حق الجار في رسالة الحقوق
نشر من قبل الحكمة في 09:58 صباحا - 20 01 1445 هـ (06 08 2023 م)

رسالة الحقوق للاِمام زين العابدين عليه السلام هي أوّل وثيقة إسلامية شاملة لحقوق الاِنسان . وهذا الاَثر النفيس بقي محفوراً على لوحة الزمان ، تتناقله الاَجيال من جيل لآخر ، يستمدون منه أعمق مشاعر الحب لله ، وحق


تفاصيل الخبر

حق الجار في رسالة الحقوق

رسالة الحقوق للاِمام زين العابدين عليه السلام هي أوّل وثيقة إسلامية شاملة لحقوق الاِنسان . وهذا الاَثر النفيس بقي محفوراً على لوحة الزمان ،

____________

(1) الدّر المنثور ، السيوطي 6 : 95 .

تتناقله الاَجيال من جيل لآخر ، يستمدون منه أعمق مشاعر الحب لله ، وحق الاِنسان في الكرامة والرّفعة ، والاعتراف بحقوقه المقدسة .

وفيما يتصل بحق الجِوار ، فقد جاء فيها : «وحقّ جارك فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً ، ونصرته إذا كان مظلوماً ، ولا تتبع له عورة ، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه ، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه ، ولا تسلمه عند شدائده ، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا تدّخر حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلماً له، ترد عنه لسان الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النميمة . ولا حول ولا قوة إلاّ بالله» (1) .

هذه الفقرة من رسالة الحقوق المنسوجة بلغة قوية الاِيحاء ، نجد فيها نظرة أعمق وأرحب لحقوق الجّار ، فهي ترسم علاقة تكاملية بين المتجاورين ، وتعقد بينهم أواصر أُخوّة حقيقية . فنلاحظ أنّ للجّار حق الحفظ في غيبته ، وحق الاِكرام في إقامته ، وحق النصرة عند مظلوميته ، وفوق ذلك له حقوق إضافية منها : حق الستر ، والنصيحة ، والمغفرة ، والمعاشرة الحسنة .

وقد تناول شارح رسالة الحقوق هذه الفقرة مبيناً أنّ الاِسلام قد اعتنى بحق الجار وجعله عظيماً ، يكاد يكون ـ حسب تعبيره ـ من أعظم الحقوق الاِنسانية ، واستدل على ذلك بوصايا جبريل عليه السلام المتكررة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حول الجار ، وبالآية المتقدمة من سورة النساء ، ثم استأنف قائلاً : (وعلى هذا فالوصاية بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلماً كان أو كافراً .

____________

(1) شرح رسالة الحقوق ، القبانچي 2 : 169 .

والاِحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الاَذى والمحاماة دونه ، فيحسن أن يتعاون الجاران ويكون بينهما الرحمة والاحسان ، فاذا لم يُحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس ـ إلى أن قال : ـ على هذا المنهج القويم من القرآن ، وهذا الاَسلوب المنير من السنة ، سار الاِمام زين العابدين عليه السلام في هذا الفصل من رسالته الخالدة في التنويه بحق الجار والعناية والاهتمام به ، أَلا تنظر إليه قائلاً : «وحق جارك حفظه غائباً وإكرامه شاهداً ونصرته إذا كان مظلوماً..» . يعني : يجب حفظه إذاً... بمعنى ان لا يخونه وأن يكون أميناً على ما ائتمنه عليه، وإكرامه واحترامه والحفاوة به إذا حضر ، ونصره ومعونته إذا ألمَّ به خطب أو نزل به ضرٌّ .

ويجب على ما قرّره عليه السلام ستره ما أمكن ، فالله يحب الساترين ، ويكره الفضيحة والافشاء ، ويكره التجسس والمراقبة ، فإن ظهر على الجار شيء ما مِن دون تجسس أو مراقبة ، فعلى جاره أن يكتم كل ما عرف ، وأن يكون حصناً حصيناً لهذا السر الذي بيده مفتاحه . ويجب أن ينصره إذا سمع عليه مقالة سوء ، ويكره الله أن يستمع إلى قوم ينوشون جاراً بالسوء وفسق اللِّسان وهو عنهم راض ، وأن يقيل عثرته ، وينهضه من كبوته ، ويُغضي عن بعض ما قد يسوء من أعماله ، فان الاِنسان معرّض للخطأ ، وأن يمنعه ، ويذود عنه ، ويدفع كل ما يضر به) (1).

وهنا يبدو من الضروري بمكان ، الاِشارة إلى أن أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يختص تميّزهم عن غيرهم بنظرتهم العميقة لمعنى الجوار ، وهو الصبر

____________

(1) شرح رسالة الحقوق ، القبانچي 2 : 191 .

على الاذى وليس كف الاَذى كما قال العبد الصالح عليه السلام : «ليس الجوار كف الاَذى ، ولكن حسن الجوار صبرك على الاَذى» (1).

وإنما تميزوا أيضاً بتجسيدهم هذا المفهوم من عالم المعنى إلى عالم الحس والواقع .

لقد ترجم أهل البيت عليهم السلام أقوالهم إلى سلوك سويّ ، أصبح قدوة حسنة لمن أراد الاقتداء به . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، كان الاِمام السجاد عليه السلام ، حريصاً على أداء حقوق الآخرين ، وان كانوا من أعدائه.. جاء في رواية الواقدي : إنّ هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان والياً على المدينة لعبد الملك بن مروان ، وقد أساء جِوار الاِمام ولحقه منه أذى على حد تعبير الراوي ، فلما مات عبدالملك ، عزله الوليد بن عبدالملك ، وأوقفه للناس ؛ لكي يقتصوا منه ، فقال : والله إني لا أخاف إلاّ علي بن الحسين ، فمر عليه الاِمام ، وسلم عليه ، وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء ، وأرسل له : «إن كان أعجزك مال تؤخذ به ، فعندنا ما يسعك ، ويسد حاجتك ، فطب نفساً منّا ، ومن كل من يطيعنا» ، فقال له هشام بن اسماعيل : الله أعلم حيثُ يجعل رسالته (2).

وكان الاِمام السجاد عليه السلام يدعو لجيرانه بكلمات بلغت الغاية في الرّقة ، ضمّنها ما لهم من الحقوق ، وصبها في قالب الدّعاء .

تمعّن في هذا الدّعاء من أدعية الصحيفة السجادية ، الذي يفيض

____________

(1) أُصول الكافي 2 : 636 ـ 637 | 9 باب 24 من كتاب العشرة، كنز العمال : ح4422.

(2) سيرة الائمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ، القسم الثاني : 149 .

بالمعاني ، ويحمل أجمل المشاعر : ـ «اللّهُمَّ تولَّني في جيراني باقامة سُنَّتكَ ، والاَخذ بمحاسن أدَبك في إرفاقِ ضعيفهم ، وسدْ خلّتهم ، وتَعهُّد قادمهم ، وعيادة مريضهم، وهداية مسترشدهم ، وكتمان أسرارهم ، وستر عوراتهم ، ونصرة مظلومهم ، وحُسن مواساتهم بالماعون ، والعود عليهم بالجدَةِ والاِفضال ، واعطاء ما يجبُ لهم قبل السؤالِ والجود بالنَّوال ـ اي العطاء ـ يا أرحم الراحمين» (1).

____________

(1) الصحيفة السجادية الكاملة : 132 دعاء 26 ، نشر وتحقيق مؤسسة الاِمام المهدي (عج) ط1.

المصدر

http://holynajaf.com/