.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

 

مقدمات تشكيل الاُسرة

معنى الاُسرة:

الاُسرة اصطلاحاً:

استحباب النكاح وأهميته:

كراهية العزوبة:

استحباب السعي في النكاح:

استحباب الدعاء للنكاح:

اختيار الزوجة:

اختيار الزوج:

الكفاءة في الزوج:

الأحكام المتعلقة بالخطبة:

 

 

آداب الاُسرة
في الإسلام

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمد لله الواحد الأحد الذي تطمئن القلوب بذكره، والصلاة والسلام على أبي القاسم محمد أشرف أنبياء الله ورسله، وعلى آله المنتجبين أولي الألباب والنهى، وعدل الكتاب المطهرين بمحكمه وكفى.
تبرز أهمية الحديث عن الاُسرة اليوم في خضم الصراع الحضاري والثقافي الدائر بين الإسلام كدين ونظام للحياة والمجتمع وبين الأنظمة المادية، سواء في الشرق أو الغرب، التي جعلت تفكيك الاُسرة أو تهميش الروابط الاُسرية جزءاً لا يتجزء من صياغاتها النظرية وبرامجها العملية، مع ما تمتلكه هذه الأنظمة المادية اليوم من عناصر قوة تمكنها من الاختراق الثقافي للمجتمعات الإسلامية التي افتقدت منذ زمن عنصر المبادرة، بل افتقدت إلى حدٍ كبير القدرة على التحصن الثقافي ضد أي غزو أو اختراق من هذا النوع.
وإذا كان الإسلام يتمتع بقدراته الذاتية الفائقة بما يتوفر عليه من نظم شاملة ومتماسكة فإن المسلمين بحاجة دائماً إلى مزيد من الوعي الذي يرتفع بمعارفهم الإسلامية إلى مستوى الثقافة العملية المعاشة في الواقع، من أجل تقليل الفجوة بين واقعهم العملي وبين ما يستندون إليه من رصيد عقيدي وفكري اثبتت وتثبت تجارب الاُمم انه الرصيد الأكمل والأعظم، شمولاً وعمقاً وتماسكاً، من أي رصيد آخر تستند إليه أُمّة من أُمم الأرض.
فها نحن نشهد في عصرنا الحديث صرخات الكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع الغربيين وهي تتوجع من نظام تفكيك الاُسرة ومخلفاته السيئة على الفرد والمجتمع، مشفوعة باحصاءات علمية تؤكد دعواهم المستمرة إلى المحافظة على نظام الاُسرة وصيانة كيانها، بل قد ذاق المجتمع الغربي نفسه مرارة واقعه الاُسري المفكك فظهرت جمعيات خاصة لمقاومة اتجاه النساء إلى العمل خارج المنزل، واُخرى تدعو إلى العودة إلى الأديان السماوية وتعاليمها في شأن الاُسرة.. فيما خصصت احدى الحكومات الاسكندنافية أخيراً مكافئات مالية مغرية للآباء أيام الاجازات، ترغيباً لهم في أن يقضوا أوقاتاً أطول مع أبنائهم.
ولكن مهما بلغت هذه الصرخات من قوة وقدرة على التأثير فإنها ستبقى معالجات سطحية إذا ما قورنت بالنظام الاُسري في الإسلام الذي تتوزع أركانه على المجتمع والاُسرة والفرد، ليضمن تحقيق الاستعداد التام لتكوين الاُسرة السليمة، منذ مقدماتها الاُولى، متابعاً مراحل نشأتها وتكوينها ونموها، في ما هو اُسري بحت، وفي ما يتجاوز اطار الاُسرة إلى المجتمع. الأمر الذي يتطلب تحقيق المستوى الأفضل من الوعي برسالة هذا النظام والمعرفة بتفاصيله التي تنتظم في نسق متكامل لا يستغني فيه بعضها عن بعض.
من أجل ذلك كلّه تتبنى سلسلة « المعارف الإسلامية » التي يصدرها مركز الرسالة هذا الكتاب الذي يذهب بالقارىء إلى أوليات ما عني به الإسلام من آداب الاُسرة، وما وضعه من فقه خاص بها، آملين تحقيق النفع المطلوب والفائدة المرجوة.

والله من وراء القصد

مركز الرسالة

 

المقدِّمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الرسل والأنبياء محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبهم المنتجبين.
وبعد: الاُسرة هي اللبنة الاُولى لتكوين المجتمع، وهي نقطة الانطلاق في انشاء وتنشئة العنصر الإنساني، ونقطة البدء المؤثرة في جميع مرافق المجتمع ومراحل سيره الايجابية والسلبية، ولهذا أبدى الإسلام عناية خاصة بالاُسرة، فوضع لها آداباً وفقهاً متكاملاً شاملاً لجميع جوانبها النفسية والسلوكية.
وآداب الاُسرة، أو قل فقه الاُسرة لم ينشأ من فراغ ولا يبحث في فراغ، وإنّما هو فقه واقعي، يراعي الطبيعة البشرية بما فيها الفوارق الجسدية والنفسية بين الجنسين، ويراعي الحاجات الفطرية، فلا يبدلها ولا يعطلها ولا يحمّلها ما لا تطيق، وهو يتمثل بالدقة في تناول كل خالجة نفسية وكل موقف وكل حركة سلوكية، ويجعل العلاقات في داخل الاُسرة علاقات سكنٍ للروح وطمأنينةٍ للقلب وراحةٍ للجسد، علاقات ستر واحصان، ويهذب النفس للحيلولة دون استسلامها للاهواء والشهوات المتقلبة، ويحررها من نزعات المطامع والرغبات الزائلة.
إنّها الآداب المستمدة من النصوص القرآنية والحديث الشريف، والتي تواكب جميع المراحل التي تمرُّ بها الاُسرة قبل تشكيلها وبعده، فتضع لكلِّ مرحلة قواعدها الكلية والجزئية الشاملة لجوانب النفس وجوانب الحوادث والمواقف، فتحدد العلاقات بين الجنسين قبل الزواج وبعده، وقبل توسع الاُسرة بالانجاب وبعده، وتحدّد العلاقات داخل الاُسرة على ضوء المرسوم من الحقوق والواجبات القائمة على التكافل والتراحم والتناصح والسماحة والمودة والاحسان، وترسم للاُسرة طريقها في التعامل الاجتماعي، من أجل التكاتف والتآزر في بناء واصلاح كيانها والكيان الاجتماعي الكبير.
وبالتالي فهي ترفد الاُسرة بمنهج حياة واقعي يتتبع أهميتها وخصوصياتها وآمالها وآلامها وعلاقاتها، واضعةً الحلول اللازمة، وقايةً وعلاجاً. للخلافات المتأصلة أو الطارئة.
وفي بحثنا هذا نتابع آداب الاُسرة في جميع مراحلها، على فصول: نتناول في الفصل الأول: مقدمات تشكيل الاُسرة، واختيار شريك الحياة المناسب، وفي الفصل الثاني: الأحكام العملية لبناء الاُسرة ابتداءً بالعقد وانتهاءً بالولادة والحضانة، وفي الفصل الثالث: الحقوق الاُسرية، وفي الفصل الرابع: الخلافات الزوجية وأسلوب معالجتها إيجاباً وسلباً، وفي الفصل الخامس: علاقات الاُسرة بالمجتمع ابتداءً بالأرحام ومروراً بالجيران وانتهاءاً بالمجتمع الكبير، وأخيراً نتناول في الفصل السادس: أحكام عامّة للعلاقة بين الجنسين، وأحكام العلاقة بين المحارم وغيرهم. وسنقوم بمتابعة النصوص القرآنية والروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أهل بيته عليهم السلام، وآراء الفقهاء المتقدمين بالدرجة الاُولى، وآراء بعض الفقهاء المتأخرين، وقد اخترنا الآراء التي لا خلاف فيها؛ من خلال متابعة آراء أكبر عدد من الفقهاء المشهورين متقدمين كانوا أم متأخرين، واخترنا في الهامش المصدر الأوضح في الدلالة والصياغة العلمية والأدبية، وهو ليس ترجيحاً لرأي على آخر، وإنّما ترجيح لمصدر على آخر، وملاك الترجيح هو سهولة الاُسلوب وملائمته لجميع المستويات الثقافية، متجنبين استخدام العبارات الغامضة.

ومنه تعالى نستمد العون والتسديد.

 

الفصل الأول

مقدمات تشكيل الاُسرة

معنى الاُسرة:
الاُسرة لغةً:
أُسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون؛ لأنّه يتقوى بهم
[1].
والاُسرة: عشيرة الرجل وأهل بيته
[2].
والاُسرة: أهل الرجل وعشيرته، والجماعة يربطها أمر مشترك
[3].
والاُسرة: أهل بيت الإنسان وعشيرته، وأصل الاُسرة الدرع الحصينة، وأطلقت على أهل بيت الرجل؛ لأنّه يتقوى بهم
[4].
الاُسرة اصطلاحاً:
هي رابطة الزواج التي تصحبها ذُرّية
[5].
وهي: رابطة اجتماعية تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما، وتشمل الجدود والأحفاد وبعض الأقارب على أن يكونوا في معيشة واحدة
[6].
استحباب النكاح وأهميته:
النكاح هو الوسيلة الوحيدة لتشكيل الاُسرة، وهو الارتباط المشروع بين الرجل والمرأة، وهو طريق التناسل والحفاظ على الجنس البشري من الانقراض، وهو باب التواصل وسبب الأُلفة والمحبة، والمعونة على العفّة والفضيلة، فبه يتحصّن الجنسان من جميع ألوان الاضطراب النفسي، والانحراف الجنسي، ومن هنا كان استحبابه استحباباً مؤكدّاً، قال تعالى: (
وأنكحوا الأيامى مِنكُم والصالِحينَ من عِبادِكُم وإمائِكُم إن يكونُوا فُقراء يُغنِهم اللهُ مِن فَضلهِ واللهُ واسعٌ عليمٌ )[7].
ووردت روايات عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام تؤكد هذا الاستحباب، قال أمير المؤمنين عليه السلام: « تزوجوا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أحبَّ أن يتبع سنتي فإنَّ من سنتي التزويج »
[8].
وللزواج تأثيرات إيجابية على الرجل والمرأة وعلى المجتمع، فهو الوسيلة للانجاب وتكثير النسل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: « تناكحوا تكثّروا، فإنّي أُباهي بكم الاُمم، حتى بالسقط »
[9].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلاً، لعلَّ الله أن يرزقه نسمة، تثقل الأرض بلا إله إلاّ الله »
[10].
وهو ضمان لاحراز نصف الدين، لأنّه الحصن الواقي من جميع ألوان الانحراف والاضطراب العقلي والنفسي والعاطفي، فهو يقي الإنسان من الرذيلة والخطيئة، ويخلق أجواء الاستقرار في العقل والقلب والارادة، لينطلق الإنسان متعالياً عن قيود الأهواء والشهوات التي تكبّله وتشغله عن أداء دوره في الحياة وفي ارتقائه الروحي واسهامه في تحقيق الهدف الذي خُلق من أجله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من تزوج أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الباقي »
[11].
وقال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: « ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليهما الأعزب »
[12].
وعليه فإنّ استحباب النكاح موضع اتفاق بين المسلمين
[13].
ولأهمية النكاح جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المرتبة الثانية من مراتب الفوائد المعنوية، حيث قال: « ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله »
[14].
وهو باب من أبواب الرزق بأسبابه الطبيعية المقرونة بالرعاية الالهية، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « اتخذوا الأهل، فإنّه أرزق لكم »
[15].
كراهية العزوبة:
حكم الإسلام بكراهية العزوبة؛ لأنّها تؤدي إلى خلق الاضطراب العقلي والنفسي والسلوكي الناجم عن كبت الرغبات وقمع المشاعر، وتعطيل الحاجات الأساسية في الإنسان، سيّما الحاجة إلى الاشباع العاطفي والجنسي، والعزوبة تعطيل لسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال: « من سنتي التزويج، فمن رغب عن سنتي فليس مني »
[16].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « إنّ أراذل موتاكم العزاب »
[17]، وفي رواية: « شرار موتاكم العزاب »[18].
وقد أثبت الواقع أن العزاب أكثر عرضةً للانحراف من المتزوجين، فالمتزوج اضافة إلى إشباع حاجاته الأساسية، فإنّ ارتباطه بزوجة وأُسرة يقيّده بقيود تمنعه عن كثير من الممارسات السلبية، حفاظاً على سمعة أُسرته وسلامتها، مما يجعله أكثر صلاحاً وأداءً لمسؤوليته الفردية والاجتماعية.
وتزداد الكراهية حينما يعزب الإنسان عن الزواج مخافة الفقر، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: « من ترك التزويج مخافة الفقر، فقد أساء الظنّ بالله عزَّ وجلَّ »
[19].
ومن الحلول الوقتية التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للتخفيف من وطأة العزوبية أن أمر الشباب أمراً ارشادياً بالالتجاء إلى الصوم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: « يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباه فليتزوّج، ومن لم يستطع فَليُدمِنِ الصوم، فإنّ الصوم له وجاء »
[20].
هذا الحديث يجعل الزواج في مقابل الصوم كأحد الوسائل الرادعة لجميع أسباب الانحراف وتأثيراتها السلبية. فبالصوم يستطيع الشاب أن يهذب غرائزه، ويخفف من تأثيراتها السلبية، النفسية والعاطفية والسلوكية دون قمع أو كبت، إضافة إلى إدامة العلاقة مع الله تعالى التي تمنعه من كثير من ألوان الانحراف والانزلاق النفسي والسلوكي، وبالزواج أيضاً يستطيع أن يحقق عين الآثار المتمثلة بتهذيب السلوك ومقاومة أسباب الانحراف.
استحباب السعي في النكاح:
حث الإسلام على السعي في النكاح، والمساهمة في الترويج له وإقراره في الواقع بالجمع بين رجل وامرأة لتكوين اُسرة مسلمة، فمن يسعى فيه يعوضه الله تعالى عن سعيه في الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «... ومن عمل في تزويج بين مؤمنين حتى يجمع بينهما زوّجه الله عزَّ وجلَّ ألف امرأة من الحور العين.. »
[21].
قال الإمام الصادق عليه السلام: « أربعة ينظر الله إليهم يوم القيامة: من أقال نادماً، أو أغاث لهفان، أو أعتق نسمة، أو زوّج عزباً »
[22].
وقال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: « ثلاثة يستظلون بظل عرش الله يوم القيامة يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: رجل زوّج أخاه المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سرّاً »
[23].
وجعله الإمام علي عليه السلام من أفضل الشفاعات فقال: « أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع الله بينهما »
[24].
والروايات المتقدمة تحثّ الناس إلى السعي في الجمع بين الرجل والمرأة لتكوين أسرة مسلمة، فيستحب جميع ما يؤدي إلى ذلك، من السعي في الخطبة، أو بذل المال لتوفير مستلزمات الزواج أو التشجيع عليه أو غير ذلك.
استحباب الدعاء للنكاح:
الدعاء بنفسه من العبادات المستحبة، لذا حثّ الإسلام عليه في سائر شؤون الإنسان، ومن بينها النكاح، لتكون جميع أعمال الانسان متجهة إلى الله تعالى في سيرها، طلباً لمرضاته.
وقد أكدت الروايات على استحباب الدعاء لمن أراد النكاح، قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: « فإذا همّ بذلك فليصلِّ ركعتين ويحمد الله، ويقول: اللهمّ إني أُريد أن أتزوج، اللهمّ فاقدر لي من النساء أعفهنَّ فرجاً، وأحفظهنَّ لي في نفسها وفي مالي، وأوسعهنَّ رزقاً، وأعظمهنَّ بركة، وأقدر لي منها ولداً طيباً تجعله خلفاً صالحاً في حياتي وبعد موتي »
[25].
والله تعالى يجيب الإنسان إذا دعاه بقلب مخلص ونيّة صالحة، كما تظافرت على ذلك الآيات والروايات، وهو نعم العون في اختيار صالح الأعمال لعبده المؤمن المخلص، وخصوصاً في مثل هذه القضية المهمة التي تكون مقدمة لسعادته في الدنيا والآخرة.
اختيار الزوجة:
العلاقة الزوجية ليست علاقة طارئة أو صداقة مرحلية، وإنّما هي علاقة دائمة وشركة متواصلة للقيام بأعباء الحياة المادية والروحية، وهي أساس تكوين الاُسرة التي ترفد المجتمع بجيل المستقبل، وهي مفترق الطرق لتحقيق السعادة أو التعاسة للزوج وللزوجة وللأبناء وللمجتمع، لذا فينبغي على الرجل أن يختار من يضمن له سعادته في الدنيا والآخرة.
عن إبراهيم الكرخي قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: إنّ صاحبتي هلكت رحمها الله، وكانت لي موافقة وقد هممت أن أتزوج، فقال لي: « اُنظر أين تضع نفسك، ومن تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرّك، فإن كنت فاعلاً فبكراً تنسب إلى الخير وحسن الخلق، واعلم:

فمنهنَّ الغنيمة والغـــــرام

*

ألا إنّ النســـاء خلقن شتى

لصاحبه ومنهنَّ الظــــلام

*

ومنهنَّ الهـــلال إذا تجلّى

ومن يعثر فليس له انتقام »[26]

*

فمن يظفر بصــالحهنَّ يسعد


وراعى الإسلام في تعاليمه لاختيار الزوجة، الجانب الوراثي، والجانب الاجتماعي الذي عاشته ومدى انعكاسه على سلوكها وسيرتها.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين »
[27].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « تخيروا لنطفكم، فإنّ العرق دسّاس »
[28].
وروي أنّه جاء إليه رجل يستأمره في النكاح، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: « نعم انكح، وعليك بذوات الدين تربت يداك »
[29].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « من سعادة المرء الزوجة الصالحة »
[30].
فيستحب اختيار المرأة المتدينة، ذات الأصل الكريم، والجو الاُسري السليم
[31].
وبالاضافة إلى هذه الاُسس فقد دعا الإسلام إلى اختيار المرأة التي تتحلى بصفات ذاتية من كونها ودوداً ولوداً، طيبة الرائحة، وطيبة الكلام، موافقة، عاملة بالمعروف إنفاذاً وإمساكاً
[32].
وفضّل تقديم الولود على سائر الصفات الجمالية، قال صلى الله عليه وآله وسلم: « تزوجوا بكراً ولوداً، ولا تزوجوا حسناء جميلة عاقراً، فاني أُباهي بكم الاُمم يوم القيامة »
[33].
ولم يلغِ ملاحظة بعض صفات الجمال لاشباع حاجة الرجل في حبه للجمال، قال صلى الله عليه وآله وسلم: « إذا أراد أحدكم أن يتزوج، فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها، فان الشعر أحد الجمالين »
[34].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: « تزوجوا الأبكار، فانهنَّ أطيب شيء أفواهاً »
[35].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « أفضل نساء أمتي أصبحهنَّ وجهاً، وأقلهنَّ مهراً »
[36].
ويستحب أن تكون النية في الاختيار منصبّة على ذات الدين، فيكون اختيارها لدينها مقدّماً على اختيارها لمالها أو جمالها، لأنَّ الدين هو العون الحقيقي للانسان في حياته المادية والروحية، قال الامام جعفر الصادق عليه السلام: « إذا تزوج الرجل المرأة لمالها أو جمالها لم يرزق ذلك، فإنّ تزوجها لدينها رزقه الله عزَّ وجلَّ جمالها ومالها»
[37].
ويكره اختيار المرأة الحسناء المترعرعة في محيط أُسري سيء، والسيئة الخلق، والعقيم، وغير السديدة الرأي، وغير العفيفة، وغير العاقلة، والمجنونة
[38]، لأنّها تجعل الرجل في عناء مستمر تسلبه الهناء والراحة، وتخلق الأجواء الممهّدة لانحراف الاطفال عن طريق انتقال الصفات السيئة إليهم، ولقصورها عن التربية الصالحة.
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: « قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً، فقال: أيُّها الناس إياكم وخضراء الدمن. قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء »
[39].
وحذّر الإسلام من تزوج المرأة المشهورة بالزنا، قال الإمام الصادق عليه السلام: « لاتتزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا »
[40]، وذلك لأنّها تخلق في أبنائها الاستعداد لهذا العمل الطالح، إضافة إلى فقدان الثقة في العلاقات بينها وبين زوجها المتدين، إضافة إلى إنعكاسات انظار المجتمع السلبية اتجاه مثل هذه الاُسرة.
وكما نصح بتجنّب الزواج من الحمقاء لامكانية انتقال هذه الصفة إلى الاطفال، ولعدم قدرتها على التربية، وعلى الانسجام مع الزوج وبناء الاُسرة الهادئة والسعيدة، قال الامام علي عليه السلام: « إيّاكم وتزويج الحمقاء، فإنّ صحبتها بلاء، وولدها ضياع »
[41].
وكذا الحال في الزواج من المجنونة، فحينما سُئل الإمام الباقر عليه السلام عن ذلك أجاب: « لا، ولكن إن كانت عنده أمة مجنونة فلا بأس أن يطأها، ولايطلب ولدها »
[42].
اختيار الزوج:
الزوج هو شريك عمر الزوجة، وهو المسؤول عنها وعن تنشئة الأطفال وإعدادهم نفسياً وروحياً، وهو المسؤول عن توفير ما تحتاجه الاُسرة من حاجات مادية ومعنوية، لذا يستحبّ اختياره طبقاً للموازين الإسلامية، من أجل سلامة الزوجة والاُسرة من الناحية الخلقية والنفسية، لانعكاس صفاته وأخلاقه على جميع أفراد الاُسرة من خلال المعايشة، فله الدور الكبير في سعادة الاُسرة أو شقائها.
وعليه فقد أكدت الشريعة المقدسة على أن يكون الزوج مرضياً في خلقه ودينه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: « إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه »، وأردف صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بالنهي عن ردّ صاحب الخلق والدين فقال: « إنّكم إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير »
[43].
وأضاف الإمام محمد الجواد عليه السلام صفة الأمانة إلى التدين فقال: « من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته فزوّجوه، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير »
[44].
الكفاءة في الزوج:
كانت العرب لا تقدِّم شيئاً على عنصر الكفاءة في الرجل، والرجل الكفؤ عندهم، هو من كان ذا نسبٍ مناظر لنسب المرأة التي تقدَّم لخطوبتها، ولا يقدّم عندهم على النسب شيء، ومازال هذا الفهم سائداً لدن الكثير من المجتمعات، لا سيّما القبلية منها، أو التي احتفظت بعاداتها القبلية وإن تمدنت في الظاهر.
لكن الإسلام قدّم رؤيته للكفاءة في معناها الصحيح وإطارها السليم، المنسجم مع ميزان السماء: (
إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) مع الأخذ بنظر الاعتبار حقّ المرأة في العيش. فعرّف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرجل الكفؤ بقوله: « الكفوء أن يكون عفيفاً وعنده يسار »[45].
وقيل: إنّ الكفاءة المعتبرة في النكاح أمران: الإيمان واليسار بقدر مايقوم بأمرها والانفاق عليها، ولا يراعى ما وراء ذلك من الأنساب والصنائع، فلا بأس أن يتزوج أرباب الصنائع الدنيّة بأهل المروات والبيوتات
[46].
ويحرم رفض الرجل المتقدم للزواج المتصف بالدين والعفة والورع والأمانة واليسار، إذا كان حقير النسب
[47].
ولقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبدالمطلب، وإنّما زوّجه لتتّضع المناكح، وليتأسوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليعلموا أن أكرمهم عند الله أتقاهم »
[48].
ولملاحظة أن المرأة تتأثر بدين زوجها والتزامه بقدر تأثرها بأخلاقه وأدبه أكثر من تأثره هو بدينها وأدبها، قال الإمام الصادق عليه السلام: « تزوّجوا في الشكاك ولا تزوّجوهم، لأنّ المرأة تأخذ من أدب زوجها، ويقهرها على دينه »
[49].
ويكره للأب أن يزوّج ابنته من شارب الخمر، والمتظاهر بالفسق، والسيء السيرة
[50].
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « من شرب الخمر بعدما حرّمها الله على لساني، فليس بأهل أن يزوّج إذا خطب »
[51]؛ لأنّ شرب الخمر والادمان عليه يؤدي إلى خلق الاضطراب الاُسري والتفكك الاجتماعي في جميع ألوانه، إضافة إلى ذلك فإنّه عقاب لشارب الخمر ليكون ردعاً له.
وكما حذّر الإسلام من تزوج المرأة المشهورة بالزنا، فقد حذّر أيضاً من تزويج الرجل المعلن بالزنا، قال الإمام الصادق عليه السلام: « لا تتزوج المرأة المعلنة بالزنا، ولا يزوج المعلن بالزنا إلاّ بعد أن يعرف منهما التوبة »
[52].
الأحكام المتعلقة بالخطبة:
الخطبة تعني مبادرة الرجل لطلب الزواج من امرأةٍ، تبقى أجنبية عليه ما دام لم يعقد عليها عقد الزواج.
وهي بداية للتعارف عن قرب، يطلع من خلالها كل من الرجل والمرأة على خصوصيات الآخر، وخصوصاً ما يتعلق بالجانب الجسدي والجمالي، لذا جوّز الإسلام النظر في حدود مشروعة وقيود منسجمة مع قيمه وأُسسه في العلاقة بين الرجل والمرأة.
فيجوز للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة، ويرى يديها بارزة من الثوب، وينظر إليها ماشية في ثيابها
[53]، ويجوز لها كذلك، ولا يحلّ لهما ذلك من دون ارادة التزويج[54].
عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: « لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوجها »
[55].
وقال أيضاً: « لا بأس بأن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، ينظر إلى خلفها وإلى وجهها »
[56].
وله أيضاً جواز تكرار النظر، وأن ينظر إليها قائمة وماشية، وأن ينظر إلى شعرها ومحاسنها وجسدها من فوق الثياب
[57].
وقيّد الإمام الصادق عليه السلام ذلك بعدم التلذّذ، فحينما سُئل عن النظر إلى شعرها ومحاسنها قال عليه السلام: « لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذاً »
[58].
وخلاصة الأحكام المتعلقة بالخطبة هي جواز النظر بشرط إرادة التزويج، فمن لم ينوِ التزويج يكون نظره محرماً، ويشترط عدم التلذّذ لأنّه حرام بأيّ حال من الأحوال.



[1]  لسان العرب | ابن منظور 4 : 20 ، مادة أسر ، نشر أدب الحوزة ، قم 1405 هـ .

[2]  لسان العرب 4 : 20 .

[3]  المعجم الوجيز ، لمجمع اللغة العربية : 16 ، دار الثقافة ، قم 1411 هـ .

[4]  دائرة معارف القرن العشرين | محمد فريد وجدي 1 : 277 ، دار المعرفة ، بيروت .

[5]  علم الاجتماع | محمد عاطف : 92 .

[6]  الاُسرة والمجتمع | علي عبدالواحد وافي : 15 .

[7]  سورة النور : 24 | 32 .

[8]  الكافي 5 : 329 .

[9]  كتاب السرائر 2 : 518 .

[10]  من لا يحضره الفقيه 3 : 382 .

[11]  من لا يحضره الفقيه 3 : 383 .

[12]  تهذيب الاحكام 7 : 239 | 1 كتاب النكاح باب 22 .

[13]  كتاب السرائر 2 : 518 . وجامع المقاصد 12 : 8 .

[14]  تهذيب الاحكام 7 : 240 | 4 كتاب النكاح باب 22 .

[15]  من لا يحضره الفقيه 3 : 383 .

[16]  مستدرك الوسائل 14 : 152 .

[17]  من لا يحضره الفقيه 3 : 384 .

[18]  جامع المقاصد 12 : 9 . والمقنعة : 497 .

[19]  من لا يحضره الفقيه 3 : 385 .

[20]  المقنعة : 497 .

[21]  وسائل الشيعة 20 : 46 .

[22]  وسائل الشيعة 20 : 46 .

[23]  وسائل الشيعة 20 : 45 .

[24]  الكافي 5 : 331 .

[25]  تهذيب الاحكام 7 : 407 .

[26]  من لا يحضره الفقيه 3 : 386 ، وتهذيب الاحكام 7 : 401 .

[27]  تهذيب الاحكام 7 : 402 .

[28]  المحجة البيضاء ، الفيض الكاشاني 3 : 93 ، ط3 ، دار التعارف ، 1401 هـ .

[29]  تهذيب الاحكام 7 : 401 .

[30]  الكافي 5 : 327 .

[31]  اُنظر : الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 290 . والسرائر 2 : 559 . وجامع المقاصد 12 : 11 .

[32]  الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 290 . ونحوه في : جواهر الكلام 29 : 36 وما بعدها .

[33]  الكافي 5 : 333 .

[34]  من لايحضره الفقيه 3 : 388 .

[35]  الكافي 5 : 334 .

[36]  تهذيب الاحكام 7 : 404 .

[37]  من لا يحضره الفقيه 3 : 393 .

[38]  الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 290 .

[39]  تهذيب الأحكام 7 : 403 . وجواهر الكلام 29 : 37 .

[40]  مكارم الأخلاق ، الطبرسي : 305 ، منشورات الشريف الرضي ، قم 1410 هـ .

[41]  الكافي 5 : 354 .

[42]  وسائل الشيعة 20 : 85 .

[43]  تهذيب الأحكام 7 : 394 .

[44]  تهذيب الأحكام 7 : 396 .

[45]  الكافي 5 : 347 .

[46]  السرائر 2 : 557 . وجامع المقاصد 12 : 135 ـ 136 .

[47]  الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 290 ـ 291 . وجامع المقاصد 12 : 138 .

[48]  الكافي 5 : 344 .

[49]  الكافي 5 : 348 .

[50]  الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 291 . وجامع المقاصد 12 : 140 .

[51]  الكافي 5 : 348 .

[52]  تهذيب الاحكام 7 : 327 .

[53]  المقنعة : 520 : وجامع المقاصد 12 : 26 ـ 27 .

[54]  الكافي في الفقه : 296 . وجواهر الكلام 29 : 65 .

[55]  الكافي 5 : 365 .

[56]  المصدر السابق .

[57]  شرائع الإسلام 4 : 188 . وجواهر الكلام 29 : 66 ـ 67 .

[58]  الكافي 5 : 365 .

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست