة الإسلام في الحياة، والتي تمنح الضوابط الأخلاقية التي تحفظ الإنسان من الشذوذ والانحراف فالإسلام باعتباره خاتم الرسالات حافظاً لسير الإنسان التكاملي، محيلاً بينه وبين الانحراف والوقوع في مزالق الهوى والفساد.

وسيرة الرسول محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ شاهد حقيقي على اهتمامه ـ صلى الله عليه وآله ـ بحفظ عملية الموازنة والاهتمام بالأخلاق الفاضلة، وسيرته تحكي لنا ذلك والقرآن الكريم شهد له بذلك في قوله تبارك اسمه: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))(2).

فالإنسان ـ أياً كان ـ لا يمكن أن يصل إلى غاية خلقه ونهاية كماله إلاّ بقدر ما يكسب من الأخلاق الفاضلة، والأمة تبقى متأخرة مجهولة لا تستطيع أن تنهض بأفرادها نحو شاطئ السعادة والانتصار مالم تعمق في أفرادها جانب الأخلاق والتاريخ يحدثنا عن كثير من الأمم والشعوب التي بادت حضارتها وفقدت كيانها لأنها تنصلت عن أبسط القيم التي كان من الممكن أن تحفظ لها إمكانية الاستمرار والبقاء وعليه فتزكية الأخلاق والتخلي عن رذائلها يكمن في اهتمام الإنسان والأخذ بما أمر به القرآن الكريم والرسول وآله ـ عليهم السلام ـ وصحبه الكرام، وترويض النفس وكفاحها وكدحها من أجل تربية الروح.

ولكن رغم ذلك فلا يزال المسلمون يعانون من مشكلة في الأخلاق، والى خواء في الروح، واختلاف في الصفوف، إلى نعرات جاهلية واختلاف على الغايات والأهداف، فضلاً عن الاختلاف في الوسائل والطرق، والكل يتوجع ويشكو ويبحث عن السبب وحله ولا يكون ذلك إلاّ بالعودة إلى الله تبارك اسمه، والتوبة من الذنوب، والإنابة إليه بالشكل الحقيقي الذي أمر به الله تعالى بواسطة رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ بقوله: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ))(3).

الإنابة في اللغة:

الإنابة لغةً من النوب يقال: (ناب ونوبة، والنوب: رجوع الشيء مرة بعد أخرى،

وسمي النحل توباً لرجوعها إلى مقارها، ونابته نائبة: أي: حادثة من شأنها أن تنوب دائماً) (4).

(والإنابة في اللغة: هي الرجوع) (5).

ناب بدر التمام طيف محياك * * * لطرفي بيقظتي إذ حكاكا(6).

قال ابن منظور في ذكره للإنابة أنها من: (ناب الأمر نوباً ونوبةً: نزل، ونابتهم نوائب الدهر. وفي حديث خيبر قسمها نصفين: نصفاً لنوائبه وحاجاته، ونصفاً بين المسلمين، النوائب جمع نائبة، وهي: ما ينوب الإنسان، أي: ينزل به المهمات والحوادث والنائبة: المصيبة واحدة نوائب الدهر النازلة، ويقال: أصبحت لا نوبة لك، أي: لا قوة لك، وكذلك تركته لانوب له، أي: لا قوة له، وناب عني فلان ينوب نوباً ومناباً، أي: قام مقامي وناب عني في هذا الأمر نيابة إذا قام مقامك)(7). فالإنابة إذن: العودة والرجوع.

قال الزمخشري في تعريفه للإنابة أنها من النوب: (نابه أمر نوبة، وأصابته نوائب ونوب ونائبة ونوبة، والخطوب تنوبه وتتناوبه، وناب إليه نوبةً ومناباً: رجع مرة بعد أخرى، والنحل تنوب إلى الخلايا، ولذلك سميت النوب. قال أبو ذؤيب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * * * وحالفها في بيت نوب عوامل

واليه مناب: مرجعي، وخبر نائب: كثير عواد، وهو ينتابنا، وهو منتاب: مفاد مراوح، وأناب إلى الله، وعبد منيب، وأتاني فلان فما أنبت إليه: إذا لم تحفل به، وناوبه مناوبة، وتناوب القوم في غيره.

ونوب فلان: جعلت له النوبة. وناب عنه نوبة، وهو ينوب منابه، وأنبته منابي، واستنبته) (8).

وكلمة الإنابة هي الإقبال والرجوع يقال أناب ينيب إنابه فهو منيب إذا اقبل ورجع.

الإنابة في الاصطلاح:

الإنابة اصطلاحاً: رجوع إلى الله تبارك اسمه، وهي: (رجوع عن كلّ شيءٍ مما سوى الله، والإقبال عليه بالسرور والقول والفعل، حتّى يكون دائماً في فكره وطاعته، فهي غاية درجات التوبة وأقصى مراتبها) (9).

فهي رجوع إليه تبارك اسمه بالاستغفار والمتاب، والإخلاص لوجهه، والالتزام به، والإسراع إليه بالثبات على سبيله، ومحاربة الشيطان وإغوائه ووساوسه عن طريق الإعراض والنسيان لمكائده. والمنيب: هو العبد الراجع إلى خالقه سريعاً.

فالإنابة: (إلى الله تعالى: الرجوع إليه بالتوبة وإخلاص العمل، وفلان ينتاب فلاناً:

يقصده مرة بعد أخرى) (10) ومنه قولنا عن حقيقة الرجوع إلى الله تبارك اسمه: إنها تعني: الجهد والمواظبة واليقظة، وإرادة في النفس وتوجيهها إلى ما تراه موافقاً لغرضها في الوصول إلى الحق بنية صادقة وإخلاص دائم، وحمل النفس على المشاق البدنية، ومخالفة الهوى على كلّ حال:

وسدد وقارب واعتصم واستقم لها * ** * مجيباً إليها عن إنابة مخبت(11).

وهذا الرجوع والإقبال على الله تبارك اسمه لا يكون إلاّ بالعزم والإرادة والتصميم الأخير بترك الذنوب، والانتقال إلى ترك المباحات، وذلك لا يكون إلاّ بسبق العبد إلى حسن ظنه بنفسه، فيختفي عن مذموم شيمه ومساوئ أخلاقه؛ لأن النفس بالسوء أمارة، وعن الرشد زاجرة، فإذا كانت كذلك فحسن الظن بها، هو وثوق بها، وهو عجز، والعاجز من عجز عن سيئات نفسه، وهذا لا يتناسب ومقام السالك إلى الله تبارك اسمه والسير إليه، والانتقال إلى مقام الإنابة والعودة إليه بالخضوع والخشية لله تبارك وتعالى.

الإنابة في القرآن الكريم:

ورد ذكر الإنابة في القرآن الكريم في خمسة عشر موضعاً في آيات كثيرة تحكي عن هذه الكلمة وهذه المفردة، التي تورث معرفتها نوعاً من المعرفة التي يستحق العبد المؤمن في إدراكها غاية درجات المتيقن.

فقوله تبارك اسمه: ((فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ))(12) بيان حالة النبي داود ـ عليه السلام ـ وإنابته ولا شك أن مفهوم الإنابة في هذه الآية الكريمة يختلف عن مفهومها في قوله تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ))(13).

إنّ الآية الكريمة التي تحكي عن القدوة الحسنة المتمثلة في إبراهيم ـ عليه السلام ـ وإظهاره البراءة من أعداء الله، ومن عبادتهم الهوى والأصنام، وإظهار الكفر بذلك، وترك عبادتهم ودينهم، وتعيين الموقف الحقيقي منهم بإظهاره ـ عليه السلام ـ العداوة والبغضاء إلى نهاية المطاف بشرط البقاء على ضلالتهم عناداً أما لو آمنوا فهم إخوانهم في الدين، عند ذلك يصل القول في الآية الكريمة إلى: ((وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))(14). وهو مقام العودة إلى الحق، أي من الكل إلى من له الكل، وهي تختلف عن إنابة عموم العباد، وهذا مرتبط بالتسليم المطلق والتفويض إليه بعد الوصول إلى درجة الإنابة الحقيقة.

ولك الأمر فاقض ما أنت قاض * * * فعلي الجمال قد ولاكا (15).

قال تعالى ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))(16).

والتدبير والنظر في قوله تبارك اسمه: ((وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ))(17) ينبئ أن الإنابة لم تؤخذ في معناها الحقيقي، أو أنها ليست الإنابة التامة لأولياء الله، رغم أن هذه الآية الكريمة تشير إلى الإنابة والتسليم لكن لا يعني أن ذلك من خصوصيات مقام غير مقام عموم الناس، وهذا متروك إلى محله.

فقوله تعالى: (وَأَنِيبُو…) يعني: الرجوع إليه و(العودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام بلا طقوس، ولا مراسم، ولا حواجز، ولا وسطاء، ولا شفعاء، إنه حساب مباشر بين الرب والعبد، وصلة مباشرة بين الخالق والمخلوق، فمن أراد الأوبة من الشاردين فليؤب، ومن أراد الإنابة من الضالين فلينب) (18).

أخرج عبد بن حميد وابن جرير، عن قتادة في قوله تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) قال: أقبلوا إلى ربكم. وأخرج ابن المنذر، عن عبيد بن يعلى أنّه قال: الإنابة: الدعاء(19).

فإتيان الإنابة بمعنى: الرجوع أو العود أو الدعاء من خلال النظر والتدبر في الآيات الكريمة يعني ذلك: أن العبد لابد أن يكون رجوعه رجوع اعتذار كما هو الحال في التوبة بعد ترك الذنب والاستغفار منه، وهذا العود يشهد للعبد بصحة الحال والثبات، وعدم التهاون والغفلة:.تلقاك بالإنابة واخلص لك التوبة “(20).

أما مسألة ذكر الإنابة في هذه الآية الكريمة واشتمالها على معان كثيرة فهو مطلب يحتاج إلى مقارنة بين منزلة التوبة ودرجة الإنابة، كما سيأتي في محله؛ لأن التوبة والمغفرة التي أكدت على ضرورة الإخلاص في التوبة النصوح والانتقال إلى درجة الإنابة. وقد يصح أن نقول: إنّ الإنابة تعني في مقام بعض السالكين توبة، وفي مقام آخر إنابة وعودة؛ لأنها: (رجوع إلى الله، وهو التوبة من وضع الظاهر موضع المضمر، وكان مقتضى الظاهر

أن يقال: وأنيبوا إليه، والوجه فيه: الإشارة إلى التعليل، فإن الملاك في عبادة الله سبحانه صفة ربوبية) (21).

الفرق بين التوبة والإنابة:

ليس المقصود من الفرق بين التوبة والإنابة هو الفرق اللغوي أو الاصطلاحي بقدر ما هو فرق من حيث مقامات السالك ودرجات سيره إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن تنقل العبد من مقام إلى مقام هو في الحقيقة: صعود وترق في سفره إلى الله جل جلاله.

قال جمال العارفين أبو عبدالله محمّد بن علي، المعروف بابن العربي: (السفر: عبارة عن القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق تعالى بالذكر)(22).

وهذا السفر والتوجة هو الذي يحدد حالة العبد إذا كان تواباً أو منيباً.

قال الإمام أبو عبدالله الصادق ـ عليه السلام ـ: ((إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبه الله، فستر عليه في الدنيا، فقلت: وكيف يستر عليه ؟ قال: ينسي ملكه ما كتب عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيءٍ من الذنوب))(23).

والحديث يكشف لنا حقيقة التوبة النصوح التي تؤهل الإنسان السالك إلى أن يصل درجة الإنابة التي هي ـ بلا شك ـ درجة ومنزلة تختلف كلياً عن منزلة التوبة، فالتوبة هي: (ترك الذنب على أجل الوجوه وهو أبلغ وجوه الاعتذار)(24).

وهي توثيق العزم على ترك الذنب وعدم العودة إليه والفورية في هذا الترك.

قال ابن عباس (: (التوبة النصوح: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان،

والإقلاع بالبدن، والإضمار على أن لا يعود)(25).

قال ابن الوردي:

واسأل إلهك عصمة وحماية * * * فالسيئات قواصف الأعمار(26).

ولما كان الوصول إلى التوبة النصوح لا يتحقق إلاّ بالندم والعزم على ترك المعصية والاستغفار الحقيقي لكن الندم على الذنب هو حالة الانكسار التام، وإظهار الحرقة والألم عند ارتكاب المعصية، وهو حالة من (الغم الذي يصيب الإنسان ويتمنى أن ما وقع منه لم يقع )(27). وهذا يدعو إلى العزم والإرادة على الترك المقرون بالاستغفار الذي هو طلب المغفرة بعد رؤية قبح المعصية والإعراض عنها واستصلاح الأمر الفاسد قولاً وفعلاً)(28).

فالاستغفار يخلق في النفس حالة من القبول والرجوع إلى الله جل جلاله، وهو يمثل (عين الرجوع إلى حقيقة النفس الروحانية، والتي أصبحت بواسطة الذنوب والمعاصي محجوبة عن نور الفطرة والروح)(29).

فكما أن الاستغفار للعبد باب العودة إلى الفطرة السليمة والروح الطاهرة فهو كذلك يكشف عن العبد أنواع البلاء، ويؤثر أثراً خاصاً في زيادة الخير وإدرار الرزق، قال الله تبارك اسمه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)(30).

فصدق العبد المؤمن في تركه الذنب وندمه واستغفاره هو الذي يفتح باب التوبة لإنقاذه من المصير المظلم (بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح) (إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحا( ويعد الله تعالى التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة ((فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ))(31).

وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد، إلاّ أنّه اهتدى ورجع عن الضلال، وتاب إلى حمى الله ولاذ به بعد الشرور والمتاهة ((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا))(32).

فالابتداء بالندم والإقلاع عن المعصية، والانتهاء بالعمل الصالح الذي يحقق التوبة النصوح، بعدها تتحقق الرحمة والمغفرة من الله تعالى الغفور الرحيم، فهو تبارك اسمه غافر وغفور وغفار للذنب؛ لأنه جل جلاله (يزيل معصيتك من ديوانك، وغفور؛ لأنه ينسي الملائكة أفعالك، وغفار؛ لأنه ينسيك ذنبك حتّى كأنك لم تفعل. وقيل: الغافر في الدنيا، والغفور في القبر، والغفار في عرصة يوم القيامة) (33).

فالانتقال من التوبة إلى الإنابة لا يتحقق حتّى يستكمل العبد مرحلة التوبة النصوح ويحقق ذلك في نفسه، خصوصاً إذا وصل السالك إلى آخر درجات التوبة التي هي: الاستغفار الحقيقي القلبي، لا الاستغفار الذي لا يتعدى اللسان، كلقلقة الكلام الميت الذي ليس له حالة واقعة ومؤثرة في النفس، قال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)(34).

فذكر الله ـ تبارك اسمه ـ والرجوع إليه بالاستغفار والحزن الطويل، والبكاء من الخطيئة، وقضاء العبادات التي فوتها العبد أثناء ارتكاب الذنب، والخروج من مظالم العباد، وترويض هذه النفس الأمارة بتحميلها ما يشق عليها في الشريعة المقدسة، يعطي للعبد استغفاراً حقيقياً مقبولاً عند الله تبارك اسمه قال الإمام علي ـ عليه السلام ـ لقائل قال بحضرته: ((أستغفر الله، ثكلتك أمك، أتدري ما الاستغفار أن الاستغفار درجة العليين،

وهو اسم واقع على ستة معان:

الأول: الندم على ما مضى.

الثاني: العزم على ترك العود عليه أبداً.

الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.

الرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.

الخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبة بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ لحم جديد.

السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله))(35).

فحقيقة الاستغفار هكذا، وليس مجرد قول وكلام؛ لأن الاستغفار درجات بحسب توبة العباد، كما أن توبة العباد تختلف بحسب حالاتهم، (فمثلاً: توبة العام من الذنوب، وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله، وتوبة الأولياء من تلوين الخاطر، وتوبة الأنبياء من اضطراب السر) (36).

قال الإمام العارف بالله، الشيخ أبو حفص، عمر بن الفارض المخصوص بالشراب الرائق القائض قدس سره:

ولى عندها ذنب برؤية غيرها * * * فهل لى إلى ليلى المليحة شافع ؟ (37).

فبمعرفة ما مر ذكره من الندم والاستغفار الحقيقي والوصول إلى التوبة النصوح يظهر لنا الفرق الحقيقي بين التوبة والإنابة، من حيث مقام السالك الذي تجاوز التوبة بغسل باطنه من الذنوب بماء الحسرة والإعتراف بجنايته والندم على ما فوت من حق الله.

واستحقاق مقام الإنابة والدخول فيها يحتاج إلى آداب وأعمالٍ وأورادٍ حتّى يستحق

العابد الوصول إلى مقام أرفع، ودرجة أعلى، بعد ذلك يصل إلى الكمال الحقيقي والفناء المطلق (وعدم الإحساس بعالم الملك والملكوت، وهو بالاستغراق في عظمة البارئ ومشاهدة الحق) (38) تبارك اسمه.

وخلاصة القول: إنّ الفرق بينهما ينحصر في قول العالم العارف النراقي رحمه الله حيث يقول: (التوبة: هي الرجوع عن الذنب إلى الله، والإنابة: هي الرجوع عن المباحات) (39).

حقيقة الإنابة:

لما كان حال الإنسان في هذه الدنيا لا يخلوا من ثلاث حالات هي: السلوك ما بعد السلوك، أي: الاحتجاب في عالم الطبيعه، والظلمة والسفر والسلوك، ومرحلة الفناء والوصول إلى المحبوب ـ حيث (لم يبق من آثار العبودية شيء، ونال الفناء الذاتي المطلق) (40) ـ كان الإنسان السالك والعبد الطالب محتاج إلى التوبة والإنابة في حال السلوك فقط، أما قبل السلوك فهي حالة الاحتجاب الكامل الذي لا حاجة فيها إلى هذه المطالب وتلك المشارب.

ولما كانت نهاية التوبة النصوح نيل العبد لتجلي الله ـ تبارك اسمه ـ باسمه التواب لقوله تعالى: ((فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) (41) ـ فكانت في حق الرب: (عبارة عن عودته إلى الإحسان اللائق بالربوبية) (42). حيث إنّ التواب الذي يقابل الدعاء بالعطاء، والاعتذار بالاغتفار، والإنابة بالإجابة، والتوبة بغفران الذنب ـ كانت حقيقة الإنابة: النيل من أنوار اسمه وتجلياته.

فمن سلك طريق الإنابة أصبح مظهراً لاسمه تعالى “المنيب” في وجوب اتباع طريق من عاد إلى عز الطاعة، والى حضرته تعالى بالتوحيد والإخلاص في الطاعة، قال

تعالى: ((وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))(43).

أنواع الإنابة:

الإنابة من حيث إنها درجة ورتبة آتية بعد التوبة، وإن من نزل في منزل التوبة وقام في مقامها نزل في جميع منازل الإسلام، حيث إنّ التوبة النصوح قد تكون مندرجة وداخلة في منزلة الإنابة، ذلك فيما إذا أردنا في التقسيم والبيان مراتب سلوك العابد وسير القاصد. أما من حيث حقيقة الموجودات ومرتبة المخلوقات فهي تختلف في إنابتها إلى مبدعها وخالقها بحسب القصد والجبلة التي عليها من مقام العشق الإلهي الذي يفترض أن يكون هناك شوق ووجد إلى نور الأنوار، وحقيقة الحقائق، وغيب الغيوب تباركت أسماؤه وجلت حضرته من أن تطأها أقدام القاصرين المحجوبين في عالم الظلمة والطبعية.

عباراتنا شتى وحسنك واحد * * * وكل إلى ذاك الجمال يشير

وعليه كانت إنابة المخلوقات تختلف كلّ الاختلاف عن أصل الإنابة، وحقيقة الإنابة المطلوب بيانها في هذه الوريقات القليلة.

فالإنابة تقسم على ما تقدم إلى: إنابة ظاهرية: وهي إنابة المخلوقات: برها وفاجرها، عامها وخاصها، وهي التي لا تتوقف على الإيمان والإخلاص، بل هي تكشف عن كذب مدعيها، وغدر وخيانة قائليها، وعدم وفائهم بالعهد بعد النجاة، قال الله تبارك وتعالى أسمه: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(44).

أما الإنابة الحقيقية: فهي إنابة أهل الله، وهي إنابة صادقة، إنابة الحب العبودي الخالص التي هي مظهر لا سمه المنيب، حيث لا يستحق لطفه في اسمه هذا إلاّ من تخلق بحقيقة هذا الاسم والتي تشمل:

أ ـ الحب له، وفيه، ومن أجله تبارك اسمه.

ب ـ الخضوع له، والتذلل إليه سبحان وتعالى.

ج ـ الإقبال والتوجه نحوه بالكل؛ لأنه أهل لذلك.

د ـ ترك وهجر، والإعراض عما سواه.

فاجتماع هذه الألطاف وهذه الخصوصيات في اسمه “المنيب” تعطي للسالك القاصد معنى الإنابة الحقيقية التي تورث الحب، وتعطي العبد المعرفة بنفسه وبربه قال تعالى: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(45). فالوصول إلى تلك المقامات والتمتع بتلك الحالات لا يكون إلاّ بتوفيق الله ولطفه،والإقبال عليه، والتضرع والخشية منه في كلّ حالةٍ، وفي كلّ طرفة عين، ومع حالات القلب المختلفة وخوطره الكثيرة.

كيف تتحقق الإنابة؟

لا يبلغ العبد درجة الإنابة إلاّ بعد اجتياز جملة من المراحل والحالات التي لابد من المجاهدة وترويض النفس فيها، لحصول معنى الإنابة الصادقة في النفس، ومن خلال ملاحظة لجملة من الشروط والآداب والاجتهاد في فهمها وتحقيقها في القلب، حتّى تكون ملاكاً للنفس وحالة دائمة ومستقرة فيها:

1 ـ ترك التبعات والخروج منها بالتوبة الصادقة والاستغفار الحقيقي، من خلال الإقبال على الله ـ تبارك اسمه ـ بحقيقة النفس، حتّى يستغرق القلب في فكره تبارك وتعال.

2 ـ إظهار التألم والتوجع للسقطات والعثرات، من خلال ذكر الله تبارك وتعالى، وعدم الغفلة عنه، واليقظة الكاملة والتامة، وذكر آلائه ونعمه، وأن يكون العبد دائم الذكر لأهل طاعته ومحبته.

3 ـ وأن يواظب على طاعته وعبادته، ويستدرك ما فاته من الطاعات والخروج

من تبعات الذنوب التي بينك وبين الله، والتوجه بالإخلاص إلى طاعته تبارك وتعالى، وترك الاستهانة والغفلة(46).

قال الإمام علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ في دعاء يوم عرفة: ((وأتيتك من الأبواب التي أمرت أن تؤتى منها، وتقربت إليك بما لا يقرب أحد منك إلاّ بالتقرب به، ثم أتبعت ذلك بالإنابة إليك، والتذلل والاستكانة لك، وحسن الظن بك، والثقة بما عندك، وشفعته برجائك الذي قل ما يخيب عليك راجيك))(47).

أهمية وآثار الإنابة:

إنّ للإنابة آثارا وفضائل كما هي الحال في فضائل وآثار التوبة والاستغفار، فغن الإنابة وتحققها بما هي من حالة الرجوع الكامل إلى الله تعالى بالإخلاص والعمل والانقطاع الكامل إليه تعطي آثارها الفائضة عنها، والواقعة للعبد بعد توفيق الله تبارك اسمه له في نيل هذا النعيم وهذه الرحمة، إذ لولا (لطفه تبارك وتعالى لما وفقنا لذلك، فإذا ندمت على فعلك ورجعت إليه أحبك وجعلك محبوباً له)(48) فمن تلك الفضائل والآثار أن الإنابة تؤدي إلى:

أ ـ المعرفة وتورثها في النفس، حيث تعتبر علامة للاهتداء نحو الطريقة المثلى والسبيل الأوضح والصراط السوي، قال تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(49).

ب ـ إنّ الإنابة عنوان الاستقامة على الطريق الصحيح، حيث تقوم النفس وتؤدب ما يؤدي إلى تهذيب القلب من خلال أداء الطاعات المفروضة واجتناب المعاصي؛ لأن عنوان الاستقامة على الطريق كفيل بعبور العبد السالك في طريق العبودية بإرشاد ما هو مشروع ومعقول في رسالة البشير الهادي الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ، قال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)(50).

ج ـ تحرض على قبول الحق، ورفض العناد من خلال حدوث حالة من الصفاء الواعي والوداعة الطيبة في قلب العبد السالك، تجعله راضياً بالحق، قابلاً له، منكراً ورافضاً العناد الذي يحدث في النفس حالةً من الانزعاج التام وعدم الطمأنينة والرضا بفعل الله تبارك اسمه، قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(51).

وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)(52).

هـ إنها تحدث في النفس حالة من الخشية والتوكل الدائم والمستمر على الله في كلّ شيءٍ، وطلب المغفرة منه؛ لما تركته هذه الحالة من الرجوع إليه تبارك وتعالى من الطمع والرغبة في فضله ورحمته تبارك اسمه، قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)(53).

و ـ تزف البشرى والنعمة من الخالق سبحانه وتعالى لعباده المنيبين بأنهم على الهدى وعلى الصراط، وهم أهل الألباب، وذوي الفطنة والحكمة والتلقي والأخذ وحسن الاستماع من جراء تحقق معنى الإنابة في قلوبهم وذواتهم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)(54).

الإنابة في كلمات العرافين:

قال العارف أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري: (الإنابة: الرجوع إلى الحق اصطلاحاً كما رجع إليه اعتذاراً، والرجوع إليه وفاء ما رجع إليه عهداً، والرجوع إليه حالاً كما رجع إليه إجابة)(55).

وقال الشريف علي بن محمّد الجرجاني: (الإنابة: إخراج القلب من ظلمات الشبهات والرجوع من الكل إلى من له الكل، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأنس)(56).

وقال ابن القيم: (ومن علامات الإنابة: ترك الاستهانة بأهل الغفلة، والخوف عليهم، مع فتح باب الرجاء لنفسك، فترجو الرحمة وتخشى على أهل الغفلة والنقمة، ولكن أرج لهم الرحمة، وأخش على نفسك النقمة، وإن كنت لابد مستهيناً بهم، ماقتاً لهم، لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه، فكن لنفسك أشد مقتاً منك لهم، وكن أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك)(57).

وقال النراقي في ذكره للإنابة: (الإنابة: هي الرجوع عن المباحات)(58).

وقال عفيف الدين التلمساني في تعليقه على منازل السائرين: (إنّ الإنابة هي: الرجوع إلى الله في إصلاح الطاعة، كما رجعت إليه في الاعتذار عن المعصية عند التوبة)(59).

وقال العلامة الفيلسوف الطباطبائي في معنى الإنابة: (الإنابة إلى الله: الرجوع إليه، وهو التوبة)(60).

وقال محمّد رضا الطباطبائي اليزدي في الإنابة: (إنها الرجوع عن المباحات إليه تبارك وتعالى، وهي رجوع عن كلّ شيءٍ ما سوى الله، والإقبال عليه بالسر والقول

والفعل حتّى يكون دائماًُ في فكره وطاعته)(61).

فما تقدم من ذكر التوبة والإنابة لا يتحقق إلاّ بالمجاهدة والرياضة وبذلك المهج، وتهذيب الأخلاق وتزكيتها من الرذائل، والوصول إلى الله تبارك اسمه، والفناء فيه، وتحقق معنى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(62).والعبادة قيام العبد بالطاعة على أحسن وجوهها، فغن ذلك لا يكون إلاّ من خلال الاعتماد على ظاهر الشريعة، وآداب السلوك عند أهل هذه الملة والأمة المرحومة، وما صدع به الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ من الورود في هذا الدين وعلى صراطه المستقيم.

قال العارف الرباني الإمام الخميني قدس سره: (واعلم: أن طي أي طريق في المعارف الإلهية لا يمكن إلاّ بالبدء بظاهر الشريعة، وما لم يتأدب الإنسان بآداب الشريعة الحقة لا يحصل له شيء من حقيقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور المعرفة، وتنكشف العلوم الباطنية وأسرار الشريعة، وبعد انكشاف الحقيقة وظهور أنوار المعارف في قلبه سيستمر أيضاً في تأدبه بالآداب الشرعية الظاهرية، ومن هنا نعرف بطلان دعوى من يقول: إنّ الوصول إلى العلم الباطن يكون ترك العلم الظاهر، وهذه الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسان)(63).

وقال جمال العارفين، محي الدين العربي في إصلاحات الصوفية في الفتوحات المكية، في ذكره لمعنى التصوف: (الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً، وهي الأخلاق الإلهية)(64).

فعلم الظاهر يوصل إلى الباطن، والتأدب بآداب الشريعة والرياضة المشروعة والإقبال على الله ـ تبارك اسمه ـ وحبه وعشقه ورفض سواه كفيل بوصول الإنسان إلى غاية كماله ونهاية مآله، والتفويض إلى الخالق في كلّ شيء.

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا

فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا(65).

وهذا أيضاً يكشف دعوى من يدع الحب والوصال دون العمل، وبذلك الجهد والمجاهدة في هذا السبيل الطويل والدرب الشاق مع قلة الزاد، راجياً من حبه الخالي وأمانيه الكاذبة لله ولأهل الله ـ تبارك اسمه ـ أن ينجيه من عقبات يوم القيامة ومن جهنم ولظى، ناسياً أن هذا السير وهذا الدرب لن تبلغ نهايته، ولا يوصل إلى غايته إلاّ بالعلم والعمل والإخلاص والصدق في المواطن وترك الهوى والشبهات.

قال أبو حفص عمر بن الفارض في ذلك:

ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى * * * ولكنها الأهواء عمت فأعمت (66).


1 ـ الزمر: 17 ـ 18.

2 ـ القلم: 4.

3 ـ الزمر: 53 ـ 54.

4 ـ معجم ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني: 525.

5 ـ منازل السائرين لأبي إسماعيل الأنصاري: 77.

6 ـ جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض للخوري: 191.

7 ـ لسان العرب لابن منظور 14: 318.

8 ـ أساس البلاغة للزمخشري: 475.

9 ـ بداية الأخلاق لمحمد رضا الطباطبائي اليزدي: 241.

10 ـ معجم ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني: 525.

11 ـ جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض لأمين الخوري: 156.

12 ـ ص: 24.

13 ـ الروم: 23.

14 ـ الممتحنة: 4.

15 ـ جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض لأمين الخوري: 192.

16 ـ الممتحنة: 4.

17 ـ الزمر: 54.

18 ـ جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض لأمين الخوري: 194.

19 ـ في ظلال القرآن لسيد قطب 6: 2581 في تفسير الآية: 54 من الزمر، والدر المنثور 5: 332.

20 ـ الصحيفة السجادية، شرح عز الدين الجزائري: 82.

21 ـ الميزان للعلامة الطباطبائي 17: 28.

22 ـ اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات المكية (السفر).

23 ـ أصول الكافي 2: 314 باب التوبة.

24 ـ معجم مفردات القرآن للأصفهاني: 72.

25 ـ مسند احمد 1: 446 وحلية الأولياء 5: 189.

26 ـ التعريفات للجرجاني: 32.

27 ـ التعريفات للجرجاني: 105.

28 ـ المصدر السابق: 7.

29 ـ مفتاح النور للإمام الخميني: 122.

30 ـ نوح 10 ـ 12.

31 ـ الفرقان: 70.

32 ـ في ظلال القرآن لسيد قطب 6: 2579 والآية في سورة الفرقان: 70.

33 ـ شرح أسماء الله الحسنى للفخر الرازي: 219.

34 ـ آل عمران: 135 ـ 136.

35 ـ نهج البلاغة 4: 98.

36 ـ أسرار الصلاة، حاج ميرزاً الملكي التبريزي: 33.

37 ـ جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض لأمين الخوري: 241.

38 ـ التعريفات للجرجاني: 73.

39 ـ جامع السعادات 3: 89.

40 ـ الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني (: 381.

41 ـ البقرة: 37.

42 ـ شرح أسماء الله الحسنى، الفخر الرازي: 336.

43 ـ لقمان: 15.

44 ـ الروم: 33 ـ 34.

45 ـ هود: 88.

46 ـ شرح منازل السائرين: 78.

47 ـ الصحيفة السجادية، شرح عز الدين الجزائري: 82.

48 ـ الأربعون حديثاً للإمام الخميني: 261.

49 ـ لقمان: 15.

50 ـ الرعد: 27.

51 ـ الشورى: 10.

52 ـ الشورى: 13.

53 ـ غافر: 13.

54 ـ ق: 31 ـ 33.

55 ـ الزمر: 17 ـ 18.

56 ـ منازل السائرين: 77.

57 ـ التعريفات للجرجاني: 17.

58 ـ مجلة العرفان، العدد التاسع، شوال (1392 هـ.ق).

59 ـ جامع السعادات 3: 89.

60 ـ منازل السائرين: 77.

61 ـ بداية الأخلاق: 241.

62 ـ الذاريات: 56.

63 ـ الأربعون حديثاً لإمام الخميني ( 25.

64 ـ الفتوحات المكية:

65 ـ جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض لأمين الخوري: 157.

66 ـ المصدر السابق: 73.


الشيخ محمّد علي الساعدي

Loading