الدعاء

روحانية الدعاء :

بغضّ النظر عن أجْر الدعاء وثوابه أو الاستجابة التي ينشدها ، فإنّ الدعاء إذا تجاوز اللسان والألفاظ ، وتناغم القلب مع اللسان ، واهتزّتْ روح الإنسان مع هذا الدعاء ، فسوف يشعر الإنسان بروحانية مقدّسة هائلة ، كما لو رأى نفسه غريقاً ( في أمواج النور ، يحسّ في تلك اللحظات بقداسة الطبيعة الإنسانية ، ويدرك جيداً كيف كان منحطّاً غبيّاً في اللحظات الأخرى التي يشغل نفسه فيها ، بالأشياء والهموم الصغيرة والتافهة ، حيث يقلق من أجلها ويتألّم .

إنّ الإنسان يحسّ بالذلّ حين يطلب شيئاً من غير الله ، ولكن حين يطلبه من الله فسيشعر بالعزّة ؛ لذلك كان الدعاء طلباً ومطلوباً ، وسيلة وغاية ، مقدّمة ونتيجة ، وأولياء الله لا يتلذّذون بشيء كالدعاء ، فإنّهم يكشفون لدى محبوبهم الحقيقي كلّ طموحات وآمال قلوبهم ، ويهمّهم الدعاء نفسُه والطلب والاحتياج أكثر ممّا تهمّهم مطالبهم وتحقيق آمالهم ، لا يشعرون بالملل والتعب أبداً في تلك اللحظات كما يشير لذلك الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خطابه لكميل النخعي :

( هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ ، وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الأَعْلَى ) ، على العكس من القلوب الموحلة المغلقة ، والمظلمة التي تباعدت عن ذلك المحلّ الأعلى .

طريق من القلب لله :

في قلب كل أحد طريق لله ، وباب توصله إليه ، حتى أكثر البشر شقاءً وانحطاطاً و ( عصياناً ) ، فإنّه في ساعات المِحَن والشدائد ، حين تضيق بوجهه الدنيا ، وتغلق جميع الأبواب ، وتُسدّ كل الدروب ، يهتزّ كل وجوده ، ثمّ يلتجئ إلى الله ، وهذه الحالة من الميول الفطرية الطبيعية المودَعة في كيان الإنسان ، ولكنْ تسترها ـ أحيانًا ـ حجبُ المعاصي وركام الذنوب ، ولكن في المحن والأزمات تتكشّف هذه الحجب والستائر قليلاً ، ويتحرّك ذلك الميل الفطري ، ويتدفّق .

سئل الصادق ( عليه السلام ) عن الله تعالى ، فقال للسائل : ( يا عبد الله ، هل ركبتَ سفينةً قط ؟

قال : بلى .

قال : فهل كُسرتْ بك حيث لا سفينةَ تُنجيك ولا سباحة تُغنيك ؟

قال : بلى .

قال : فهل تعلّق قلبُك هناك أنّ شيئًا من الأشياء قادر أنْ يخلّصك من ورطتك ؟

قال : بلى .

قال ( عليه السلام ) : فذاك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا مُنْجٍ ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث ) .

أجل ، لقد عرّفه الإمامُ ( عليه السلام ) على الله تعالى بواسطة قلبه ( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ )(الذاريات:21) ، هذا الميل والدافع الكامن في فطرة الإنسان ـ والذي يدفعه حين تُغلَق بوجهه أبواب الدنيا إلى تلك القدرة الغالية القاهرة ، التي هي فوق الأسباب والقِوى الظاهرية ـ دليل على وجود هذه القدرة ، وإذا لم يكن لهذه القدرة وجود ، لم يكن لهذا الميل الفطري وجود أيضاً .

وبالطبع هناك فرق بين وجود هذا الميل في الإنسان ، وبين تعرّف الإنسان على ذلك الميل ، وأهدافه ، بصورة كاملة . فالميل والرغبة لشرب الحليب موجود في الطفل منذ ولادته ، وحين يجوع ، ويلح عليه هذا الاحتياج ، يتحرّك هذا الميل ويهيج ويوجّه الطفل إلى البحث عن الثدي الذي لم يشاهده ولم يعرفه ولم يأنس به ، وذلك الميل هو الذي يهديه ويدفعه ليفتح فمه ، ويفحص ، وإذا لم يعثر على ضالّته فإنّه يبكي ، والبكاء بنفسه يعني طلب المعونة من الأُم ، تلك الأُم لم يعرفها بعد ، ولكنّ الطفل هل يعرف هدف الميل هذا وهدف البكاء ، ولماذا وُجِد هذا الميل والدافع فيه ، لا يعلم بأنّه يملك الجهاز الهضمي ، وبأنّ هذا الجهاز يطالِب بالمواد الغذائية ، هو لا يدري لماذا يريد ويطالب ، ولا يعلم بأنّ فلسفة البكاء إخبار الأُمّ بحالته ، تلك الأُمّ التي لم يكن قد عرفها بعد ، والتي سيتعرّف عليها بالتدريج .

ومن جملة ميولنا ونزعاتنا الإنسانية السامية ، الرغبةُ في معرفة الله ، الميل للدعاء ، والالتجاء لله ، الذي لم نشاهده تماماً ، كذلك الطفل ، الذي خرج جديداً للحياة بالنسبة للثدي الذي لم يشاهده ولم يعرفه ، والأُمّ التي لم يشاهدها ولم يعرفها .

وبطبيعة الحال ، لو لم يوجد الثدي والحليب الملائم لذلك الطفل ، فإنّ الغريزة لا توجّه الطفل باتّجاه ذلك ، فهناك علاقة وثيقة بين ذلك الميل وبين الغذاء ، وكذلك الأمر في سائر الميول البشرية ، فلم يُودَع أيّ ميل عبثاً في وجود الإنسان ، بل إنّ كل الرغبات والميول خُلقت وِفق الحاجات ، ولأجل إشباع الحاجات .

الانقطاع الاضطراري والانقطاع الاختياري :

يمكن للإنسان أنْ يدعو الله في حالتَين :

الأُولى : حين تنقطع كل الأسباب ، وتُغلق كل دروب الخلاص بوجهه ويصبح مضطرّاً للالتجاء لله .

الثانية : حين تتعالى وتسمو روحه ، فسوف ينتزع نفسه ، ويقطعها عن كل الأسباب والوسائل وبإرادته ، لا أنّه مضطر لذلك كالحالة الأُولى .

وفي الحالة الأُولى : حالة الاضطرار وانقطاع الأسباب بنفسها ، يندفع الإنسان لله مقهوراً ولا يحتاج لدعوة خاصّة ، ومن الواضح أنّ هذه الحالة ، لا تعدّ كمالاً للنفس الإنسانية ، ولكنّ الحالة الثانية كمال للنفس ؛ حيث يسمو الإنسان باختياره ويقطعها بإرادته عن كل الأسباب .

شروط الدعاء :

1 ـ الرغبة والطلب الجدي :

الشرط الأوّل : أن تمتلك وجود الإنسان الرغبة والطلب الجدي ، حيث تصبح كل شرائح وجوده وخلاياه معبرة عن طلبه ، ويتحول ما يريده ويرغب فيه إلى حاجة حقيقية ، كما لو تعرض موضع من البدن للاحتياج ، فإنّ جميع أعضاء البدن وجوارحه  سوف تبدأ بالعمل ، وربما تزيد بعض الأعضاء من فعاليتها ، من أجل أن تشبع حاجة ذلك الموضع ، فلو شعر الإنسان بالعطش ، فإنّ ملامح عطشه ستبدو عليه واضحة ، وتهتف أعضاؤه كلها طالبة الماء : الفم ، والكبد ، والمعدة ، والشفة ، واللسان ، وحتى لو نام في تلك اللحظات فسوف يلوح الماء له في نومه ؛ لأنّ البدن يحتاج ويطالب بالماء جدياً ، وهذا  تماماً كالاحتياج الروحي والمعنوي في الإنسان ، الذي هو جزء من عالم الخليقة والتكوين ، الذي يشمل العالم كله ، أنّ الروح الإنسانية جزء من عالم من الوجود ، فلو افتقرت لشيءٍ ما ، بصورة جدية وحقيقية ، فإنّ جهاز الكون الكبير لا يهملها ، ولا يدعها لشأنها .

وهناك فرق كبير بين تلاوة الدعاء والدعاء الحقيقي ، فإذا لم يواكب قلبُه لسانَه ، ولم ينسجم معه ، فلا يُعد ما يدعو به دعاءً حقيقياً وجديّاً ، فلابدّ أنْ ينبثق الطلب والاحتياج ، ويتدفّق من أعماق الإنسان بصورة جدّيّة وحقيقية ، لابدّ أنْ يبدو الاحتياج الحقيقي في كيان الإنسان كلّه …. .

إنّ كل ما يظهر في الوجود يبحث هنا وهناك حول ما يحتاجه ، حتى يعثر على الطالب له .

إنّ مَن يبحث عن شيء سيعثر عليه في النهاية ، وما يبذله الإنسان ويتحمّله في هذا السبيل وإنْ كان مجهِداً ومضنياً ، ولكنّه رحمة في الواقع .

إنّ الجواب يتّجه للمشكلات ، والماء يتّجه للموضع المنخفض .

لا تبحث عن الماء ، بل دع نفسك تظمأ ، فحينئذ سيصل إليك الماء من كل جانب .

( أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ … )(النمل:62)

2 ـ الثقة بالاستجابة :

وتعني الإيمان واليقين ، الإيمان بالرحمة اللامتناهية لذات الباري ، الإيمان بأنّه تعالى لا يمنع من فيضه أبداً ولا يبخل به على أحد ، الإيمان بأنّ باب الرحمة الإلهية لا تُغلق على عبدٍ أبداً ، وأنّ النقص والقصور ـ إذا كان ـ فهو من جانب العبد نفسه ، وفي الحديث : ( إذا دعوت فظن حاجتك بالباب ) ، والإمام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) في الدعاء المعروف بأبي حمزة الثمالي ، يخاطب الله تعالى : ( اللّهمّ إنّي أَجدُ سُبُلَ المَطَالِبِ إليْكَ مُشْرَعَةً ، ومَنَاهِلَ الرَجَاءِ لَدَيْكَ مُتْرَعَةً ، والاسْتِعَانَةَ بِفَضْلِكَ لِمَنْ أَمَّلَكَ مُبَاحَةً ، وأبوابَ الدعاءِ إليْكَ لِلصّارِخِيْنَ مَفْتُوْحَةً ، وَأَعْلَمُ أَنَّكَ للرَاجِيْنَ بِمَوْضِعِ إِجَابَةٍ ، وَلِلْمَلْهُوْفِيْنَ بِمَرْصَدِ إِغَاثَةٍ ، وأنّ فِي اللهف إِلَى جُوْدِكَ وَالرِضَا بِقَضَائِكَ عِوَضَاً عَنْ مَنعِ البَاخِلِيْنَ ، وَمَنْدُوْحَةً عَمّا فِي أَيْدِي المُسْتَأْثِرِيْنَ ، وَأنّ الرَاحِلَ إِلَيْكَ قَرِيْبَ المَسَافَةِ ، وأنّك لا تَحْجُبُ عَنْ خَلْقِكَ إِلاّ أَنْ تَحْجُبُهُمْ الآمَالُ دُوْنَكَ ) .

يقول حافظ ( الشاعر الفارسي ) :

( إنّما يمكنك النظر لسرّ الدنيا ، حين يمكنك أنْ  تصنع من تراب الحانة كحلاً لبصرك .

إنّما يكشف مرادك النقاب عن وجهه الوردي ، حين يمكنك أنْ تخدمه كنسيم السحر .

إنّ الاستجداء على أبواب الحانة ، حفنة من الإكسير ، إذا مارستَهُ ، سيمكنك أنْ تصنع من التراب ذهباً .

تقدّم وامضِ إلى الأمام ، في طريق العشق والحب ، بكلّ عزيمة وثبات ، فإنّك ستجني الكثير من الفوائد ، لو أمكنك هذا السفر .

أنت … الذي لا تخرج نفسك عن مدار الطبيعة ، فكيف يمكنك أنْ تطوي مراحل الطريقة وتجتازها .

ليس لجمال الحبيب نقاب ، ولكن حاول إزالة الغبار عن الطريق ليمكنك النظر .

تعال … فلا سبيل لك ، للذوق ،  والحضور ونظم الأمور ، إلاّ إذا أمكنك الاستفادة من فيوضات أهل النظر .

ولكن … أنت الذي تحلم بشفاه الحبيب ، وكأس الخمر ، لا تطمع بعمل آخر ، فإنّه لا يمكنك ذلك ما دمت تحلم بهما .

أيّها القلب ، لو تعرّفتَ على نور الهداية ، فستكون كالشمع ، يضحك ولكنّه يضحّي برأسه ) .

3 ـ أنْ لا يخالف السُنن التكوينية والتشريعية :

ويشترط في الدعاء أنْ لا يكون مخالِفاً لنظام التكوين والتشريع ، فالدعاء استمداد واستعانة ؛ ليتوصّل من خلاله الداعي إلى الأهداف التي قرّرها له التكوينُ والوجود ، أو التشريع والقوانين السماوية والإلهية ، المنسجمة في طبيعتها مع التكوين ، فإذا كان الدعاء بهذه الصورة ، فسوف يتّخذ لنفسه طابع الحاجة الطبيعية وسوف يندفع الوجود لتقديم المعونة له ، وإيصال الفيض والمدد لحاجته ومتطلّباته بحكم المحافظة على التوازن والتعادل الذي يتّسم به نظام الوجود ، وأمّا لو كان الطلب والاحتياج مخالِفاً لأهداف التكوين والتشريع ، أمثال المطالبة بالخلود في الدنيا ، أو بقطع الرحم ، فإنّ مثل هذا الدعاء لا يقبل الاستجابة ، أي أنّ هذه الأدعية لا تكون تطبيقات حقيقية للدعاء .

4 ـ مجانسة شؤون الداعي كلّها مع الدعاء :

ويشترط أيضاً أنْ تكون شؤون الداعي ـ كلّها وشتّى مجالات حياته وأبعادها ـ متناغمة مع الدعاء ومواكبة له ، فلابدّ أنْ تكون جميعها متطابقة بدورها أيضاً مع أهداف التكوين والتشريع ، فالقلب لابدّ أنْ يكون نظيفاً وطاهراً ، ولم يُسلك لمعيشته طرق الحرام ، ولا يحمل على عاتقه وِزراً ومظلمة لأحدٍ ، وفي حديث عن الأمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا أراد أحدكم أنْ يُستجاب له فلْيَطْلُب كَسْبَه ولْيَخْرُج من مظالم الناس ، إنّ الله لا يُرفع إليه دعاء عبدٍ وفي بطنه حرام ، أو عنده مظلمة لأحد من خلقه ) .

5 ـ أنْ لا يكون مطلوبه من آثار الذنوب :

الشرط الخامس : أنْ لا تكون حالته الراهنة التي يحلم بتغييرها إلى حياة أفضل بالدعاء ، قد حصلت نتيجة عصيانه ، وتهاونه في ممارسة وظائفه وتكاليفه ، فيجب أنْ لا تكون الحالة التي عليها الداعي ، والتي يدعو من أجل تغيّرها ، عقوبة في حقّه ، ونتيجة منطقية لِمَا اقترفه من ذنوب ، واستهانة بوظائفه ، فإنّ حالته حينئذٍ لا تتغيّر بالدعاء وحده ، بل لابدّ أنْ يتوب ، ويستغفر ، ويزيل كل أسباب الحالة الراهنة وعواملها .

فمثلاً ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الشرعية ، وصلاح المجتمع أو فساده متوقّف تماماً على تطبيق هذين الأصلين وعدمه ، والنتيجة المنطقية لعدم تطبيقهما هو توفير المناخ المساعد لسيطرة الأشرار على مقدّرات المجتمع ، والعبث بما شاءوا به ، وإذا فرّط المجتمع في ممارسة هذه المهمّة المقدّسة فسوف يتعرّض للعقوبة ، وللنتيجة المنطقية الناجمة من تقصير هذا المجتمع وتفريطه بالوظائف الملقاة على عاتقه ، وطريق الخلاص من الواقع التعيس الذي يعيشونه يتحدّد بالتوبة ، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بمدى ما يملكونه من إمكانات وقدرات ، وبذلك فحسب سيتوصّلون إلى الآمال التي يُحَمّلون بها ( … إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ … )(الرعد:11) وهذه من السنن الإلهية ، وفي رواية معتبرة ( لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو لَيُسَلّطنّ اللهُ عليكم شِرَارَكم فَيَدْعُو خِيَارُكم ثمّ تدعون فلا يُسْتَجَاب لكم ) ، وفي الواقع أنّ مثل هذه الأدعية على خلاف السنن التكوينية والتشريعية .

وهكذا الأمر بالنسبة لمَن يستسلم للبطالة والكسل ، فلا يعمل شيئاً ، بل كل ما يفعله هو الدعاء ، فإنّ هذه الحالة مخالفة للسنن التكوينية والتشريعية . يقول الأمام علي ( عليه السلام ) : ( الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر ) ، فلابدّ أنْ يُضَمّ العمل للدعاء ؛ لأنّ كل واحد منهما يُكْمِل الآخر .

6 ـ يلزم أنْ لا يحلّ الدعاء محلّ العمل :

الشرط السادس للدعاء : أنْ يكون الإنسان محتاجاً واقعاً ، ويتحقّق ذلك في المجال الذي لا يمتلك فيه الإنسان أيّ وسيلة وسبيل للوصول لمطلوبه ، حيث يكون عاجزاً عن التوصّل إليه ، وأمّا لو وضع الله تعالى في يده مفتاح حاجته ، ولكنّه كفر بتلك النعمة الإلهية ، وتجنّب استخدام هذا المفتاح ، ثمّ يطلب من الله أنْ يفتح له تلك الباب التي يمتلك مفتاحها ، حتى لا يتحمّل عناء استخدام المفتاح ، فمثل هذا الدعاء لا يقبل الاستجابة .

ومثل هذه الأدعية يلزم عدّها من الأدعية المخالِفة للسنن التكوينية ، إنّ الإنسان يستهدف من الدعاء تحصيل القدرة ، والدعاء في مثل هذه الحالة التي تتوافر فيها القدرة لدى الإنسان من قبيل تحصيل الحاصل ، وقد أشير لهذه الفكرة في بعض الروايات التي وردت عن أئمّة الدين ( عليهم السلام ) .

فقد روى جعفر بن إبراهيم عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال :

( أربعة لا يُستجابُ لهم دعوة : رجل جالس في بيته يقول : اللّهمّ ارزقني ، فيُقال له : أَلَمْ آمُرُكَ فِي الطَلَبِ ؟

ورجل كانت له امرأة فاجرة ، فدعا عليها ، فيُقال له : أَلَمْ أجعل أمرها إليك ؟

ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللّهمّ ارزقني ، فيُقال له : أَلَمْ آمرك بالإصلاح ( بالاقتصاد ) .

ثمّ قال : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً )(الفرقان:67) .

ورجل كان له مال فأدناه رجلاً ولم يُشْهِد عليه فجَحَدَهُ ، فيُقال له : أَلَمْ آمرك بالإشهاد ) .

ومن الواضح أنّ عدم الاستجابة لا تختصّ بهذه الأربعة ، فإنّها قد ذُكرت من باب المثال ، فإذا تمكّن الإنسان من التوصّل لأهدافه بواسطة العمل والتدبير ، ولكنّه قصّر في ذلك ، ويرغب في أنْ يَحِلّ الدعاء محلّ عمله ، فإنّ ذلك لا يتحقّق أبداً . إنّ الدعاء لم يُشرّع حتى يُتّخذ موقع العمل ، بل الدعاء مكمِّل للعمل ، ولا يَحلّ محلّه .

تساؤلات حول الدعاء :

قد طرحت حول الدعاء تساؤلات عديدة ، قديماً وحديثاً ، أمثال أنّ الدعاء لا يتلائم والاعتقاد بالقضاء والقدر ، فمع الاعتراف بأنّ كل شيء محدّد وِفق القضاء والقدر الإلهي ، فما هو أَثَر الدعاء حينئذٍ ؟ وهل يمكن له تغيّر القضاء والقدر .

وقد يُسأل ، بأنّ الدعاء لا يتلائم والاعتقاد بأنّ الله حكيم ، وأنّه لا تجري الأمور إلاّ وِفق المصالح ، فهل نستهدف بالدعاء أنْ يغيّر ما يوافق الحكمة والمصلحة ، أو ما يخالفها ؟ فإذا  كنّا نستهدف تغيير الموافق للحكمة ، فكما يلزم علينا أنْ لا نطلب من الله ما يخالف الحكمة ، وكذلك فإنّ الله لا يستجيب لمثل هذا الدعاء ، وأمّا إذا استهدفنا تغيير المخالف لها فذلك يستوجب الاعتراف ضمنياً بوجود ما يخالف الحكمة والمصلحة في هذا العالم ، الذي يجري وفق المشيئة الإلهية الحكيمة .

وكذلك قد يُسأل بأنّ الدعاء يخالِف الرضا والتسليم ، وأنّه يلزم على الإنسان أنْ يرضى بكل ما يحدث .

ولهذه الأسئلة ، وما يدور حولها من دراسات وبحوث تاريخ طويل ، وحتى أنّها تشكّل جانباً من أدبنا ، ولسنا في صدد البحث عنها ، وكل هذه الاعتراضات والشبهات ناتجة من هذه الفكرة وهي : ما يتوهّم مِن أنّ الدعاء خارج عن نطاق القضاء والقدر الإلهي ، وخارج عن حدود الحكمة الإلهية ، مع أنّ الدعاء واستجابة الدعاء من مسائل القضاء والقدر الإلهي ، ولا ينافي الدعاءُ الرضا بالقضاء والقدر الإلهي ، ولا مجال لنا للبحث أكثر حول هذا الموضوع .

ليالي القدر :

لابدّ أنْ نحتذي في سلوكنا وحياتنا خطى قادة الدين ، ولابدّ من التزوّد من هذه الفرصة الثمينة ، وهي ليالي القدر والعشرة الأخيرة من شهر رمضان المبارك .

يقول القرآن الكريم : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) ، وقد ذُكرتْ هذه الآية الشريفة خلال آيات الصوم ، ولعلّ في ذلك دليلاً على تميّز هذا الشهر المبارك بالدعاء والاستغفار ، وكان أئمّة الدين يهتمّون كثيراً بليالي القدر ، والإحياء فيها ، وكان الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) لا يمدّ فراشه في العشرة الأخيرة من شهر رمضان المبارك ؛ وذلك لأنّه كان يعتكف بالمسجد ، ويتفرّغ للعبادة والدعاء مع خالقه ، وكان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لا ينام أيّ ليلة من ليالي شهر رمضان ، ويقضي الليل أمّا بالدعاء أو الصلاة ، أو بإعانة الفقراء والضعفاء ، وفي السحر كان يتلو الدعاء الذي يُعرَف بدعاء أبي حمزة الثمالي .

لذّة الدعاء والانقطاع :

أولئك الذين عَرفوا وذاقوا لذّة الدعاء وحلاوة الانقطاع من الخلق للخالق ، لا يرجّحون أيّ لذّة عليها ، إنّ الدعاء في تلك اللحظات يسمو إلى ذروة عزّته وعظمته ولذّته ، ويغرق فيها الداعي بسعادة عامرة ، حيث سيرى اللطف والمدد الإلهي الخاص ، وآثار الاستجابة لدعائه في نفسه ( وَأَنِلْنِي حُسْنَ النَظَرِ فِي مَا شَكَوْتُ وأَذِقْنِي حَلاَوَةَ الصُنْعِ فِيْ مَا سَأَلْتُ ) .

ويقول العلماء ، هناك فرق بين : ( علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين ) ، ويضربون لذلك مثالاً ، لنفرض أنّه كانت هناك نار في موضعٍ ما ، فتارة ترى آثار النار من بعيد ، كالدخان الذي يتصاعد منها ، وبواسطته تكتشف وجود النار هناك ، وهذا يُعبَّر عنه بـ ( علم اليقين ) . وأخرى تقع عينك على النار نفسِها عن كثب ، وهنا ما يُعبَّر عنه بـ ( عين اليقين ) والمشاهد أسمى من المعلوم . وثالثة أنْ تقترب إلى النار أكثر ، إلى الحدّ الذي تصل فيه حرارتها إلى بدنك ، وتحتويك النار ، وهذا ما يُسمّى بـ ( حق اليقين ) .

فيمكن للإنسان أنْ يعرف الله تماماً ويؤمن بوجوده المقدس ، ولكن لا يرى في حياته آثار لطفه وعناياته الخاصّة التي تفاض أحياناً لبعض عباده ، وهذه مرحلة ( علم اليقين ) ، وأحياناً يشاهد آثار التوحيد عمليّاً ، يدعو الله ويستجاب دعاؤه ، ويرى كل ذلك ، ويعتمد على الله ، ويتوكّل عليه في كل أعماله ولا يعتمد على غيره ، ويرى آثار التوكّل في حياته ، فيشاهد آثار التوحيد وهذه مرحلة ( عين اليقين ) ، وتشعر هذه الفئة باللّذة والسعادة ؛ لأنّها من أهل القلوب وأهل التوكّل ، وتبتهج من هذه الحالة ، ولكن هناك مرحلة أسمى ، أنْ يرى الداعي نفسَه قد ارتبط بذات الله بصورة مباشرة ، بل لا يرى ( الأنا ) ، ولا يُبْصِر نفسه ، فالفعل فعله ، والصفة صفته ، ويراه في كل شيء ، حين يتعلّم الإنسان حِرْفَة أو عِلْماً ما ، ويصبح طبيباً أو مهندساً مثلاً ، وبعد سنين  طويلة من المتاعب والمشاق والجهود المضنية حين يشاهد لأوّل مرة آثارَ صنعته ، أو عمله ، كما لو عالج مريضاً ، ويرى نُصب عينيه أنّ المريض يبرأ من مرضه بسبب علاجه ، يغرق هذا الشخص بالسعادة ويمتلكه الفرح ، ويشعر بلذّة غامرة ، فمِنْ أفضل اللّذّات أنْ يرى الإنسان بعينيه نتائج علمه وصنعته .

فما هي حالة الإنسان ، وما هو شعوره حين يشاهد آثار إيمانه ، أي يلمس المدد الإلهي الخاص به ، فإنّه سيشعر بالعزّة نتيجة نجاحه في طريق التوحيد ، ويشعر ببهجة فائقة تغمر أعماقه أعذب وأسمى من اللذّات جميعها ، ندعوه تعالى أنْ يجعلنا مؤهّلين لمثل هذه الألطاف الخاصّة .

***

قال المترجم :

وفي نهاية البحث ، وبعد هذه الرحلة الممتعة ، مع هذه الدراسة الحافلة بالآراء والنظرات العميقة ، نحب أنْ نشير إلى بعض الآثار العملية للدعاء ، بغضّ النظر عن الثواب ، أو الاستجابة التي ينشدها الداعي من دعائه .

1 ـ الإيحاء الذاتي :

إنّ الأدعية المنصوصة تتضمّن الكثير من التعاليم الإسلامية حول مختلف مجالات الحياة الاقتصادية ، والسياسية ، والاجتماعية ، والنفسية ، وغيرها ، ومن المسلّمات في علم النفس والأخلاق ، ما تملكه ( عملية الإيحاء الذاتي ) من التأثير في دفع الإنسان إلى تمثّل ما يلقّنْ ، وما يوحَى به إلى نفسه ، وإلى تطبيقه عمليّاً ، ومثاله : ما يلاحَظ كثيراً من تكرار فكرة الشهادة والجهاد في الأدعية ، وهذا ما يؤدّي إلى ترسيخ روح الشهادة والجهاد في قرّاء هذه الأدعية ، فإنّ تكرار قراءة الدعاء وتلقين النفس باستمرار بالتعاليم السامية التي تتضمّنها الأدعية ، ممّا يحثّ الإنسان على تطبيقها عمليّاً في سلوكه وحياته .

2 ـ الشعور برقابة الله :

إنّ الإسلام قد شجّع على الممارسات التي تزيد من توطيد الصلة بين الإنسان وربّه ، ولعلّ مِن حكم الصلاة تذكيرَ الإنسان بربّه حين يؤدّي هذه الوظيفة الإلهية التي تشمل على الدعاء في كلّ أجزائها ، ويكرّرها يوميّاً أكثر من مرّة ، فإنّها تؤدّي إلى أنْ يكون أكثر شعوراً برقابة الله في حياته ، فإنّ مَن لم يمارس الممارسات والنشاطات التي تتضمّن هذا الشعور المقدّس ، ربّما يتضاءل ، بل ويُضمر في نفسه هذا الإحساس برقابة الله ؛ نتيجةً لضغط العلاقات الدنيوية والأجواء المادّية التي تكشفه وتحيط به ، والإحساس برقابة الله من العوامل الفاعلة التي لها تأثيرها الكبير في شدّ الإنسان بالشريعة الإلهية ؛ ليلتزم بما يُرضي الله ، ومِن هنا استخدم الإسلامُ الكثير من الأساليب ؛ لزرع هذا الشعور المقدّس في أعماق الإنسان ، وترسيخه ، وتعميقه ، ومنها الدعاء الذي ينتشل الإنسان في بعض اللحظات ، من زحمة العلاقات الدنيوية ليعيش في تلك اللحظات مع ربّه ، يناجيه ، ويبتهل إليه ، وبذلك يرسخ في نفسه الشعور برقابة الله ، أكثر ، وأكثر .

3 ـ القدرة على الكفاح :

إنّ قراءة الأدعية ، وقيام الليل ، والمناجاة ، تزيد من قدرة الإنسان وتصميمه على تحمّل متاعب الحياة ومصاعبها ، وهنا ما دلّتْ عليه التجربة ، فإنّ مَن يمارس الدعاء ممارسة فاعلة ،  ويلهج بذكر الله دائماً ، يكون أكثر اقتداراً ، وأقوى إرادة من غيره ، ويكون متميّزاً بطاقة روحية هائلة ، ولعلّ هناك علاقة سببيّة بين الشطر الأوّل ، والشطر الثاني ، من البيت التالي الذي قيل في مدح الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : 

هو البَكّـاءُ فِي المِحْرَابِ لَيْـلاً    هُوَ الضَحّاكُ إِذَا اشْتَدَّ الضِرَابُ

أي إنّ مَن يقوم في الليل ، ويبكي في المحراب ، ويناجِي رَبّه في تلك الساعات ، سيكون ضاحِكَاً في ساحات الحروب ، ولعلّه لهذا السبب وغيره يؤكّد الإمام الخميني على قراءة الأدعية قراءة فاعلة ، مثمرة ، لا كما يفعله الغائبون عن الحياة العملية ، فيقرأ الدعاء ليكون أكثر اقتداراً على الكفاح والجهاد ، وفي مواجهة المصاعب والعقبات التي تعترض المؤمنين العاملين في سبيل تحقيق طموحاتهم وآمالهم المقدّسة .

ــــــــــــــــــــــ

الأستاذ الشهيد مُرتضَى المُطهّري

* اقتباس أصل المقالة وتنسيقها لقسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنَين ( عليهما السلام ) للتراث والفكر الإسلامي ، أصل المقال بحث مترجم منشور باسم : الدعاء ، تأليف الشيخ مرتضى مطهري ، منشور على الشبكة العالمية على موقع الحكمة ، قسم كتب الدعاء .

 

Loading