الفقه والاخلاق

أولا – الفقه

1 – مفهوم الفقه والتفقه
وردت مفردة «الفقه» ومشتقاتها، وبخاصة «التفقه»، عشرين مرة في القرآن، وتم استعمالها كثيرا في احاديث المعصومين(ع).

يبدو ان جماعة من اهل اللغة حملوا المفردة على معنى الفهم،كما جاء في «المصباح»: «الفقه: فهم الشيء»، مستدلين على ذلك بقوله سبحانه: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)[هود/91]، وقوله: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)[الاعراف/179]، وقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة/122] ((26)). كما سجل الطريحي، في «مجمع البحرين»، ما يقارب هذاالمضمون، بقوله: «فلان لا يفقه، اي لا يفهم»((27)).

لكن معنى الفقه ليس مطلق الفهم، بل هو الفهم العميق.توضيح ذلك، ان معلوماتنا عن الامور والحركات التي ينبض بها العالم هي على ضربين، فتارة تكون معلومات سطحية واخرى تتجاوز معلوماتنا السطح وتتخطاه لتنفذ الى اعماق الاشياء، والى تلافيف الحركات وتضاعيف المسارات، لتسبر أغوارها وتتقصى جذورها ومناشئها. والواقع ان مفردة الفقه تقترن في كل موضع بالفهم العميق وسبر الاغوار((28)).

لقد جاء الامر، في القرآن والروايات الماثورة، ب «التفقه» في الدين. وما تفيده الرؤية الكلية، الناشئة عن مجموع النصوص الامرة، ان الاسلام حث المسلمين على ادراك جميع الشؤون الدينية، سواء ارتبطت باصول المعتقدات ام بالاخلاقيات ام بالتربية الاسلامية ام بحقل العبادات ام بحقل النظام الاجتماعي، ودفع لوعيها واستيعابها بعمق بابلغ ما تكون البصيرة وانفذها. بيد ان ما تبلور بين المسلمين، منذ القرن الثاني الهجري، كاستجابة للامر بالتفقه والتدليل على معنى المصطلح، هو اقتصاره على «فقه الاحكام» او «فقه الاستنباط»، بمعنى الفهم الدقيق والاستنباط العميق للاحكام العملية الاسلامية من مصادرها الخاصة بها.

والباعث الى هذا التراجع، في معنى التفقه، يعود الى عدم بيان الاحكام الاسلامية ازاء المسائل والوقائع والحوادث على نحوتفصيلي، وبما يرتبط بكل واقعة على حدة. على ان انجاز مثل هذه المهمة لم يكن امرا ممكنا بلحاظ ما يتصف به الاسلام من شمول وعالمية، وبحكم ان هذا الدين هو خاتم الاديان.على ضوء هذا كله يتحتم على الفقيه ان يتجه الى المصادر المعتبرة لاستنباط احكام الوقائع والحوادث، ومن ثم صارت الفقاهة تواما للفهم العميق المستبصر الدقيق الشامل، كما أو ماوا الى ذلك في تعريف علم الفقه: «الفقه، هو العلم بالاحكام الشرعية الفرعية عن ادلتها التفصيلية». ويلحظ، في التعريف،عدم تخطي منطقة الفقه الى المسائل ذات الصلة بالاصول العقيدية او بالحقل التربوي، واقتصاره على الاحكام العملية وحدها.

تاسيسا على ما مر، صار علم الفقه اوسع العلوم الاسلامية مدى واشملها افقا، وهو من الوجهة التاريخية اكثرها قدما((29)).

للقول: ان مفردتي «الفقه» و«التفقه» تدلان، في نعود القرآن، وفي جزء اساسي من الروايات، على معنى التوفرعلى البصيرة بالدين كله، وسبر اغواره وفهمه بتمام اصوله وفروعه وبجميع ما ينطوي عليه من معارف دينية، ولا دلالة لهما على الاقتصار على جزء من الاحكام العملية، وهو ما يعنيه مصطلح الفقه بمعناه المتداول.

ممن استدل بذلك العلامة الطباطبائي، في خاتمة آية «النفر»، حيث ذكر((30)): «ان المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية من اصول وفروع، لا خصوص الاحكام العملية، وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، والدليل عليه قوله: (لينذروا قومهم)، فان ذلك امر انما يتم بالتفقه في جميع الدين»((31)). من الواضح ان هذا الاستنباط لمعنى التفقه هو عام وشامل، يضم بين ثناياه فهم الدين كله.

سلك هذا المنحى نفسه الشيخ البهائي، فعند مكوثه مع الحديث المشهور: «من حفظ من امتي اربعين حديثا ممايحتاجون اليه في امر دينهم، بعثه الله عز وجل يوم القيامة فقيها عالما»((32))، ذكر انه ليس المراد من الفقه في الحديث «الفهم» ولا «العلم بالاحكام الشرعية العملية»، فهذا معنى مستحدث، بل المراد به البصيرة في امر الدين، حيث يقول نصا: «والفقه اكثر ما ياتي في الحديث بهذا المعنى، والفقيه هوصاحب هذه البصيرة… ثم هذه البصيرة اما موهبية، وهي التي دعا بها النبي(ص) لامير المؤمنين علي(ع)، حين ارسله الى اليمن بقوله(ص): (اللهم فقهه في الدين)، او مكتسبة، وهي التي اشار اليها امير المؤمنين(ع)، حيث قال لولده الحسن(ع): (وتفقه يا بني في الدين)»((33)).

بيد ان معنى المصطلح ما لبث ان ضاق عن سعته، فاكتسب معناه المتداول حاضرا، من انه «العلم بالاحكام الشرعية العملية عن ادلتها التفصيلية»((34)).

2 – تحولات المصطلح على مر العصور
لقد اكتسبت مفردة الفقه معاني واصطلاحات مختلفة على مرالتاريخ، وخضعت لمراحل متعددة كما اسلفنا. سنمر في ماياتي بهذه التحولات والمراحل باختصار:

أ – فقه مكة (الفقه الاكبر): بدات هذه المرحلة على عهدرسول الله(ص)، واستغرقت مدة وجوده في مكة منذ البعثة الى ثلاث عشرة سنة من بعدها. والمقصود من الفقه في هذه المرحلة معناه العام الذي يضم المعارف الدينية التي تشمل المعتقدات (الحكمة النظرية) والابعاد الاخلاقية، والامورالتربوية وكذلك الاحكام والمسائل العملية (الحكمة العملية). والفقه بهذا المعنى هو الشريعة نفسها.

ب – فقه المدينة: وهو ينتمي الى عهد رسول الله(ص)، ايضا،ويشمل المدة التي وافى فيها النبي المدينة المنورة قادما اليهامهاجرا من مكة المكرمة، واستغرقت عشر سنوات هي مدة مكوثه فيها. المقصود من الفقه، في هذه المرحلة، معناه الخاص الذي لا يزال ساريا حتى اللحظة، ما يعني ان يكون الفقه في هذه المرحلة شاملا للاحكام الشرعية الفرعية العملية، من عبادات ومعاملات ومسائل حقوقية وجزائية وماالى ذلك.
على ان المراد من هذا المعنى الخاص للفقه في المدينة، مايشمل في مداه نزول خمسمئة آية من آيات الاحكام في تلك المدة، وبهذا المنظور يكون الفقه جزءا من الشريعة ويكون له معنى اخص منها.

ج – الفقه الاجتهادي وانبثاق الرسائل العملية: بدات هذه المرحلة في الوقت الذي بادر فيه الفقهاء الى ممارسة الاجتهاد وعملية الاستنباط عمليا من المصادر الاساسية، بغية معرفة احكام الحوادث الواقعة، وبغية بيان حصيلة استنباطاتهم وماتتمخض عنه اجتهاداتهم الى الناس بخاصة. يبدو ان هذه المرحلة بدات مع الشيخ الطوسي (المتوفى سنة 460ه) اواخر منتصف القرن الخامس الهجري. على ان تنظيم الفتاوى وتقديمها في صيغة الرسائل العملية الموجودة حاضرا، يعودالى اوائل القرن الثاني عشر الهجري، وقد تم على يد الشيخ البهائي (المتوفى سنة 1130ه).

على هذا، يمكن ترسم العلاقة بين الفقه بمعناه الاخص الذي يعني احكام المجتهدين وما يستظهرونه من فتاوى يذكرونها في رسائلهم العملية، عبر ممارسة اصول الاستنباط ومصادره، وبين الشريعة، بانها عموم وخصوص من وجه، لان العنصر المشترك بين الطرفين يتمثل بالاحكام المتطابقة مع الكتاب والسنة. اما مادة افتراق الشريعة او عنصرها، فيرجع الى تلك الاحكام ذات الصلة باصول العقيدة او بالامور الاخلاقية التي تعد جزءا من الشريعة، لكن من دون ان يطلق عليها عنوان الفقه بمعناه الاخص. اما مادة افتراق الفقه بالمعنى الاخص،فتتمثل في تلك الاحكام التي يتوفر المجتهد على استنباطهامن خلال ممارسة الاجتهاد بمعرفة الادلة التفصيلية، وهي لاتتطابق مع الاحكام الواقعية.

وبحسب منهج المخطئة الذي يؤمن به فقهاء الامامية وعدد من فقهاء اهل السنة، ويقع في القطب المعاكس لمذهب المصوبة،بحسب هذا المنهج يطلق على الحصيلة التي يتمخض عنهاعمل الفقهاء عنوان الفقه، وهو حجة على الناس، اذ تكمن الوظيفة العملية لهم بانجاز تلك التكاليف والعمل بها، لكن من دون ان يعبر عن تلك الحصيلة الفقهية عنوان الشريعة((35)).

3 – منطقة الفقه ودائرة الفقاهة
بملاحظة البنية الداخلية التي ينطوي عليها الدين الالهي،يتطابق هذا الدين مع الفطرة ويتوافق معها توافقا كاملا، ويتسق مع احتياجات الانسان ومتطلباته، ومن ثم ليست هناك مسالة تتحرك في مضمار العلاقات الانسانية قد اهملها الفقه، ذلك ان وظيفة الفقه هي الكشف عن تكليف الانسان الفردوالمجتمع عن علم ومعرفة، كما جاء ذلك في تعريف الفقه،من قولهم: «الفقه: هو مجموعة الاحكام والقواعد المشروعة في الاسلام، التي تنظم علاقة المسلم بربه وبافراد المجتمع الذي يعيش فيه، وكذا علاقة مجتمعه بالمجتمعات والدول الاخرى» ((36)).

على هذا الاساس يمتد المجال الفقهي في نطاق دائرة واسعة،ويشمل منطقة ممتدة مترامية الاطراف، وهو ينطوي على اقسام مختلفة، هي:
1 – الاحكام العبادية، كالصلاة والصوم والحج وامثالها.
2 – دائرة الاحوال الشخصية، التي تشمل احكام الاسرة،كاحكام النكاح والطلاق والتفقه والحضانة والوصية والارشاد وامثالها.
3 – احكام المعاملات والتعامل مع الناس في الحقوق والاموال وامثالها، نظير عقود البيع والشراء والاجارة والهبة والشراكة والمضاربة.
4 – احكام العقوبات والقوانين الجزائية، مثل الحدودوالقصاص والديات.
5 – قوانين المرافعات والقضاء في الدعاوى، مثل الشهادات واليمين واضرابها.
6 – الاحكام الولائية (الاحكام السلطانية) ذات الصلة بمايصدره الحاكم من احكام الى الرعية، والحقوق والتكاليف المتبادلة بينهما وما الى ذلك.
7 – الاحكام التي تنظم العلاقات الدولية للاسلام، مثل الجهاد والسلم ((37)).

وقد نهض الفقهاء بمهمة تصنيف المسائل الفقهية الواسعة في ابواب، باساليب ومناهج متعددة. على سبيل المثال مضى المحقق الحلي (المتوفى سنة 676) في كتابه النفيس: «شرائع الاسلام»، الى توزيع المسائل الفقهية الى اقسام اربعة، هي:
1 – العبادات.
2 – العقود.
3 – الايقاعات.
4 – الاحكام.

المرتكز الذي استند اليه هذا التصنيف هو الاعمال والتكاليف التي ينبغي للانسان ان ينهض بها وفاقا للميزان الشرعي، او مايكون قصد القربة داخلا شرطا فيه بنحو من الانحاء. وهذاالقسم يطلق عليه «العبادات». اما الاعمال التي لا يكون قصدالقربة شرطا في صحتها، بحيث اذا ما وقعت بقصد آخر فهي صحيحة، فهي تقسم الى قسمين: فاما ان لا يكون وقوعها متوقفا على اجراء صيغة خاصة ومحددة، فيطلق عليها عندئذ«الاحكام». واما ان وقوعها يتوقف على اجراء صيغة خاصة، وهذه الاخيرة تقسم الى قسمين: الاول: ان يتوقف اجراء الصيغة فيها على طرفين، يمثل الطرف الاول جانب الايجاب والثاني جانب القبول، فيطلق عليها عندئذ «العقود». الثاني: ان لا تحتاج الى طرف آخر، بل يكفي للطرف الواحد ان يجريها بنفسه، فيطلق عليها عندئذ «الايقاعات».

بعد هذه التصنيف الرباعي للمسائل الفقهية الى عبادات وعقود وايقاعات واحكام، بادر المحقق الحلي الى توزيع المنظومة الفقهية على (52) بابا، عشرة منها في العبادات كالصلاة والصوم والحج، وتسعة عشر بابا في العقود، مثل البيع والرهن والاجارة والشراكة والمضاربة، واحد عشر بابا في الايقاعات نظير الطلاق والعتق والبراء، واثني عشر بابا في الاحكام نظيرالارث والديات والحدود((38)).

4 – موضوع علم الفقه
موضوع علم الفقه هو «افعال المكلفين». فكل من بلغ سن التكليف تقع على عاتقه من الوجهة العملية والحكمية تكاليف وواجبات واوامر ونواه ينبغي له ان يمتثلها، وهذه الدائرة هي التي يطلق عليها افعال المكلفين. على هذا الضوء، فان ما يصدرعن المكلف، وما يطلب منه، هو عبارة عن اقواله وافعاله وعقوده وتصرفاته، وهو اعم من ان ينطوي على البعد الاثباتي(ان يكون فعلا) او السلبي، وكذلك اعم من ان يكون الحكم الزاميا (الوجوب والحرمة) او ترجيحيا (الاستحباب والكراهة) او تخييريا (الاباحة)((39)).

لقد بادر السيد محسن الكاظمي الى بيان هذه المسالة على نحو طريف في اول منظومته الفقهية، حيث يقول:

«الفقه علم بفروع ديننا
عن قطع او ظن لنا قد بينا
بالقطع حجيته والغاية
سعادة الاخرى بلا نهاية
موضوعه المبحوث عنه فعلنا
مكلفين نذكر البعض هنا»((40)).

5 – الهدف من تشريع الفقه
تفضي اية عملية تامل اجمالية في عالم التكوين ووضع الخليقة، الى انه ما من شيء الا وهو يخضع الى اساس وهدف وحكمة، ويستند في خلقه الى النظم والتدبير، تماما كما يومى القرآن الكريم الى ذلك، بقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[المؤمنون/115]. ابدا، ليس الامركذلك، اذ يسجل القرآن مستانفا: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ). على هذا لسنا نحن بني الانسان كالانعام والبهائم متروكين سدى او مخلوقين عبثا، بل تقع علينا وظائف وتكاليف، وما خلقنا الا لتحقيق الهدف المنشود، على ما يسجل القرآن الكريم، في قوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)[القيامة/3]؟ أبدا، اذ من الثابت ان فعل الله الحكيم لا يكون عبثيا او جزافا لا غاية ترجى من ورائه. كما ان الثابت ايضا ان الهدف المرجو من افعاله، لا يرجع بالنفع اليه، فهو المطلق من كل جهة، الغني بالذات، ومن ثم فان الهدف المنشود من الخليقة هو سعادة العباد وفلاحهم.

عندما نرجع الى مفردة «سدى» نرى انها تعني، في الاصل،الحركة من دون فكر وتدبير ونظم صحيح((41)). فاذا، اذاما ترك الانسان لحاله ومصيره من دون ان يخضع لنظام خاص وينضبط في اطار برنامج محدد، مع ما يحمله من استعدادات وما يتوفر عليه من طاقات فكرية وقوى مادية وامكانات مختلفة،فسيتعارض ذلك وحكمة الله سبحانه. والسؤال عندئذ: كيف تتامن السعادة والفلاح، وهماالهدف المنشود من الخلقة؟ السعادة هي مفهوم ينتزع من دوام اللذة وشمولها، ولذتها هي حالة نفسية يدركها الانسان بعد ان يبلغ مقصده وما يريده.والحقيقة ان السعادة والكمال، وان بديا متباينين مفهوما، الاانهما وجهان لعملة واحدة. فمعنى الكمال هو الحصول على المزايا الممكنة للنوع، وسعادته تتحقق في الوقت الذي يحصل فيه الانسان على المزايا الممكنة (المتمثلة بمتطلباته الواقعية واحتياجاته المادية والمعنوية)، ويبلغ اللذة من تحقيق مراده، وعندما تكتسب اللذة طابع الدوام والاستمراروالشمول، فهو عندئذ سعيد.

ما دامت متطلبات الانسان واحتياجاته متنوعة، وما دامت بعض الاحتياجات والمتطلبات تنبثق في سنين معينة، او لا تتيسر الافي ظل اوضاع خاصة، ولما كانت هناك عوامل اخرى لهاتاثيرها، مثل تشخيص الطريق الصحيح لتلبية الحاجات واشباع الاستعدادات المتفتحة وبخاصة في النوع الانساني الذي ينطوي على ابعاد وجودية متعددة، وله احتياجات مادية ومعنوية معا، وكذلك ما يكتنف عملية ترجيح اللذائذ الاكثر سموا ودواما وانتخاب الصحيح منها في مواقع التزاحم، ما دام ذلك كله يكتنف النوع الانساني ويحاصره فلا مناص لنا من وجوب تسليم الامر الى الله العليم الحكيم، ومن ان نلوذ بالجواد الفياض.

هكذا الحال بالنسبة الى الفقه، اذ تاتي مسيرته في تنظيم العلاقات الانسانية لتعبر، في نهاية المطاف، عن هذه الصيغة،صيغة تسليم الانسان امره للعليم الحكيم.

ثم نقطة اخرى تتمثل في اننا جميعا عباد مملوكون الله ملكية حقيقية وتكوينية، وما دمنا لسنا مهملين بل مكلفون، فينبغي لناان نفهم طبيعة تكليفنا في هذا العالم. السؤال اذا: ما هو تكليفنا؟ تكمن الفلسفة الوجودية للفقه في ادراك المكلفين لوظائفهم وتكاليفهم العملية وما يرتبط بهم من واجبات واوامر ونواه، والغاية منه بلوغ المراحل العالية للكمال. فعلى اثر التزام المسلمين بالحلال والحرام، وتحركهم في نطاق الواجبات والتكاليف العملية، يبلغون الكمال الروحي والمعنوي، ويكونون اكثر قربا من الله الذي يمثل الكمال المطلق.

6 – مصادر الفقه
المنبع او المصدر هو بمعنى المنبثق، وينقسم في الفقه الى نطاقين:
1 – المصادر الذاتية.
2- المصادر الكشفية.

1 – تمثل الارادة التشريعية الله، سبحانه، المصدر الذاتي للفقه، هذا المصدر الذي يبين منشا مشروعية حق الطاعة الواقع على عاتف المكلفين. والباعث الى ان تكون الارادة التشريعية الله هي المصدر الذاتي، يتمثل ب« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ». فما دام الله، سبحانه، خالقنا وله ربوبيتنا التكوينية،فربوبيتنا التشريعية له سبحانه ايضا. على هذا الضوء ينهض الفقه بمسؤولية بيان ارادة الله لعباده المكلفين.

2 – اما المنافع الكشفية، فتعني المصادر التي يمكن بوساطتهاالكشف عن الارادة التشريعية الله. وهذه النقطة هي التي تفسرحصر مصادر الفقه بالقرآن والسنة والعقل، وما القياس والاستحسانات والمصالح المرسلة وغيرها سوى ضرب من الخيال وفرض ارادة البشر بدلا من ارادة الله سبحانه، ولا قيمة لها. اما الاجماع فلا يكون حجة الا اذا كان كاشفا عن راي المعصوم(ع)، وبقية الادلة تعد منبع فرعية تتم لها الحجية في حال رجوعها الى المصادر الاولية الاصيلة متمثلة بالقرآن والسنة والعقل((42)).

ثانيا – الاخلاق

1 – مفهوم الاخلاق
ذكر الباحثون للاخلاق العديد من التعريفات، منها:

1 – عدت بعض النصوص الاخلاق عبارة عن: «الخلق والطبع الراسخ في النفس». وهذا المعنى يعادل مفهوم م ث& – 129; آثتت ل الذي يعني عادة النفس وحقيقة طبعها في ردود الفعل العملية الصادرة عن الانسان، حيث يقال مثلا: ان فلانا حاد الطبع او له اخلاق حادة وخشنة.

ذكر الغزالي (المتوفى سنة 505ه) والسيد عبدالله شبر(المتوفى سنة 1242ه)، في تعريف الاخلاق، ما نصه: «عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الافعال بسهولة ويسرمن غير حاجة الى فكر وروية»((43)).

وذهب المحقق نصير الدين الطوسي (المتوفى سنة 672ه)الى ان هدف علم الاخلاق ايجاد الطبع والطبيعة التي تقودارادة الانسان، على النحو الذي يرتضي ما يصدر عنه بارادة((44)).

2 – يقصد بالاخلاق، احيانا، النظريات التي تدورحيال السلوك الانساني: الحسن والسيى، المصيب والمخطى،والطيب والخبيث، وهو ما يعادل المفردة اللاتينية «ETHICS». وهذا المفهوم هو المتداول في نطاق «الحكمة العملية».
الواقع يرجع منشا هذا المفهوم الذي يرى ان الفصل، ازاءالفضيلة والرذيلة، موجود في جوهر الانسان، الى ارسطو. كماان النظرية الفلسفية التي تذهب الى ان هدف الاخلاق هوتنشئة الانسان على الفضيلة والتقى، تنهل من هذه الرؤية. فما يذهب اليه ارسطو هو ان العدالة فضيلة يعبر عنها بملكة تحث الانسان على التقوى، وتميز بين الفضيلة والرذيلة((45)).
ما يلحظ، على هذا الصعيد، ان المرتكز او المبنى الذي يستنداليه بحث كثير من علمائنا في الاخلاق كالنراقي (المتوفى سنة 1209ه) من الالتزام بالعدالة وطرح بحث «نظرية الوسط والاطراف في الاخلاق»، انما يتمثل بهذه الرؤية((46)).

3 – ذكروا للاخلاق معنى يفيد بانها «مجموعة قواعد تفضي رعايتها الى الصلاح وبلوغ الكمال اللازم. وبهذه المثابة تعدقواعد الاخلاق هي معيار تشخيص الحسن والقبيح». ثم ان لاحترام هذه القواعد والالتزام بها منشا في ضمير الانسان وطبيعته، من دون ان تكون هناك حاجة لتدخل الدولة، فالانسان يحترم هذه القواعد وجدانيا، ويتعامل معها بوصفهاقواعد ملزمة له((47)).

على ضوء هذا التعطي مع الاخلاق عرف السناتور توماس داكن الاخلاق، بانها: «قاعدة السلوك الانساني». المقصود من السلوك الانساني هو الفعل الذي يقوم به الانسان العاقل بارادة حرة، بامر من العقل، لبلوغ هدف يتوخى العقل تحققه. وبذلك يمكن القول: ان الفعل الذي ينجز بارادة حرة، هوموضوع الاخلاق، اما الفعاليات غير الارادية والغريزية والاجبارية، فلا تشملها صفة «الفعل الاخلاقي» سواء اكانت حسنة ام قبيحة((48)).

2 – موضوع علم الاخلاق
لكل علم موضوع، وموضوع علم الاخلاق هو روح الانسان ونفسه الناطقة، من حيث قابليتها على الاتصاف بالصفات والخصائص الحسنة او السيئة((49)).

بعبارة اخرى، يمكن القول: ان موضوع علم الاخلاق، هو«فعل الانسان وسلوكه العملي»((50)). وانطلاقا من قاعدة ان شرف كل علم يكمن في شرف موضوعه والغاية المرجوة منه، فان علم الاخلاق يعد من اشرف العلوم((51)). ومرد ذلك شان الانسان ومكانته، فالانسان من بين الموجودات جميعها هو سيدها واكرمها في عالم الوجود، وانسانية الانسان تكمن في روحه، التي تعد موضوع علم الاخلاق.

3 – هدف علم الاخلاق
يتمثل هدف الاخلاق، في المنظور الاسلامي، في سعادة الانسان وكماله الابدي، اي بتقربه الى الله. فالغاية القصوى للسعادة والمرتبة الاخيرة فيها تتمثل في تشبه الانسان في صفاته وخلقه بالحق سبحانه وصفاته((52))، انطلاقا من ان الله سبحانه هو النقطة المركزية التي تتجمع فيها الصفات المتعالية كافة: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[الاسراء/110]. ومغزى الاخلاق الاسلامية، هو الاتصاف بهذه الصفات العليا السامية، والتخلق باخلاق الله، والصيرورة بصبغته سبحانه، وهذا على وجه الدقة هو معنى التقرب الى الله، وتبوؤ مقام الخلافة الالهية الرفيع.

توضيح: تنقسم الفلسفة، او الحكمة، منذ القديم، الى قسمين هما: الحكمة النظرية والحكمة العملية. والحكمة النظرية تعني العلم بالاشياء كما هي او كما ستكون. فهناك حقائق مستقلة عن وجود الانسان وعدم وجوده، يكمن كمال الانسان بمعرفتها، مثل البحوث العقيدية في التوحيد والنبوة والمعاد. اما الحكمة العملية التي تمثل الاخلاق احدى شعبها، فهي عبارة عن «علم تدبير الحياة والمعاش» او «العلم بكيف ينبغي ان تكون الحياة والمعاش».

تاسيسا على التمييز السالف، تصير الحكمة العملية عبارة عن العلم ب «تكاليف الانسان ووظائفه»، ما يعني وجود اصل موضوعي تم الانطلاق منه، يفيد بوجود مجموعة من التكاليف والمسؤوليات الواقعة على عاتق الانسان. يتركز البحث في الحكمة العملية على دائرة «ما ينبغي» و«ما لا ينبغي» فعله، و«ما ربما» و«ما لا ربما» يكون، في حين ينصب البحث في الحكمة النظرية على دائرة «ما موجود» و«ما ليس بموجود». وبذلك يصح القول: ان الاخلاق تريد ان تجيب الانسان عن سؤال: ما هي الحياة الصالحة للانسان؟ ومن ثم يدخل في مقومات الفعل الاخلاقي مسالة: «كيف ينبغي للانسان ان يعيش حياة مقرونة بالقيم، وبما هو مقدس ومتعال».

وفي السياق نفسه، يكون التوفر على القيم والتحلي بالتفوق على مستوى الفعل العادي، هو من خصائص «الفعل الاخلاقي». فالاخلاق تمنحنا قواعد لتنظيم كيفية الحياة من زاويتين ترتبطان بطبائع الانسان وملكاته، هما: زاوية «طبيعة السلوك وكيفيته»، وزاوية «كيف ينبغي للانسان ان يكون»((53)).

4 – منابع القواعد الاخلاقية
اذا اردنا ان لا نطيل الكلام، ونغض النظر عن البحوث النقدية التي تتصل بهذه الدائرة من البحث، يمكن القول: ان الانسان قادر، من خلال جبلته ووجدانه وبنيته التكوينية، على ان يميزبين الحسن والقبيح، وان الله سبحانه الهمه هذه القابلية: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس/8]. نسجل هذه الحصيلة انطلاقا من ايماننا بدور العقل الذي يستطيع عبر فطرته وتكوينه الخاص ان يصل الى القواعد اللازمة في الحياة، على ما توفر علماؤنا على دراسته في بحث «المستقلات العقلية» من مباحث اصول الفقه. بيد ان الاحكام التي يصل اليها العقل هي احكام كلية، اضافة الى ان قدرات العقل تنوء بالعجز، وبخاصة في مجال تحديد المصاديق على نحو دقيق، كما في دائرة تشخيص موجبات السعادة والشقاء، وما يدخل في نطاق المصالح والمفاسد الاخروية. على هذا يرشدنا عجز العقل والنقص الذي تتصف به احكامه في الموارد كافة، الى ان سبيل السعادة يكمن بالتوسل بمصادر الوحي واتباع ما جاء به الرسول الاعظم(ص) واهل بيته والانبياء العظام(ع).

فالله، سبحانه، هو مصدر الفيض، وهو الخير المطلق، وهو مبدا العلم والحكمة المطلقين، والعقل الانساني من جهته عاجزعن ان يدرك هذا الفيض والخير والحكمة ادراكا كاملا: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الاسراء/85]، ومن ثم ينبغي ان نمد يد الحاجة الى تعليمات انبيائه وما جاءت به رسله، لكي نتوفر على المعرفة التفصيلية والمصداقية الدقيقة الكاملة: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة/216]. من هذه الزاوية، تحتاج الاخلاق الى مصدر اعلى من العقل، ويكون المنبثق الاساسي لها هو قوة الحب وجذبة الاطهارالذين لهم الاهلية واستعداد ادراك الاوامر الالهية، وهذا نفسه هو الذي نطلق عليه اسم «الاخلاق الدينية». ان اسلوب الاشراق الاخلاقي((54)) والسلوك العرفاني لا يمكن ان يعبر عن منهج ثابت ومستقر وطريقة تبعث على الثقة والاطمئنان، ما لم يستند الى الدين وتكون اصوله ومرتكزاته مستمدة من الشريعة الاسلامية، وخاضعة الى الاحكام الفقهية والقواعد الدينية((55))، على ما سياتينا عنه الحديث مفصلا.

على ضوء ما مر، ستكون منابع القواعد الاخلاقية، ثلاثة امور،هي:
1 – كتاب الله.
2 – سنة المعصومين(ع).
3 – العقل والفطرة((56)).

ثالثا – نقاط الاشتراك والافتراق بين الفقه والاخلاق

أ- منزلة علم الفقه والاخلاق من حيث علاقة احدهما بالاخر
يوجد، على صعيد هذا الموضوع، اتجاهان: الاتجاه السلبي والاتجاه الايجابي.

I- الاتجاه السلبي
هذا الاتجاه، باهماله لاداءات الفقه ومجالات عمله وما ينهض به، يخفض من شان علم الفقه والمنتمين اليه (الفقهاء) ويعرض به وبهم، ومن ثم يركز على تفارق هذين العلمين وانفصالهما.وفي ما ياتي نمر ببعض المواقف التي يضمها هذا الاتجاه من خلال النقاط الاتية:

الصوفية
يقول الغزالي (المتوفى سنة 505ه) والفيض محسن الكاشاني (المتوفى سنة 1091ه)، في كتاب «ذم الغرور»: «المتصوفة: ومااغلب الغرور عليهم، والمغترون منهم فرق كثيرة… وفرقة وقعت في الاباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الاحكام وسووابين الحلال والحرام، فبعضهم يزعم ان الله مستغن عن عملي فلم اتعب نفسي! وبعضهم يقول: قد كلفوا الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا… وبعضهم يقول: الاعمال بالجوارح لا وزن لها، وانما النظر الى القلوب وقلوبنا والهة الى حب الله، وواصلة الى معرفة الله» ((57)).

الملامتية
يذكر ابو حامد، في «احياء العلوم» والفيض الكاشاني في «المحجة البيضاء» منهاج الملامتية واسلوبهم في التربية والبناء،وينقدانه، ومن ذلك قولهما: «واما من حيث العمل، فاسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة افعال يلام عليها، حتى يسقط من اعين الخلق… وهذا هو منهاج الملامتية، اذ اقتحمواالفواحش في صورتها ليسقطوا انفسهم من اعين الناس، فيسلموا من آفة الجاه. وهذا غير جائز لمن يقتدى به، فانه يوهن الدين في قلوب المسلمين، واما الذي لا يقتدى به فلايجوز له ان يقدم على محظور لاجل ذلك، بل له ان يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس»((58)).

ثم ذكرا بعد ذلك ما يفيد بتصحيح عمل بعض الزهاد والاتقياءلقطع الجاه والسقوط من اعين الخلق، ونقلاه على نحوالتسامح، من ذلك ما قام به بعضهم من تناول شراب حلال في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به انه يشرب الخمر، فيسقط من الاعين، وعقبا عليه بالقول: «وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه، الا ان ارباب الاحوال ربما يعالجون انفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما راوا اصلاح قلوبهم، ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير كما فعل بعضهم، فانه عرف بالزهد فاقبل الناس عليه، فدخل حماما ولبس ثوب غيره وخرج ووقف في الطريق حتى عرفوه، فاخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب، وقالوا: انه طرار [لص] وهجروه»((59)).

موقف الغزالي
يهاجم الغزالي الفقه والفقهاء في مواضع كثيرة من كتابه «احياء علوم
الدين»، ويسوق لذلك ادلة مختلفة يمكن استعراضها كما ياتي:

1 – الفقه علم دنيوي والفقهاء علماء الدنيا
ينقسم العلم، عند ابي حامد، الى محمود ومذموم، ثم يقسم المحمود الى واجب عيني وواجب كفائي. وفي صدد تعيينه للعلوم التي ينبغي تعلمها على نحو الواجب الكفائي، يعودلتقسيم العلوم الى شرعية وغير شرعية. ويعني بالعلوم الشرعية ما لا سبيل اليه من قبل العقل والتجربة، بل هي ما استفيد من الانبياء وتم تعلمه منهم وفي مدرستهم، والعلوم الشرعية هذه جميعها محمودة، الا ما قد يلتبس مما يظن بانها شرعية،وعندئذ تكون مذمومة.

يواصل الغزالي تقسيماته للعلوم، فيذكر ان العلوم الشرعية على اربعة اضرب هي: الاصول، والفروع، والمقدمات والمتممات. الاصول بدورها اربعة، هي: كتاب الله وسنة نبيه واجماع الامة وآثار الصحابة. اما الفروع فهي تفصيلات مستمدة من فهم الاصول بمعان تنبهت لها العقول فاتسع بسببها الفهم، ويتم تناولها بالقياسات العقلية والفقهية وبقية موازين الاستنباط. ثم يذكر ان الفروع على ضربين ايضا: احدهما يتعلق بمصالح الدنيا وتحويه كتب الفقه، والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا،والاخر يتعلق بمصالح الاخرة، وهو علم احوال القلب واخلاقه، والجوارح في عباداتها وعاداتها((60)).

لقد دأب الغزالي، في مواضع متعددة، من كتابه «احياء علوم الدين»، على نعت الفقه بانه علم دنيوي، وعلى وصف الفقهاءبانهم «علماء الدنيا»((61)).

2 – الاكتفاء بالفقه والغفلة عن الاخلاق
ذكر ابو حامد، في كتاب «المراقبة والمحاسبة»، واصفا اوضاع عصره: لا احد يقبل في هذا العصر على معرفة آفات الاعمال،بل هجر الناس كافة هذه العلوم، وتوجهوا للفصل في الخصومات الناشئة عن الشهوات. يقولون: ان هذا هو الفقه،وقد اخرجوا العلم بالافات الذي يعد الفقه الديني الحقيقي، من زمرة العلوم، واستغرقوا تماما في فقه الدنيا. والحال اذا كان ثم حسن في فقه الدنيا، فهو تطهيره القلب من العناصر الاجنبية ومن الغفلة، لكي يعكف على فقه الدين. ففقه الدنيا انما يدخل في عداد العلوم الدينية، بوساطة هذا الفقه الاخر((62)).

لقد هاجم، في موضع آخر وبعنف، الفقهاء الذين خصصواالتفقه بالدين بمعرفة الفروع واكتفوا بالعلم بالفتوى في باب المعاملات الدنيوية، وقد ظنوا ان المراد من التفقه في قوله سبحانه: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا) هو محض تعلم فقه الفروع، وتوهموا ان ما يحصل به الانذاروالتخويف هو هذا الفقه المتداول، ما صار ذلك باعثا لاهمالهم عمليا دواعي تهذيب النفس والاهتمام بالسلوك الاخلاقي، وتنكبهم نظريا عن تعلم علم الاخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الاعمال، لايمانهم بافضلية علم الفقه وعرضه بوصفه اسمى من بقية العلوم الدينية. لم يكتف الغزالي بمهاجمة هذا الضرب من الفقهاء في ما ذهبوا اليه، وانما ذكر ان هؤلاء هم في زمرة المغرورين والمحجوبين((63))، بل ذهب الى ان جميع هؤلاء الفقهاء شغلوا انفسهم بالواجب الكفائي، وغفلوا عن الواجب العيني المتمثل باصلاح انفسهم((64))!

3 – العناية بالظاهر بدلا من الباطن
 ينظر ابو حامد الغزالي الى الفقه بوصفه ضرورة ناشئة من الخصومات والشهوات في مضمار الحياة الانسانية، ما يقتضي وجود السلطان وضبطه الناس بقانون السياسة لتنتظم امورهم وتهدا نزاعاتهم. وما دام السلطان بحاجة الى قانون واحكام في ممارسة هذه المهمة، وهو ما ينهض به الفقه في توفيره للاحكام التي تفصل في الخصومات، فقد صار الفقيه معلم السلطان ومرشده الى طرق سياسة الخلق لتنتظم امور دنياهم في نظر الغزالي. على ضوء هذه الرؤية، لو ساد الوئام الناس وانبسطت بينهم العدالة في الحياة، لانقطعت الخصومات، ولم تعد هناك حاجة الى الفقهاء، وبحسب تعبيره: «فلو تناولوها (الدنيا) بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء».

لكن اذا استقام هذا الراي في احكام الجراحات والحدودوالغرامات وفصل الخصومات، فكيف يستقيم وضع احكام العبادات في زمرة المعارف الدنيوية؟ يجيب الغزالي عن هذا التساؤل بقوله: ان كل ما يتكلم به الفقيه ويتناوله من اسمى الاعمال الدينية واكثر الفعال معنوية، انما يتناوله من زاوية ظاهره وليس باطنه، ومن ثم فنظرته لا تتجاوز حدود الدنيا الى الاخرة. ففي جميع ما يتناوله الفقيه لا تتخطى رؤيته الصحة والفساد الظاهري للعمل ولا يتوغل الى ما هو ابعد من ذلك، حتى الاسلام حين يتكلم فيه الفقيه ويبت في ما يصح منه وفي ما يفسد، انما يلتفت فيه الى فعل اللسان ويحكم بصحة الاسلام الظاهري، من دون ما يدخل في نطاق القلب

هكذا تتركز عناية الفقهاء على ظاهر الاعمال في الاسلام وفي الصلاة والصوم، فالفقيه يحكم بالصحة اذا اتى الانسان بصورة الصلاة متطابقة مع ظاهر الشروط من حيث اسباغ الوضوء وان لا يكون اللباس مغصوبا واداء الحروف من مخارجها، وان كان المصلي غافلا في جميع صلاته من اولها الى آخرها مشغولا بالتفكير في حساب معاملاته في السوق، فان ذلك لا يؤثر في صحتها. وفي الحلال والحرام، يذكر الغزالي ان الورع عن الحرام من الدين، بيد انه يعود ليذكر بان للورع اربع مراتب:
الاولى – الورع العام المتمثل باحتراز الحرام الظاهر،
الثانية – ورع الصالحين المتمثل بالتوقي من الشبهات،
الثالثة – ورع المتقين المتمثل بترك الحلال المحض الذي يخاف منه اداؤه الى الحرام،
والرابعة – ورع الصديقين، وهو الاعراض عما سوى الله سبحانه والاقبال عليه بالكامل.

ما يسجله الغزالي، على هذا الصعيد، ان هذه الدرجات اوالمراتب جميعها خارجة عن نظر الفقيه، الا الدرجة او المرتبة الاولى المتمثلة بالورع العام((65)).

4 – الحيل الفقهية
العنصر الرابع الذي يدخل في التمييز بين الفقه والاخلاق،يتمثل بالحيل الفقهية المشهورة على لسان عامة الناس بوصف «الحيل الشرعية». مثالها ان يضيق الزوج على زوجته، ويسيءمعاملتها الى الحد الذي تضطر فيه الى ان تهب له صداقها رغبة في الطلاق والتخلص منه، فهل ترضي هذه الممارسة اللهسبحانه، وهو القائل: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) [النساء/4]؟

من هذه الحيل ايضا ان يتهرب الفقيه من دفع الزكاة بان يهب زوجته امواله جميعها آخر الحول، ثم يطلب منها ان تهبها له بعد ذلك، وبهذه الصيغة لا تتعلق الزكاة بامواله! يعقب الغزالي على هذه الممارسة بما مفاده ان مثل هذا الشخص يمكنه ان يهرب من مطالبة السلطان له بالزكاة عن هذا الطريق، ولكن هل بمقدوره ان يزعم في الاخرة بانه لم يكن مالكا للمال؟ ان الجهل بالدين وبسر الزكاة لا يمكن ان يتخطى هذه التخوم!فاعطاء الزكاة يراد لتطهير القلب من رذيلة البخل، فما هي الطهارة التي تحصل مع هذه الحيل التي لا غاية ترجى منهاسوى تعظيم الرذائل((66))؟ على ان الغزالي ينقل في كتاب العلم من ربع العبادات، ان الفقيه الذي كان يفعل ذلك ليتهرب من الزكاة هو القاضي ابو يوسف يعقوب بن ابراهيم بن حبيب الانصاري، تلميذ ابي حنيفة، واول قاض للقضاة في العالم الاسلامي، والفقيه السني المبرز في القرن الثاني الهجري، حيث قال في ذلك: «وحكي ان ابا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول، ويستوهب مالها اسقاطا للزكاة»، ثم اضاف: «فحكي ذلك لابي حنيفة، فقال: ذلك من فقهه»! يعقب الغزالي على كلام ابي حنيفة، بقوله: «وصدق، فان ذلك من فقه الدنيا، ولكن مضرته في الاخرة اعظم من كل جناية، ومثل هذا هو العلم الضار»((67)).

5 – تركيز الفقهاء على الطهارة والنجاسة الظاهريتين وعدم عنايتهم بالطهارة والنجاسة الحقيقيتين
هذا، ايضا، مما يؤاخذ به الغزالي الفقهاء، اذ يحصل هذا التركيز والوسواس الزائد منهم على الطهارة والنجاسة الظاهريتين في الوقت الذي كان فيه المسلمون في صدر الاسلام يتساهلون كثيرا في المسائل الفرعية ولا يتشددون فيها، بل كانوا يبذلون عنايتهم بدلا من ذلك بتهذيب النفس وصفاء الباطن((68))

II- الاتجاه الايجابي.
وهو الذي يرى ان الفقه من اشرف العلوم الشرعية واكثرهاالحاحا وضرورة، وان لهذا العلم صلة وثيقة تربطه بالاخلاق.وبتعبير الفيض الكاشاني، في رده على ابي حامد الغزالي: «ليس معنى علم الفقه ما زعمه، بل هو علم شريف الهي نبوي مستفاد من الوحي، ليساق به العباد الى الله عز وجل، وبه يترقى العبد الى كل مقام سني، فان تحصيل الاخلاق المحمودة لا يتيسر الا باعمال الجوارح على وفق الشريعة الغراء من غير بدعة، وتحصيل علوم المكاشفة (المعرفة الحقيقية بالتوحيد والنبوة والمعاد وما الى ذلك) لا يتيسر الابتهذيب الاخلاق وتنوير القلب بنور الشرع وضوء العقل. وذلك لا يتيسر الا بالعلم بما يقرب الى الله عز وجل من الطاعات الماخوذة من الوحي ليتاتى بها العبد على وجهها، والعلم بما يبعد عن الله عز وجل من المعاصي ليجتنب عنها، والمتكفل بهذين العلمين انما هو علم الفقه، فهو اقدم العلوم واهمها، وقد ورد عن اهل البيت(ع) انه ثلث القرآن، فكيف لايكون من علم الاخرة ما هذا شانه؟». يعود منشا خطا الغزالي، الذي يدفعه لهذه المشكلة، الى خلطه الفقه الذي يعد حارسا للقلوب بالحقوق العرفية التي تتكفل تنظيم المعيشة المادية، وعد الاثنين واحدا.

يذكر الكاشاني، في سياق رده على الغزالي، ان فقه العامة لايصلح لان يعد من العلم حتى يصار الى تصنيفه وتنميطه،ليقال: انه من علوم الدنيا او الاخرة. ومرد ذلك اختلاطه بالبدع والجهالات والاهواء المخترعة، مما تنضح به عقول البشر،التي اكتسبت جزافا العنوان المقدس المتمثل ب«الفقه»((69)).

تتمثل رسالة الفقه بالمهمة التي ينهض بادائها، وهي بيان «وظيفة العباد» والتكليف الملقى عليهم في مقابل الله سبحانه،خالقهم ومالكهم وصاحب الربوبية التكوينية والتشريعية، لكي يحدد لهم السبيل الى تنظيم افعالهم وسلوكهم بما ينسجم مع اداء وظيفة العبودية. واداء هذه المهمة يستلزم العمل وفاقاللوحي والتجاوب مع متطلباته، وليس الخضوع الى ما تطفح به الاذهان، والانقياد وراء الاستحسانات والمصالح.

يسجل آية الله جوادي آملي، في هذا المضمار: «ياخذ علم الفقه موقعه كاحد العوامل التي تنهض ببيان زاد التقوى، فالفقه في معناه الاصطلاحي المتداول يدخل في الحكمة العملية، التي يتم من خلالها تحديد كيفية ارتباط الانسان بمولاه، كمايتم من خلال علم الفقه ايضا اضاءة طبيعة العلاقة التي تربط الانسان ببني جنسه. فاذا يتحتم على السالك تعلم علم الفقه،والا انزلق الى وادي الجهل والحيرة والضلالة، وسقط في هوة التعصب ونار الاهواء والاماني»((70)).

بهذا، ينبغي للطريقة ان تستند الى الشريعة. وهذا ما يكشف عن خطا الغزالي، فما ذكره ابو حامد باسم علم المكاشفة وطعن على اساسه وفي سبيله بعلم الفقه، لم يكن هو الاخلاق وانما الصوفية والتصوف، على ما نوه اليه الشيخ فكري ياسين في مجلة «الازهر» المصرية ((71)).

يقول الشهيد مرتضى مطهري في هذا المضمار: «واحدة من اخطاء الغزالي الكبيرة، بحسب ابن الجوزي، انه استغل الشرع في عدد كبير من الموارد وجعله لصالح التصوف. لقدافضى التطرف الصوفي عند الغزالي، الى ان ينحرف عن الفقه الاسلامي احيانا، كما في ما ذهب اليه من القول: صدق ابن سيرين (من العلماء المسلمين الفرس في القرن الثاني الهجري) في ما ذهب اليه من انه لا يصح لذلك الرجل استغابة الحجاج (السفاح المشهور بالظلم وسفك الدماء)، لان الحجاج كان مسلما! والسؤال: اذا لم تجز غيبة الحجاج، فغيبة من تجوز في هذه الدنيا((72))؟ ان مشكلة الغزالي نفسه تكمن في عدم عنايته بالفقه، لذلك كان يجنح الى التفريط بالفقه والتضحية به بحسب ابن الجوزي، حتى بلغ من تسامحه وتساهله، في هذا الشان، مبلغا رفضه اهل السنة انفسهم((73)). فبعض ما ذكره من امور لا يتعارض مع فقه اهل البيت وحده، وانما لا يتوافق مع فقه اهل السنة نفسه.لذلك كله نجد ان ابن الجوزي الناقد المعروف للصوفية عمد، في كتابه «تلبيس ابليس»، الى نقل عدد كبير من حكايات الغزالي في «احياء العلوم»، ثم راح يطرح الاسئلة الاتية بمايرتبط بتلك الحكايات، ويقول: هل يحل سب مسلم بلاسبب؟ وهل يجوز للمسلم ان يستاجر على ذلك؟ وكيف يحل السؤال لمن يقدر ان يكتسب؟ فما ارخص ما باع ابوحامد الغزالي الفقه بالتصوف!».

لذلك كله يخلص الشهيد مرتضى مطهري الى ان كتاب «الاحياء» مملوء بالاحاديث الباطلة، وهو خارج عن قانون الفقه وضوابطه((74)).

أجل، يكمن منشا آراء الغزالي ومعتقداته في توجهه الصوفي.فبعد ان جرب مذاهب الفلاسفة والباطنية مال صوب التصوف، وبمطالعته كتاب «قوت القلوب» لابي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، واطلاعه على آثار الجنيد والشبلي وبايزيد والاخرين، قرب نفسه الى عالم المتصوفة، وبعد عشر سنوات من الخلوة والرياضة ومجاهدة النفس بطريقة الصوفية ومسلكهم، انتهى الى ان «الصوفية هم رادة الخلق نحو الله، والى ان سيرتهم احسن سيرة، وطريقهم اصح الطرق، واخلاقهم اطهر الاخلاق واسماها، وان كل حركاتهم وسكناتهم وظاهرهم وباطنهم مقتبس من نور سراج النبوة»((75)).

الغريب ان بعض السطحيين ممن يعد نفسه من اهل النظر، في هذا المضمار، يذهب الى ان هذا الامر ناشى من تضلع الغزالي في الفقه، وليس من قلة بضاعته وقصر باعه فيه((76)). والسؤال: اي متضلع بالفقه هذا الذي يصدرامثال هذه الفتاوى، بحيث لا يحظ ى بموافقة حتى بني مذهبه من اهل السنة؟ الحقيقة ان نظر اهل السنة فيه لم يقتصر على تخطئته علميا، وانما تخطى ذلك الى نعته بانه قد «باع الفقه».والا من قال: ان الفقه يصحح الحج النفعي والصلاة التي لاروح فيها والصوم مع مل ء البطن من حرام، وان يكون الانسان ذواقا للنساء ومطلاقا، والتهرب من اداء الواجبات بالحيل الفقهية؟ ومن قال: ان الفقهاء يرتضون هذا النهج((77))؟ اجل، ثم وراء هذا الكلام دوافع اخرى وعقد تسعى الى ان تهيى الارضية للاعلان عن عجز الفقه، ومن ثم تمهيد الاجواء لاستبدال الادارة الفقهية باطروحة الادارة العلمية((78)).

ينهض الفقه بتحديد موارد الطاعة وموارد المعصية، وهذاالضرب من المعرفة ضروري لامتثال الواجبات والعمل بهاواجتناب المحرمات وتركها، الذي يعد بدوره شرطا لصفاءالقلب، الذي يتحول بدوره الى شرط للتقرب الى الله وفتح ابواب الملكوت. لذلك ينبغي للفقه ان ياخذ موقعه في عدادالعلوم الاخروية، وان يكون من المقدمات الواجبة للسلوك والتخلق باخلاق الله، والا فهل يستقيم امر الطريقة ويكون ممكنا من دون الشريعة؟ ان الفقه هو المدخل الى الملكوت،وهو السلم الذي يرتقى به الى سطح المكاشفة، ومن دون الفقه والشريعة يبقى عمل السالك ناقصا متعثرا. وبتعبير آية اللهجوادي آملي: «هذه الدرجات (المعنوية) لا تحصل الابواسطة الفقه، وان كان الفقه لا يكفي وحده لبلوغ تلك الدرجات»((79)).

بحفظ اداءات الفقه والاخلاق والنطاق العملي لكل واحدمنهما، ينبغي ان تكون الاخلاق مستندة الى الفقه، والفقه لايمثل بدوره الطريق كله، بل هو البداية وحسب. بديهي ينبغي لعملية السير والسلوك ان تقترن بالفقه، وتتحرك في نطاق ضوابطه حتى نهاية المسار وآخر الشوط. وحصيلة ذلك ان يكون الاخلاق والفقه متكاملين، يكمل احدهما الاخر. وفي هذه النقطة اساسا، يكمن الفرق بين الفقه والحقوق، حيث يتاثر الفقه بالاخلاق، اما القوانين الموضوعة والحقوق المدونة فهي لا تفكر الا بتحقيق المنفعة المتمثلة بالسعي الى حفظ النظام واستقرار المجتمع، وان انتهى ذلك احيانا الى هدربعض المبادى الدينية والاخلاقية((80)).

في الحصيلة الاخيرة، لا نعرف كيف يكون الفقه من علوم الدنيا؟ وكيف يكون الفقهاء من علماء الدنيا؟ ونحن نجد ان الفقه، من اية زاوية تمت الاطلالة عليه وتناوله، هو من العلوم الدينية والاخروية. فموضوعه هو «فعل المكلف»، والغاية منه «بلوغ سعادة الاخرة»، ومصدره «الكتاب والسنة» وهذه جميعاامور دينية وتقع في نطاق الغرض الديني((81)).

ب – الارتباط الوثيق بين الفقه والاخلاق
يبدو ان المنهج الصحيح، في المقارنة بين الفقه والاخلاق،يتمثل في دراسة العناصر المشتركة بين الاثنين ونقاط التمايزبينهما، على اساس موضوع كل واحد منهما، والغايات التي يتوخاها، والمنابع والمصادر التي يستند اليها، ومنهجه الخاص في البحث، واداءاته ومجالات عمله وطبيعة مكوناته ومسائله.

انطلاقا من هذا المنهج في الدراسة، نعرض في ما ياتي الى رؤية اجمالية في طبيعة العلاقة الوثيقة بين الفقه والاخلاق، تنتظمها العناوين الاتية:

1 – موضوع علم الفقه والاخلاق
بالرغم من ان علم الفقه يتناول بالبحث مواضيع مختلفة، الا ان العنصر المشترك ومحور جميع هذه المواضيع الذي يسمح باندراجها تحت عنوان علم الفقه، يتمثل ب «فعل المكلف». فالفقه يتناول المسائل المختلفة التي يدرسها في مختلف الابواب من زاوية واحدة فقط، تتمثل بما وضعته الشريعة الاسلامية من مقررات واحكام لبني الانسان في جميع تلك المواضيع، وبما تحمله من موقف شرعي من طبيعة هذه الافعال، وما اذا كانت حسنة ام سيئة وصحيحة ام خاطئة.

وهذه الاحكام هي مما يمكن استنباطه من الكتاب والسنة اوالاجماع. فالفقيه لا يعبا بالاختلافات الماهوية الكائنة في تلك المواضيع، بحيث يكون بعضها عباديا او اقتصاديا او قضائيا وماالى ذلك، وانما يتعامل معها جميعا بصيغة واحدة، هي صيغة «فعل المكلف»((82)).

بعبارة اخرى: ان مبدا مولوية الله سبحانه وضرورة اقدامنالامتثال التكاليف ووظائف العبودية، هو اصل موضوعي يسري في جميع اجزاء الفقه وجوانبه، ومن ثم فان ما يشغل الفقيه هوسبيل الخروج من عهدة تلك التكاليف((83)). لهذا السبب اذا عجز الفقيه عن ان يكشف عن «التكليف» من خلال الادلة اللفظية، تراه يلجا مضطرا الى الاصول العملية ويلوذ بها.

عندما ننتقل الى الاخلاق، نجد ان المحور في هذا العلم، هوالسلوك الانساني اللائق، ايضا، فالاخلاق تبحث هي الاخرى في الكيفية التي ينبغي ان يكون عليها الانسان من جهة كونه انسانا، وفي طبيعة الحياة التي ينبغي ان يحياها. وبهذا يتضح ان الافعال الاختيارية للانسان هي موضوع علمي الفقه والاخلاق،وانهما ينتميان معا الى الحكمة العملية (بديهي مع تامل في هذه النقطة). بيد ان الحيثيات التي تنتظم كل واحد منهماتختلف عن حيثيات الاخر، وعلى هذا الاساس جاء منهج البحث في كل واحد منهما ونوع المسائل التي يتناولها مختلفاالى حد ما عن الاخر. فالبحث في السلوك الاختياري للانسان انما يتم في الفقه، من زاوية ان الانسان عبد الله وان عليه تكاليف بازاء مولاه يتحتم عليه امتثالها. لذا فان حد البحث في الفقه، هو حد التكليف من جانب المولى والامتثال من ناحية العبد.

في السياق نفسه، لما كان هناك ضرب من التوافق الواسع والتطابق الجدي بين الفقه والحقوق، فان الصيغة الحقوقية للفقه تقضي بان نحمل الاوامر على انها وصايا اخلاقية بدلا من ان نصدر فيها فتوى، وذلك عندما نعجز عن ان نكشف من الدليل التكليف والالزام المولوي. وتوضيح ذلك، اننا ما دمنابحاجة الى ان نعرف طبيعة الحياة المجللة بالقيم السامية، وان نبلغ السعادة والكمال، وما دامت هذه الغاية لا تتحقق الا في اطار افعالنا وسلوكنا في الحياة، فان علم الاخلاق هو الذي يبحث في طبيعة الافعال اللائقة في حياة الانسان، الباعثة لتحقيق كماله وسعادته. لذلك كله تكتسب النية ودافع الفاعل وبواعثه لفعله فاعلية اكبر وتتفوق على غيرها في مضمارالاخلاق، لان الفاعل الانساني لا يرى نفسه بازاء تكليف ما او اجبار.

اما في الفقه فان التركيز الاكبر يتجه الى اعمال الجوارح،وذلك في مقابل الاخلاق التي تركز على «الكيفية» وتحتل فيها العناية بالصفات النفسية والخصال المثالية خصوصية تفوق حد التكليف، كما هي الحال في الايثار وامثاله. على ان هذاالتمايز، هو مما يتضح من خلال نظرة عامة الى عناوين المسائل الفقهية والاخلاقية.

مع التسليم بضرورة تقسم العلوم لاسباب مختلفة، وان هذاالتقسيم يتم على اساس معايير عديدة منها الاسلوب ومنهجية البحث، والهدف والغاية او الموضوع، وان تقسيم العلوم وتصنيفها على اساس الموضوع هو افضل من تمييزها على اساس المعايير الاخرى((84))، بملاحظة ذلك كله يتضح التمايز الكائن بين علم الفقه وعلم الاخلاق. وما دام هناك اشتراك في الموضوع بين الاثنين في المرتبة العليا (على مستوى الافعال الاختيارية للانسان) وصلة وثيقة تربط احدهمابالاخر، فان هناك عناصر مشتركة كثيرة تجمع بينهما.

2 – منهجية البحث الفقهي والاخلاقي
البعد الذي يتركز عليه البحث في الفقه، يقتضي ان تتمركزاهتمامات الفقيه جميعها على عنصري «الامتثال» و«الاجزاء».فمع ان الفقيه يولي عناية بالاداب والمستحبات، الا ان اهتمامه الاساسي ينصرف الى الكيفية التي ينبغي ان نتصرف بها،وكيف ينبغي ان ننجز اعمالنا حتى نخرج من عهدة التكليف.من هذه الزاوية اذا لم تتم للفقيه الحجة فلن يبادر الى اصدارالفتوى، ولو كان الفعل حسنا وممتازا.

في نطاق بحثه عن «مشاركة المراة في المجتمع»، يدرس الشهيد مطهري الايات والروايات ذات الصلة، وفي هذه الاثناءيمر برواية عن النبي(ص)، لها دلالة على توقي النساءالاختلاط مع الرجال. وبهذه المناسبة يفتي الفقهاء بكراهة اختلاط الرجال والنساء. وعندئذ يضيف الشهيد مطهري: «ثم عدد آخر من الروايات يمكن عدها بمنزلة الوصايا الاخلاقية للرجال ازاء النساء، تحذر من مخاطر الاختلاط وتبعاته. لهذاحمل صاحب موسوعة الوسائل هذه الروايات، على الاستحباب». من بين الروايات التي يذكرها وصية الامام علي(ع)، الى ولده الامام الحسن المجتبى(ع)، بقوله:«واكفف عليهن من ابصارهن بحجابك اياهن، فان شدة الحجاب ابقى عليهن، وليس خروجهن باشد من ادخالك عليهن من لا يوثق به عليهن، وان استطعت ان لا يعرفن غيرك فافعل»((85)).

يعقب الشهيد مطهري على النص، بقوله: «هذه وصية اخلاقة»،فقد تعامل علماء الاسلام مع هذا النص بمنزلة كونه وصية اخلاقية وحسب. اما لو تركنا والنص، فلكان من المؤكد ان مايستنبط منه يتجاوز «الوصية الاخلاقية»، بل لتجاوز ايضا وجوب ستر الوجه والكفين. ما يستنبط من النص هو ما نطلق عليه حاضرا حبس المراة في البيت. ولكن السبب الذي منع الفقهاء من اصدار مثل هذه الفتوى، يتمثل بالادلة القطعية الاخرى من آيات وروايات وسيرة المعصومين(ع)، ودلالتها على خلاف ظاهر هذا النص، وبذلك صار هذا الظاهر هو من بين «المعرض عنه» عند الاصحاب. وبهذا حملوا النص على انه وصية اخلاقية، لتكون له قيمة اخلاقية دون القيمة الفقهية.

ما استنبطه الفقهاء، من امثال هذه النصوص، هو انها ترشد الى حقيقة روحية ونفسية في العلاقة بين الجنسين، ومن ثم فهي تبين حقيقة من دون ريب. فالعلاقة بين المراة والرجل الاجنبي هي علاقة خطيرة جدا، وهي بمنزلة المنزلق الكبير الذي قد يتورط به حتى الكبار، وبالتالي فان ما يوصي به الاسلام، ولو على نحو الامر الاخلاقي، هو ان يكون المجتمع المدني مجتمعا غير مختلط ما امكن ذلك.

في السياق نفسه، يشير الشهيد مطهري الى نص روائي آخرعن فاطمة الزهراء(س)، في جواب سؤال النبي(ص): «اي شيء خير للمراة؟» اذ قالت: «ان لا ترى رجلا ولا يراها رجل»((86))، ويعقب عليه بقوله: «هذا الحديث هو وصية اخلاقية ايضا، يبين ارجحية عدم اختلاط المراة والرجل.فالارجحية الاخلاقية للستر، وللانفصال بين المراة والرجل وعدم اختلاطهما، ووجود الحريم الذي يفصل بينهما حد الامكان، هي امور ثابتة في مجالها»((87)).

هذا بالنسبة الى الفقه ودائرة عمل الفقيه واهتماماته.

اما ما يركز عليه العالم الاخلاقي ويكون له هاجسا، فهو صفاءالنفس وتطهير الباطن. وهذه الغاية وان كان لا يمكن بلوغها الاعن طريق الشريعة، الا ان مدار اهتمام الاخلاقي ليس البحث في «الحجية» واثبات «التكليف»، وانما يسعى وراء تحقق «الكمال النفسي». ولذلك لا يدقق الاخلاقي بسند الاحاديث بالطريقة نفسها التي ينهجها الفقهاء، ومن ثم يستفيد من الاحاديث الضعيفة ايضا في الوصايا الاخلاقية ((88)).

وهذا ما يفسر الطيف الواسع الذي تمتد فيه الاداب والوظائف الاخلاقية والمستحبات، في مجال البحوث الاخلاقية. ومن الواضح ان «التكليف» يتحرك في الدائرة التي توفي حدالنصاب وحسب، ولا يتحرى الحد الاعلى، ولكن ما دام الانسان ينشد الكمال ويطلبه، فهو لا يكتفي بحد النصاب ولايرضى به، بل ياخذ منه جسرا لبلوغ الغاية. بديهي ان هذا لايعني ان الفقه يقف في حدود هذه الدائرة، فمع عناية الفقه بتحقق حد النصاب وتوفره على بيان العبادات او المعاملات الصحيحة المجزئة التي تتوافق مع الشروط الظاهرية، تراه يشير ايضا الى المرتبة العليا على صعيد العبادات والمعاملات ويومى الى السلوك الاحسن في هذين المضمارين، فالاحكام التي يتداولها الفقه لا تقتصر على الوجوب والحرمة وحسب، بل تتعداهما الى بيان المستحبات والمكروهات. ومع ذلك كله يبقى الهاجس الاساسي الذي يهيمن على اهتمام الفقيه، هوالبحث عن التكليف، بما يتناسب مع الموضوع.

3 – وجود الملاكات الاخلاقية في الاحكام الفقهية
أ – ملاك النظافة: تحتل احكام الطهارة والنظافة موقعا بنيويافي الاسلام: «بني الاسلام على النظافة»((89)). بالاضافة الى ذلك، تستند الاحكام الفقهية الى مبادى ومرتكزات اخلاقية، وهذه المسالة تشمل، علاوة على احكام المياه واحكام التخلي واستحباب التسوك، احكام الاطعمة والاشربة وما الى ذلك، مما له آثار مهمة في تربية النفس.

ب – ملاك المصلحة ودفع المفسدة: تاخذ المصالح والمفاسد الفردية والاجتماعية موقعها، في دائرة ما ينبغي وما لاينبغي فعله اخلاقيا. بهذا قام مسلك الامامية (العدلية) على استناد الاحكام الفقهية على المصالح والمفاسد ايضا، بحيث اضحى نوع الحكم (فعلا او تركا)، وكذلك الالزام فيه (من وجوب او رجحان او اباحة) منوطا بوجود المصلحة والمفسدة وعدمهما. الى هذا المعنى ذهب وهبة الزحيلي في ما ذكره، من ان الفقه يستند الى رعاية مجموعة من الفضائل والقيم الرفيعة والاخلاق السامية. فتشريع العبادات مثلا يراد منه نقاء النفس وتزكيتها وابعادها عن القبائح. وحرمة الربا انما شرعت بباعث اشاعة روح التعاون والمحبة بين الناس. كما جاء تحريم الغش والخداع في المعاملة، لمنع اكل مال الاخرين بالباطل، كماجاءت الاحكام المماثلة على هذا الصعيد لبث المحبة بين الناس وتوثيق عرى المودة والثقة والحؤول دون حصول الاختلاف بينهم((90)).

تنتهي الحصيلة الاخيرة على صعيد هذه النقطة، الى ان الاتجاه العام للشريعة الاسلامية وخط الممارسة الفقهية، يتحرك من خلال الاهتمام بالفضائل بوصفها المبنى الذي ترتكز اليه هذه الممارسة في تشريع القوانين، واستنادا الى كونها هي الملاك والمحور. على هذا تجد ان حركة الفقه من كتاب «الطهارة» حتى كتاب «الديات»، تمارس سيرها بصيغة تسعى الى ايجادالفضائل وانبعاث القيم الكريمة في جميع العلاقات الفردية والاجتماعية. فالصيام مثلا ليس هو صرف النفس وكفها عن تناول الاطعمة والاشربة، بل يهدف ايضا الى ايجاد الارضية للانفاق والايثار وذكر القيامة والاخرة. ووجوب الخمس والزكاة، هما لازالة خصال البخل والأثرة والانانية والفردية،وما الى ذلك مما يدخل البحث فيه بدائرة «علل الشرائع».

4 – النية والدافع بين الفقه والاخلاق
للوهلة الاولى تقسم المسائل الفقهية الى العبادات والمعاملات(بالمعنى الاعم)، والنية وقصد القربة في العبادات لا تعد شرطاضروريا، وانما هي شرط الكمال، في حين ان قوام الافعال الاخلاقية بالنية: «انما الاعمال بالنيات». وبتعبير الفيض الكاشاني عن النية في العبادات: «النية في الحقيقة ما يبعث المكلف على الفعل ويحمله على الاتيان به… وذلك امر لايخلو منه فاعل ذو شعور يصدر عنه فعل، فلا يصح ان يتعلق به التكليف لخروجه عن الاختيار… وانما يتعلق التكليف بعوارضها [العبادات] وخصوصياتها من الاخلاص والرياء ونحوهما مما يبحث عنه في علم الاخلاق، وهو من وظيفة علماء الاخرة واطباء القلوب، وليس من وظيفة الفقيه من حيث هو فقيه، وان تعرض له الفقيه كان خارجا عن فنه»((91)). فللنية في الاخلاق اذا سلسلة مراتب، وهذه المراتب هي التي تخضع لدائرة بحث العالم الاخلاقي. اما في الفقه فان ما يركزعليه الفقيه، هو وجود قصد القربة وعدمه.

بالاضافة الى استناد المعاملات الفقهية على النظام العام، فهي ترتكز على الاخلاق الحسنة ايضا. كما يلحظ ان استحباب النية الصالحة وقصد القربة في المعاملات وكراهة النية غيرالصالحة، ومسالة التجري والانقياد، وكذلك المراتب الطولية للنية، ولحاظ درجات الالزام بما يتناسب مع المصالح والمفاسد، ورعاية التكوينات الروحية المختلفة للافراد،تتحول باجمعها الى باعث للاشتراك بين مجالي الاخلاق والفقه.

ينبغي ان يلحظ، ايضا، ان احد اداءات الفقه ومجالاته الاستعمالية، تنظيم السلوك الاجتماعي بغية حفظ النظام الحياتي للجماعة. لذا اذا ما افترضنا ان الله سبحانه اجاز الحيل الفقهية، فمعنى ذلك انه سبحانه اسقط التكليف عن المكلف في تلك الاجواء التي تحف المسالة، وفي نطاق الشروط التي تحيط بها. ولذا فالانسان الذي يؤمن بالفقه ويتجه صوب الحيل الفقهية في الوقت نفسه، لن يكون مدينا في القيامة ايضا، لانه «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام» وهذا ضرب من التعبد، وان كانت فلسفة الاحكام الفقهية وروحها تكمن بالتوجه الكامل الى الله وقصد القربة اليه.

5 – الضمانة التنفيذية للقواعد الاخلاقية والفقهية
ليس للاخلاق اساسا ضمانة تنفيذية غير الايمان، الذي يعدامرا ذاتيا وشانا شخصيا. اما الاحكام الفقهية، فعلاوة على ماتملكه من ضمانة تنفيذية داخلية او ذاتية، فهي تستند في تنفيذها احيانا الى ضمان من الدولة والى سلطة من الخارج ايضا. على ان بعض التعاليم الاخلاقية كوجوب اداء الامانة مثلا، تحظى هي الاخرى احيانا بسند لها من الدولة، لكن هذا الدعم لا يمنح لها بوصفها مسالة اخلاقية، بل لان هذه المسالة الاخلاقية هي جزء من المقررات الحقيقية للمجتمع.

6 – منابع المقررات الفقهية والاخلاقية
منابع الفقه والاخلاق مشتركة بينهما، فالمسالة الاساسية في الفقه انه ليس لاي انسان ولاية على آخر، ولذا فان الحق في جعل الحكم ووضع القانون لا يكون لاحد قط سوى الله،مالكنا الحقيقي التكويني، ومن ثم فهو صاحب الولاية التشريعية علينا. لذا فان ما في القرآن والسنة وحكم العقل القطعي الذي يعد نبيا من الباطن، يعتبر كاشفا عن الارادة التشريعية الله، والثلاثة الى ذلك هي مصادر الاحكام الفقهية.

في المقررات والاداب الاخلاقية لا يستطيع العقل الانساني ان يشخص الكمال الحقيقي والسعادة الابدية، ولذا ابتنيت الاخلاق على الشريعة والعقيدة((92))، كما في قوله سبحانه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[فاطر/10].

وحدة المجال هذه بين الاخلاق والفقه في نطاق الموضوع،وعلى مستوى المصادر، تستلزم تعطي الطرفين بين هذين العلمين الشريفين.

7 – الغاية من الفقه والاخلاق
هدف علم الاخلاق بناء الانسان الكامل، لانه يبحث في حفظ الانسان وحراسته، ويركز على توجيهه في نطاق خاص، لكي تتطهر روحه وتسمو ويتحرر من مستنقع الطبيعة وعلائقها، ويبلغ الملكوت. هذا الهدف هو ما يحرص الفقه على العناية به وتحقيقه ايضا، ولكن انطلاقا من بعد آخر. فالعبادات قدشرعت لكي يقترب الانسان من الله، وهذا لا يتيسر الا بان تكون العبادات توقيفية، وهو ما ينهض به الفقه. كذلك الحال بالنسبة للمعاملات التي شرعت لسلامة الاخلاق وطهارة النفوس. ولهذا حرمت الشريعة الغش في المعاملة والرباوالغصب، ولم تكل الامر الى تشخيص الناس ورايهم((93)).

ببيان آخر، تكمن واحدة من المجهولات بالنسبة للنوع الانساني بطبيعة تحقق السعادة وكيفية ذلك، ولذلك يذهب كل انسان الى ان السعادة تكمن في شيء. واذ نعرف ان تحقق السعادة، هو عبارة عن فعلية بلوغ كل قوى الانسان واستعداداته المادية والمعنوية، فان المسار النهائي للفقه يتمثل في تنظيم العلاقات الانسانية في هذا الاتجاه ووفاقا لهذا المعنى. يذكر وهبة الزحيلي بهذا الخصوص: عندما نسعى لكي يحل التوافق والانسجام بين الدين والاخلاق على مستوى الهدف، فعندئذ سنرى تحقق صلاح الفرد والمجتمع.وهذه المسالة تمثل الغاية المنشودة من الفقه، وتنتهي بنفع البشرية وخيرها، خيرها في الحاضر والمستقبل، وبلوغهاسعادة الدنيا وسعادة الاخرة.

ثم يشير بعد ذلك الى تاثر الفقه بالاخلاق والدين، ويؤكد: ان تاثير الفقه بالدين والاخلاق يتحول الى باعث لكي يكتسب الفقه فاعلية اكثر، ومن ثم تزداد العناية به والرغبة في اتباعه واطاعته((94)).

النتيجة

ما لا ريب فيه ان للبناء الداخلي للانسان، وتهذيبه نفسه، اثرافائقا في تحقق سعادته الفردية والاجتماعية، والدنيوية والاخروية. لكن هل يستطيع الانسان تربية نفسه وتهذيبها وبلوغ الكمال النفسي من دون معونة الوحي؟ أبدا. ولذلك لايتيسر للانسان التوفر على الفضائل الاخلاقية الا عن طريق العمل بالشريعة الاسلامية وبالفقه، وليس من خلال ما تنسجه الذهنية الصوفية وما الى ذلك.

على هذا الضوء، يتبين مغزى قول رسول الله(ص): «ما عبدالله بشيء افضل من فقه في دين، ولفقيه واحد اشد على الشيطان من الف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه»((95)). كذلك قول الامام الصادق(ع): «تفقهوا في الدين، فان من لم يتفقه منكم في الدين((96)) فهو اعرابي».وكذلك: «لوددت ان اصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا». لكن ينبغى((97)) الالتفات في الوقت نفسه الى معنى التفقه، وان الامر فيه كما ذهب اليه الشهيد الثاني (زين الدين علي بن احمد الجبعي العاملي، المتوفى سنة 965ه) بقوله: «ان مجرد تعلم هذه المسائل المدونة ليس هو الفقه عندالله تعالى، وانما الفقه عند الله بادراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة».

هنا يكمن رمز الصلة الوثيقة الجادة بين الفقه والاخلاق، على رغم ما بينهما من تمايز في الموضوع والمنهج، اذ هما يلتقيان في الغاية والمجال، وبينهما مسائل مشتركة كثيرة. فالفقه ضرورة من ضرورات الاخلاق الاسلامية الصحيحة، والاخلاق متممة للفقه مكملة له، ومن ثم فان الالتفات الى هذه الصلة يفتح المغاليق ويحل المشكلات في كثير من الامور.


أ. ابراهيم الحسى

المصدر: مجلة المنهاج العدد (31)

Loading